خاص : دراسة بقلم – سعيد العليمي :
الاستشراق الأوروبي والحركات الثورية في التاريخ العربي الإسلامي
لقد ارتبط الاستشراق الحديث بمحاولات الاستعمار والإمبريالية للسيطرة على البلدان والأمم الشرقية، وكانت الدوافع العميقة وراء كثير من الأبحاث التاريخية تُبرير النزوع الأوروبي للسيطرة الاقتصادية والسياسية، ومن شواهد ذلك أن عددًا من أبرز المستشرقين قد عملوا في الأجهزة البيروقراطية الاستعمارية، وفي مجالات التدريس والتبشير الديني، ولذا ليس من المغالاة القول بأن الاستشراق في العصر الحديث كان بصفة أساسية جزءًا من النشاط الإيديولوجي في مرحلة الاستعمار الكولونيالي هدفه المحافظة على استغلال الشعوب الشرقية آنذاك. وقد تأثرت مناهج البحث وكذلك الفروص التاريخية بالغايات الكولونيالية. فمن الملاحظ مثلاً أن بعض هذه الكتابات الاستشراقية قد ركزت بشكل مغالى فيه على دور الدولة فى الأنظمة الشرقية وعلى غياب الملكية العقارية الخاصة، لتُعطى هذه الدولة الاستعمارية أو تلك تبريرًا للسيطرة على أرض المستعمرات بناءً على هذه الاستنادات التاريخية.
ويُشير “ماكسيم رودنسون” إلى أن الاستشراق قد تشرب بروح العصور الوسطى أو الإمبريالية، وأغرقه شعور نفعي بالتفوق الغربي يميل إلى إزداراء الحضارات الأخرى؛ بما يرتبط بذلك من نزعة مركزية أوروبية. كما جرى تضخيم لقوة تأثير الدين واللغة والعرق إلى حدٍ هائل (20). وجرى نقل العوامل السائدة في العالم الأوروبي المعاصر وتأكيدها، بمعنى آخر فقد تأثر الاستشراق الأوروبي بالإيديولوجيات التي سادت أوروبا، فعلى سبيل المثال قدم الكونت “دى غوبينو”؛ (أب العنصرية الحديثة، أول نظرية كبرى في تفسير المدلول الحقيقي للإلحاد الإسلامي، فقال أن التشيع يُمثل ردة فعل الفارسيين الأندو أوروبيين ضد سيطرة العرب، أي ضد سيطرة السامية على الإسلام.) (21).
ومن اللافت للنظر أن معظم المؤرخين البورجوازيين قد رددوا اتهامات مؤرخي العصور الوسطى بصدد انتفاضات الخارجين على الخلافة، وأغفلوا إغفالاً تامًا العنصر الجوهري وهو رؤية الطبيعة الاجتماعية للحركات الثورية وواقع الاستغلال الذي عانته طبقات المجتمع الدنيا. ويبدو أن التحولات الإيديولوجية التي اعترت فكر البورجوازية الأوروبية ذاتها قد حددت وعينت معالم مواقف مستشرقيها من الحركات الثورية في التاريخ. وهكذا وصفت الصراعات الطبقية بأنها صراعات عرقية أو دينية، وكان منطقيًا استنادًا إلى هذا النهج أن يُعد التشيع ردة فعل فارسية أندو أوروبية ضد السيطرة العربية السامية على الإسلام. وبدلاً عن المنهج التاريخي القائم على وعي الصراع الطبقي كما عبر عنه بعض مؤرخي البورجوازية مثل: “تيري ومينيه وغيزو”، حل مرة أخرى المفهوم المثالي أو اللاهوتي، سواء استند ذلك إلى ميل رومانسي إلى الشرق أو إلى تلك المقاربات الروحية التي لم ترى في الشرق إلا تاريخه الصوفي، وكان من شأن هذه النظريات إهمال التاريخ الاقتصادي الاجتماعي بصفة خاصة. وكيفما كان الأمر فلا شك بأن الموقف من انتفاضات الشرق التاريخية قد تأثر بواقع بروز الثورات العمالية الأوروبية في القرن التاسع عشر، وبـ”الثورة الروسية”؛ عام 1917، في بدايات هذا القرن. وقد كان هذا الواقع أحد المصادر الأساسية لتغلغل المفاهيم المعادية للطبقات الشعبية في الأعمال الاستشراقية الأوروبية.
