خاص : دراسة بقلم – سعيد العليمي :
مدخل – نظرة نقدية على مصادر البحث ومشكلاته
موقف مؤرخي العصور الوسطى من انتفاضات “القرامطة”..
لقد تناول مؤرخو العصور الوسطى انتفاضات “القرامطة” من زاوية فعالياتها الحربية في المقام الأول، ولم تحتو كتاباتهم؛ إلا في القليل النادر، على ما يكشف عن تنظيماتهم الاجتماعية وتدابيرهم الاقتصادية.
وخصص بعض من مؤرخي الفرق والمقالات الدينية قسمًا هامًا من كتاباتهم، إن لم يكن أحيانًا، بعض كتاباتهم كلها لتناول الجانب العقائدي المذهبي لـ”حركة القرامطة” بأصوله “الإسماعيلية الباطنية”، وخاصة تلك الأفكار التي اعتبروها بمثابة هرطقات إلحادية معادية للدين. وقد اتخذت هذه الكتابات في مُجملها؛ بغض النظر عن تصنيفها سواء كانت تاريخية أم تبحث في أصول وآراء الفرق، موقف العداء من “حركة القرامطة”، ربما باستثناء تلك الكتابات التي ظهرت ورافقت بداياتها، والتي لم تتخذ موقفًا معاديًا ومتعصبًا لأسباب يمكن ردها إلى أن الحركة كانت تمر بأطور تشكلها الأولى، ولم تكن قد دخلت بعد في صدام مباشر مع سلطة “الخلافة العباسية” من جانب؛ ولأنها لم تكن بعد ذات نفوذ قوي في التأثير على مستجيبي ومناصري فرق الشيعة المناهضة الأخرى – من جانب آخر. إلا أن المواقف المعادية لهؤلاء الكُتاب كانت تنزع إلى الاحتدام بقدر ما تُهدد حركة المنتفضين أسس النظام الاجتماعي ودعائمة المذهبية، وبقدر ما تحتدم الصراعات السياسية والعسكرية بين سلطة الخلافة وجيوش المنتفضين، وبصفه أخص بعد تأسيس “الخلافة الفاطمية” المناوئة في “شمال إفريقيا”؛ بـ”المغرب”، وفرعها في “اليمن”، ثم بعد إقامة “دولة القرامطة” في “البحرين”. وفي كل الأحوال كانت نغمة العداء تتزايد بمقدار بروز اتجاهات انقلابية تنتمي عمومًا إلى الأصل الإسماعيلي الأم، حتى ولو لم يكن لها أدنى صلة بـ”القرامطة”.
وقد اتهم غالبية مؤرخي العصور الوسطى؛ “حركة القرامطة”، بمثل ما اتهمت به – كل حركة ثورية معادية للنظام الاجتماعي: الاعتداء على الدين والدولة، والملكية، والأخلاق الفاضلة. ومن الظواهر المعتادة في تاريخنا العربي الإسلامي أن نجد هذه الاتهامات ذاتها توجه ضد كل خارج على الخلافة فردًا كان أو حركة.
يُشير “ابن خلدون” في: (المقدمة)، إلى أسباب الكذب في الخبر، أى أسباب ودوافع التحيز في البحث التاريخي مما يؤدي إلى تشويه الواقعة التاريخية على أيدي المؤرخين. فيقول أن الأسباب تعود إلى تشيع المؤرخين لآراء ومذاهب معينة أثرت في رؤيتهم، أو إلى أنهم كانوا يسعون إلى التقرب لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح، متطلعين إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة أو لأنهم وثقوا بالناقلين دون تمحيص؛ وأخيرًا ربما ذهلوا عن المقاصد وجهلوا تطبيق الأحوال على الوقائع (1).