وقد سادت كتابات المستشرقين مقولات الاستبداد الآسيوي، والركود الشرقي إلى حدٍ أن البعض قد اعتبر أن للشرق تاريخًا خاصًا متميزًا وأنه ذو حضارة أدنى من الغرب. وفي مواجهة المستشرقين الغربيين الذين رأوا أنه لم يكن ولن يكون للأمم الشرقية تاريخ بمعنى هذه الكلمة، أو أن أساليب البحث التاريخي غير قابلة للتطبيق عليها، أو أن الشرق يستقل بقوانين تُنظم حياته الاجتماعية والثقافية تتمايز عن تلك القوانين التي سادت في الغرب، نقول في مواجهة هؤلاء – خاصة حين سعى البعض مثل: “أرنست رينان”، لترويج فكرة خصووصية تاريخية سامية – تصدى المؤرخ العربي الفلسطيني؛ “بندلي جوزي”، مفندًا مثل هذه الآراء في كتابه: (من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام)؛ الصادر عام 1928، وربما كان هو أول من دافع – من الكُتاب العرب – عن فكرة وحدة قوانين التطور الاجتماعي، وتماثل المراحل التاريخية في الشرق والغرب على السواء، حيث كتب: “أن تاريخ الشرق وحياته الاجتماعية وعقلية شعوبه على الإطلاق والشعوب الأسلامية؛ تخضع لنفس النواميس والعوامل التي تخضع لها حياة وتاريخ الأمم الغربية، وأن أمم الشرق قد قطعت في حياتها الطويلة وستقطع ذات المراحل والأدوار الاجتماعية التي قطعتها الأمم الغربية” (22).
لقد كان الاستشراق الأوروبي – وخاصة البريطاني والفرنسي – أداة في يد السياسة الاستعمارية؛ هدفة رؤية الشرق وتكييفه وفق حاجات الهيمنة الغربية، وهو في كل الأحول قد تأثر بالمدارس الإيديولوجية الغربية على تفاوت انتماءاتها؛ وبالطبع فإن هذا الحكم التعميمي لا يستغرق كافة المستشرقين في كل الأحوال، ولا كافة الكتابات التي أنتجت عن الشرق. إن الحكم السابق يُشخص الوجهة العامة بصفة رئيسة. ويترتب على ذلك القول أن هناك الكثير من الجهود التي قام بها المستشرقين قد قدمت اسهامات إيجابية في إدراك وفهم التاريخ العربي الإسلامي، وخاصة في تحقيق عيونه، وأن أي باحث جدي معاصر لابد أن يبدأ من حيث انتهوا حتى وإن أتخذ إزاء أعمالهم موقفًا نقديًا.
وقد تناول عديد من المستشرقين (23)؛ “حركة القرامطة” وأصلها الإسماعيلي، ومنهم “سلفستردي ساسي”؛ فى كتابه: (عرض لديانة الدروز)، الصادر في عام 1838م. وقد اعتمد في دراسته عن الدعوة الإسماعيلية على: (نهاية الأرب)؛ لـ”النويري”، الذي استقى معلوماته من “ابن رزام”، ومن “أخو محسن بن العابد” العلوي الدمشقي. وكذلك على: (الفهرست)؛ لـ”ابن النديم”، و(الكامل)؛ لـ”ابن الأثير”، وعلى كتب “المقريزي”. وقد توجه لترجمة الروايات بصورة رئيسة. وهو يُجاري “النويري” و”المقريزي” في اعتبار “الإسماعيلية” حركة دينية سياسية قام بتنظيمها؛ “عبدالله بن ميمون القداح”، هدفها القضاء على سلطان العرب وعلى الدين الإسلامي لاستعادة المجد الإيراني القديم.
كما تابع المستشرق؛ “دوزي”، نفس النتائج التي توصل لها “دو ساسي”، وذلك في كتابيه: (مقالات في تاريخ الإسلام) و(تاريخ مسلمي إسبانيا). وقد تبنى مفهومًا تآمريًا للتاريخ؛ حيث اعتبر “الحركة القرمطية” الإسماعيلية نتاجًا لمطامح شخص واحد هو: “عبدالله بن ميمون القداح”، فقال عنه أنه أراد: “أن يجمع في هيئة واحدة بين الغالب والمغلوب، وأن يربط في جمعية سرية واحدة ذات مراتب متعدده بين أحرار الفكر الذين يرون في الدين وسيلة لضبط العامة، وبين المتعصبين من كل الطوائف. ليستغل المؤمنين لإيصال الملحدين إلى الحكم. وليستخدم الغالبين لإسقاط الإمبراطورية التي أنشأوها، وبتعبير آخر أراد أن يكون لنفسه حزبًا واسعًا مؤتلفًا مطيعًا، ينقل إليه – أو على الأقل لذويه – العرش عند سنوح الفرصة. هذه هي فكرة؛ عبدالله بن ميمون، الأساسية، وهي فكرة تظهر غريبة عجيبة؛ ولكنه نفذها بحذق مدهش ومهارة فذة وفهم عميق للقلب البشري” (24).
وقد تبنى “دي خويه”؛ المستشرق الهولندي، الأفكار والمنطلقات الأساسية التي عرضها كل من: “دو ساسي” و”دوزي”، حيث اعتبر أن “آل القداح” قد نظموا “الحركة الإسماعيلية” بسبب كرههم للعرب والإسلام تضافر مع طموح؛ “عبدالله بن ميمون القداح”؛ غير المحدود. وقد أضاف كتابه: (مذكرات عن قرامطة البحرين) جديدًا، خاصة فيما يتعلق بصلة الآخيرين بالفاطميين والعباسيين. إلا أنه لم يُقدم جديدًا عن “قرامطة العراق”؛ ولم ينتبه مع تبيانه لتدابير “حمدان” الاقتصادية في “مشاعة الألفة”؛ بـ”الكوفة”، للمعنى الاقتصادي الاجتماعي الذي حملته “الحركة الإسماعيلية” في أطورها الأولى.
أما “كازانوفا”؛ في بحثه عن العقيدة الإسماعيلية، والذي صُدر تحت عنوان: (المذهب السري لفاطميي مصر)، فقد صور “الحركة الإسماعيلية” باعتبارها حركة فلسفية مجردة، وغض الطرف عن ملابساتها المختلفة، اقتصادية اجتماعية أو سياسية.
ويمكن أن نقول بإيجاز أن معظم هؤلاء الكُتاب قد تبنوا موقف المؤرخين التقليديين من “حركة القرامطة” الإسماعيلية؛ الذي بدا كما لو كان لخلاف مذهبهم مع الإسلام. وفي الجملة ورغم الجهود الضخمة التي أبداها هؤلاء المستشرقين وغيرهم في إحياء المخطوطات الإسماعيلية والقيام بتحقيقها ودراستها، إلا أن مناهجهم في البحث ذات الطابع المثالي – بالمعنى الفلسفي التاريخي للكلمة – لم تكن تُقدم عرضًا واقعيًا للعلاقات الفعلية التاريخية. وركزت تركيزًا أحاديًا على جوانب بعينها لبت نوازع الباحثين الذاتية.
بيد أن هناك بعض الباحثين الذين انتبهوا للمغزى الاجتماعي لـ”الحركة القرمطية” الإسماعيلية ورفضوا الآراء التي صورتها كحركة عنصرية قومية. منهم على سبيل المثال المستشرق؛ “لوي ماسينيون”، ورغم رؤاه الصوفية للتاريخ. فقد أشار في مقالٍ له بـ (دائرة المعارف الإسلامية) تحت مادة “قرامطة” إلى الطابع الاجتماعي للحركة، وأعتبر أن لفظ: “القرامطة” قد: “أطلق على اتحادات العرب والأنباط الثورية التي نظمت في جنوب العراق بعد حرب الزنج؛ مستندة إلى نظام من الاشتراكية يتدرج في الدخول فيه، وأن الدعاية الإسماعيلية وسعت انتشار الحركة بين الجماهير من فلاحين وصناع” (25). كما تناول جانبًا من جوانب الموضوع في كتابه المشهور: (آلام الحلاج)؛ حيث أشار فيه إلى أن “الحركة القرمطية” هي التي اسهمت في إيجاد الطوائف الحرفية، وأنها: “كانت قبل كل شيء سلاحًا شهره الدعاة القرامطة في كفاحهم لجمع العمال في العالم الإسلامي؛ ولتكوين قوة منهم تستطيع قلب نظام الخلافة” (26).