وقد أجمل “طيب تيزيني”؛ مناهج مؤرخي العصور الوسطى فيما يلي: “فالبلاذري يرى التاريخ العربي الإسلامي؛ تاريخ النبلاء وأشراف العرب، والمسعودى يُصنف التاريخ ذاك على أساس من تسلسل الخلفاء والقواد، أما الطبرى فإنه يرى في التاريخ العام تاريخًا للأديان، وابن مسكويه أنطلق بدوره في فهمه وتحليله للتاريخ على أساس أخلاقي”. (2)
إن ما يجمع بين مناهج المؤرخين السابقين هي أنها تبنت مفهومًا لاهوتيًا أو مثاليًا للتاريخ؛ فقد أراد “الطبري على سبيل المثال أن يكون تاريخة تكملة لتفسيره الكبير للقرآن الكريم، ومن ثم تخللت تاريخه نظرة دينية ترى فيه صورة تُجلي الفعل الإلهي في شؤون البشر (3). وقد طبق علية ذات الأساليب المتبعة في علم الحديث، فالتاريخ بهذا المفهوم ليس إلا ضبطًا للروايات، وتوثيقًا للنصوص وبحثًا في الأسانيد، قبل أن يكون نظرًا في متن المنقول، وتأملاً فلسفيًا أو منهجيًا في مضمونة (4). وقد مارس منهج “الطبري” نفوذًا عظيمًا على كثير من المؤرخين الذين تلوه، حيث تأثر به “ابن الأثير”؛ صاحب (الكامل)؛ (توفي 630هـ)، و”ابن الجوزي”؛ صاحب (مرآة الزمان في تاريخ الأعيان)؛ (توفي 654هـ)، و”ابن الفداء”؛ صاحب (المختصر في أخبار البشر)؛ (توفي 732هـ)؛ و”ابن الكثير”؛ صاحب (البداية والنهاية)؛ (توفي 774هـ). ويمكن القول أن غالبية مؤرخي العصور الوسطى قد حصروا دراسة التاريخ في إطار ديني أو تعليمي بصفة رئيسة. فبعد أن كان التاريخ يتخذ المسوغ الديني سببًا لوجوده، أخذ بعدئذ يتعلل بسبب آخر وهو القيمة الأخلاقية لدراسته؛ (فما دام التاريخ مجرد فرع من فروع الأخلاق، لا علمًا من العلوم، فلا ينبغي أن يترددوا في تكييف ما يصفونه بالعِبر التاريخية حسب أغراضهم) (5). ومن ثم فإن “ابن مسكويه” قد استهدف إبراز القيم الأخلاقية في التاريخ بما يُرافقها بالطبع من أحكام تقويمية، وذلك في كتابه: (تجارب الأمم). وقد أورد “هاملتون جب” حكمًا ينطبق على غالبية مؤرخي العصور الوسطى؛ وهو أنه؛ لم يكن هناك معدى عن أن يصور عرضهم للأحداث تحيز طبقتهم وضيق نظرتها اجتماعيًا وسياسيًا ودينيًا (6). وهو الأمر الذي ينطبق بصفة خاصة على موقفهم من “الحركة البابكية” ومن انتفاضتي: “الزنج” و”القرامطة”.
لقد كان الجانب الاجتماعي في “حركة القرامطة”، خاصة في “الكوفة”؛ بـ”العراق”، و”بادية الشام” ثم في “البحرين” يُمثل رده فعل فلاحية، حرفية، بدوية قبلية، ذات مضمون اقتصادي اجتماعي ضد الاستغلال الإقطاعي في العصور الوسطى. وقد دأب المؤرخون القدامى ومن تابعهم من المحدثين على نفي طابعها الطبقي، وسعوا إلى تصويرها وكأنها حركة عنصرية طائفية قام بها “الفرس” واختصوا بها لدواع قومية شوفينية – أو لدوافع الحادية استهدفت إعادة مجد الدين المجوسي القديم.
وإذ كان معظم هؤلاء المؤرخين قد سعوا للتقرب من أصحاب التجلة والمراتب، وتطلعوا إلى الدنيا وأسبابها من جاه وثروة، وإذ شكلوا فئة طبقية تُساند فكريًا ومذهبيًا الطبقة السائدة، وإذ كانوا هم أنفسهم من المُلاك الذين عاشوا على الإقطاعات الخليفية وعلى الهِبات والعطايا، فقد كان هذا الواقع متسقًا مع مواقفهم الطبقية إزاء انتفاضات “القرامطة” وعقيدتهم المذهبية.