ويمكن أن نُشير أيضًا إلى المستشرق البريطاني؛ “برنارد لويس”، في كتابه: (أصول الإسماعيلية)؛ حيث أدرك بوضوح مغزى الحركة الاجتماعي ورفض أيضًا تلك النظرات التي اعتبرت “حركة القرامطة الإسماعيلية” بمثابة حركة عنصرية قومية.
وننوه أخيرًا إلى تلك الجهود الضخمة التي بذلها المستشرق؛ “فلاديمير إيفانوف”، في دراساته لعقائد الإسماعيلية ولتاريخهم، غير أنه في أهم كتبه: (نشؤ الدولة الفاطمية)؛ لم يُعر الأسس الاقتصادية للحركة الإسماعيلية اهتمامًا، وأورد ما ذكره “بن رزام” عن تدابير “حمدان” الاقتصادية في “العراق”، كما أشار إلى ما ذكرة “ناصر خسرو”؛ فى تدابير “قرامطة البحرين” دون إضافة.
لقد أبدى المفكر الفرنسي والماركسي السابق؛ “روجيه غارودي”، رأيًا بشأن تجربة “القرامطة” التاريخية في كتابه: (ماركسية القرن العشرين)؛ حيث رأى أن من: “نزعة الماركسية العالمية أن تمد جذورها إلى ثقافة كل شعب، وأنه يمكن للمسلم المعاصر أن يصل إلى الاشتراكية العلمية بدءًا من منطلقات غير أوروبية، حيث كان له هو الآخر اشتراكيته الطوباوية ممثلة في حركة القرامطة، وكان له ميراثه العقلاني والجدلي ممثلاً في ابن رشد، وكان لديه مُبشر بالمادية التاريخية في شخص ابن خلدون. وهو على هذا التراث يستطيع أن يُقيم اشتراكيته العلمية دون حاجة إلى سُبل هيغل أوريكاردو أو سان سيمون” (27).
وقد ردد الكثير من الباحثين العرب قول؛ “غارودي”، في فترة كانت فيها الاشتراكية؛ القومية الطراز، القائمة على رأسمالية الدولة في إبان إزدهارها، وتلاقفه إيديولوجيو هذه الأنظمة ليؤكدوا على أن الخصوصية القومية تعني رفض الماركسية واستلهام الاشتراكية من تراثنا الخالد. والحال أن نظرية “غارودي” قد ولدت ميته، فهي لم تكن تُشكل استجابة لحاجة اجتماعية حقيقية، كما أنها لم تكن تعكس تيارًا فعليًا في الواقع ولا يُشفع لها كونها قد تلبست طابعًا عربيًا وإسلاميًا. فهذه “المنطلقات”؛ رغم قيمتها في زمنها التاريخي، إلا أنها لم تتصل ولم تستمر لا على الصعيد الاجتماعي ولا الفكري. وفضلاً عن الإنقطاع التاريخي، فلم تصل واقعيًا أي حركة في العالم العربي أو الإسلامي عامة إلى “الاشتراكية العلمية” عبر هذه المنطلقات. (28).
وفي إحدى محاضراته التي ألقاها بـ”مصر”؛ أشار “غارودي”، مرة أخرى؛ إلى النموذج القرمطي، حيث قال: “لقد شهدت الحضارة التجارية العظيمة في الإمبراطورية العربية الأشكال الأولى (للإشتراكية الطوباوية)، ويمكن القول أن أشكال الاشتراكية ذات الخاصية الإسلامية نشأت امتدادًا للنظام الضرائبي المعروف؛ (بالزكاة)، كما نشأت من مفهوم القرآن عن الملكية المبنية على العمل، فعلى سبيل المثال أنشأ (حمدان قرمط)؛ سنة 865م، في العراق؛ مذهبًا جديدًا منطلقًا من مبدأ الزكاة، فطالب أنصاره بأن يدفعوا ضريبة أخذت ترتفع باضطراد مبتدئًا بالصدقات الكبيرة، ثم بخُمس الثروة… وأخيرًا بكافة الممتلكات”. (29).