ولم يكن الأمر ليقتصر على أن هؤلاء الكُتاب كانوا يُروجون ما يُلاءم الطبقة السائدة فحسب، بل كانت أعمالهم الفكرية في بعض الأحيان استجابة مباشرة للأوامر الخليفية للتشهير بهذا الاتجاه أو ذاك، فقد صنف أحد شيوخ المعتزلة؛ وهو “علي بن سعيد الأصطخري”؛ لـ”القادر بالله العباسي”؛ (الرد على الباطنية)، فأجرى عليه “القادر” جراية سَنية وحبسها من بعده على بنيه، رغم أن المُصنف يُعد من (الخارجين) على السُنة والجماعة بصفته معتزليًا (7)، ومن المعروف أن “حجة الإسلام الغزالي” قد صنف مؤلفه: (فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية)؛ بناءً على طلب الخليفة “المستظهر” العباسي، وتقربًا إليه، حتى أن الداعي الإسماعيلي المطلق “عليًا بن الوليد” ذا الاتجاه الإسماعيلي قد علق على مرامي “الغزالي” من تصنيف مؤلفه وذلك في كتابه الموسوم: (دامغ الباطل وحتف المناضل)، قائلاً: “إن طلبه حقير حطام يكتسبة، وترويج سوق جاء يكدح في تقويمه ويطلبه” (8).
وقد اعتبر “البغدادي”، صاحب كتاب (الفرق بين الفِرق)، “حركة القرامطة” وأصلها الإسماعيلي أشد ضررًا على الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس: “بل أعظم من مضرة الدهرية وسائر أصناف الكفرة، بل أعظم من ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان” (9)، وكما لاحظ أحد الكُتاب العرب بحق أن: “أقصى اتهام توجهه سلطة أوتوقراطية لمارق هو الدهرية (الإلحاد)؛ فلماذا اعتبر الإسماعيلية أشد خطرًا من الملحدين؛ بل حتى من الدجال.. إذا لم يكن مشروعهم الثوري برمته لا إلحادهم وحسب، هو الذي يقض مضاجع الحكام وخدمهم من الفقهاء والمؤرخين. لقد وعوا أن التطرف الديني عند الشيعة الثورية يعكس تطرفها الاجتماعي” (10).
يتبين مما تقدم أن المؤرخين والفقهاء بصفة عامة، وبعد أن تجاوزت الحركة أطوار تكوينها الأولى، قد استهدفوا تشويه انتفاضات “القرامطة” وعقائدها المذهبية أمام جمهور الكادحين خشية أن تتحول إلى نموذج اجتماعي مُلهم لشعوب دولة الخلافة، فتجاهلوا طبيعتها الاجتماعية الاقتصادية وحقيقة تناقض أهدافها مع مصالح الإرستقراطية الإقطاعية، وصوروها كحركة إلحادية أقصى ما تهدف إليه هو التحرر من الشريعة، والإنغماس في الإباحية والإنحلال، والعودة للدين المجوسي، أو للتحرر من الأديان على الإطلاق.
ومن بين جملة الكتابات التاريخية والفقهية يمكن القول بأن المصادر السُنية كانت أشد ضراوة فى إظهار عداواتها لكل الانتفاضات ذات الطبيعة الاجتماعية التي ارتبطت بطبقات المجتمع الكادحة، وخاصة “القرامطة”، وقد كان التهجم عليها ودمغها بأفظع الأوصاف بمثابة دليل الولاء لسلطة الخلافة، ممن عاصروا هذه الانتفاضات؛ بل أيضًا ممن لم يُعاصروها. وربما كان من الصائب القول أن وجهات نظر الكُتاب المتأخرين كانت تعكس مخاوفهم في تلك الحقب التاريخية التي يعيشون فيها حين يجدون قدرًا من التماثل الظاهري أو الفعلي بين حركات اجتماعية ظهرت أيضًا في تلك الحقب التاريخية التي يكتبون حولها. وقد كان تشويه المنتفضين بمختلف أنواع التلفيقات والأكاذيب يُعتبر نوعًا من أنواع التقرب إلى الله تعالى.