والملاحظ أن “غارودي”؛ في هذا الرأي، قد أولى الدعاية السياسية اهتمامه على حساب المضمون التاريخي للنموذج القرمطي، فلم يطرح الشروط التاريخية التي ولدته، ولا طبيعته الاجتماعية التي استمدت خصوصيتها من البيئة التاريخية التي أحتضنته. فكل الفكر الاشتراكي، ما قبل الماركسي؛ هو فكر طوباوي، ولكن الطوباوية التي تبدت في مذاهب ظهرت في ظل النظام العبودي تختلف عن المذاهب الطوباوية التي ظهرت في العهد الإقطاعي، كما يختلف الأخيران عن “الاشتراكية الطوباوية”؛ التي رافقت البدايات الأولى للرأسمالية. وإلا ما الفرق إذاً بين الشيوعية المسيحية البدائية، وبين الشيوعية الفلاحية فى “ألمانيا” القرون الوسطى، وبين الاشتراكية الطوباوية لـ”فورييه” و”سان سيمون” و”روبرت أوين” ؟.. وقد أفضى به الخطأ المنهجي أيضًا إلى اعتبار بعض مظاهر التجربة القرمطية قد نشأت عن مفهوم القرآن عن الملكية المبنية على العمل، أو على الزكاة. رغم أن القرآن لم يُكرس بشكل خاص مفهوم الملكية المبنية على العمل، ولا كان الأمر في الممارسة التاريخية كذلك. كما أن “مشاعة القرامطة”؛ بـ”الكوفة”، لم تكن بمثابة تطبيق لنظام الزكاة الإسلامي. فمجرد استعمال المقولات والمفاهيم الإسلامية؛ بمعناها اللغوي، لا يعني أن محتواها مرتبط بمعناها التاريخي الأصلي. وكيفما كان الأمر فقد تفادى “غارودي” التعرض لتجربة “القرامطة” في “البحرين”. وربما كان من المناسب أن نُشير إلى أن “غارودي” بعد إعتناقة الإسلام قد تخلى عن أطروحته حول هذا النمط من “الاشتراكية الإسلامية” المتصورة، وربما كل اشتراكية. (30).
وممن تعرضوا للمثال القرمطي – على نحو عرضي – المستشرق الفرنسي؛ “ماكسيم رودنسون”؛ في كتابه: (الإسلام والرأسمالية)، حيث كتب: “ولقد تبنت بعض الشيع الإسلامية في العصور الوسطى هذا الموقف المناهض للثروة، بعضها بتعابير من الصوفية والزهد، وبعضها بلهجة أقرب إلى النضال الثوري، على درجات متفاوته – بلا حصر، ولكنها ظلت ذات أثر محدود أو تخلت – في طريقها إلى السلطة – عن جوهر دعوتها على هذا الصعيد. فالطائفة الإسماعيلية مثلاً كانت شديدة المناهضة للثروات المكتسبة، ثم كانت لها السلطة مدى سنوات كثيرة في تونس ثم في مصر، فلم تتخذ أيه إجراءات تنتقص بها من هذا الحق. والقرامطة وحدهم، الذين يبدو أنهم فرع من تلك الطائفة هم الذين أقاموا في البحرين، حين استولوا على السلطة فيها، نظامًا تعاونيًا بين الأحرار (علمًا بأنه كان فى جمهورية القرامطة عدد كبير من الرقيق الأسود)، كان هذا النظام يقتضي فرض ضرائب باهظة على الأغنياء لتمويل بيت المال ونفقاته من أجل الفقراء…” (31).
ورغم أن “رودنسون” قد أكد على واقعة جديرة بالاعتبار في تقييم تجربة “القرامطة”، خاصة وجود عدد كبير من الرقيق في دولة “البحرين”، وهو أمر يتجاهلة عمدًا بعض الكُتاب والمؤرخين، إلا أنه لم يحفل بتفسير الظاهرة ذاتها، ولا بتفسير مراحل تطور الدعوة الإسماعيلية وأسباب تباين مواقفها لمناهضة الثروة قبل توليها السلطة وبعدها. ومهما يكن من شيء. فلم يكن كتاب “رودنسون” مخصصًا لبحث مثال “القرامطة”، وإنما أتت إشارته تلك عرضًا.