وفي الواقع فإن إحدى المشكلات الأساسية التي تعترض الباحث أثناء دراسته لهذه الحركات الاجتماعية هي ندرة المصادر التي تُعبر عنها مباشرة بواسطة كُتابها أو المتعاطفين معها، مما لا يدع مجالاً من الناحية الأساسية سوى الاعتماد على المصادر المعادية. وهي بالطبع لا تُطابق الواقع التاريخي وتحتوي على إضافات غريبة منشؤها الميول الفكرية الطبقية المتحيزة، وهي تُمثل في أفضل الأحوال إجتزاء للوقائع التاريخية مضافًا إليها خليط من الأساطير والخرافات والتحيزات الدينية. ومن ثم فإن هذه الحركات الاجتماعية التاريخية إذ جاءتنا صورتها عبر وعي الكُتاب المعادين لها. فإن ما لدينا من صور تاريخية يُبين في الواقع مدى وعي هؤلاء الكُتاب بهذه الوقائع التاريخية أكثرمما يُبين الوقائع التاريخية ذاتها.
ولا شك أن اختبار الوقائع وتعليلها يرتبطان على نحو جدلي؛ حيث أن اختيار وقائع معينة يُبرر تعليلاً معينًا، كما أن تبني تعليل معين يقتضي اختيار وقائع معينة أيضًا. والمؤرخون القدامى قد انتقوا من مجمل الوقائع اللامتناهية تلك؛ الوقائع التي تخدم وجهة نظرهم بخلفيتها الاجتماعية والتاريخية المحددة. وكما يقول “إدوارد هاليت كار”، فقد جرى: “اختيار وتحديد الصورة التي وصلتنا بشكل مُسبق، وهذا لم يتم بشكل عرضي بقدر ما ساهم به الناس الذين تشربوا عن وعي أو بدون وعي بنظرة معينة وبفكر معين؛ الحقائق التي تدعم تلك النظرة التي تستحق الحفظ” (11)، وفي موضع آخر يقول بأنه: “ما من وثيقة بوسعها أن تخبرنا أكثر مما أراد لها محررها الشيء الذي أعتقد هو بأنه فكر به” (12). ومع ذلك فإن هذه المصاعب لا تنفي وجود حقيقة تاريخية موضوعية؛ وأنه يمكن بلوغها في مجال البحث التاريخي.
لقد ارتبطت الأبحاث التاريخية في المصادر التاريخية في المصادر السُنية؛ بشأن “حركة القرامطة”، بالتنامي التدريجي لمعارف الكُتاب عنها – هذا التنامي الذي أرتبط بتحولها إلى قوة مؤثرة على صعيد الدعوة والتنظيم، وبتطورها كقوة سياسية فعالة وخاصة بعد تأسيس “الدولة الفاطمية” في “المغرب”؛ وإقامة “دولة القرامطة” في “البحرين”. وقد قسم “برنارد لويس”؛ في كتابه: (أصول الإسماعيلية) (13)؛ مراحل تطور هذه المعارف إلى ثلاث، وقام بتصنيف المصادر وفق هذا التقسيم، وسوف نتبنى ذات التقسيم منوهين إلى أننا سنُشير إلى أهم المصادر فقط، خاصة تلك التي قدمت معلومات أصلية عن أي من جوانب هذه الحركة. وفق تقسييم “لويس” فإن المرحلة الأولى وهي الأقدم يُمثلها “الطبري”، وهو يرصد الفعاليات العلنية لـ”القرامطة” دون عقائدها المذهبية، عدا إشارات قليلة، غير أنه لم يُشر إلى تنظيمات “القرامطة” الاجتماعية وتدابيرهم الاقتصادية؛ خاصة مشاعة الألفة، التي أقاموها في “الكوفة”. وتبتديء الفترة التي أرخ لها “الطبري” في: (278هـ – 891م)؛ بأولى دعوات “القرامطة” في “العراق” وتنتهي في عام (294هـ – 106م) بالقضاء على انتفاضة “القرامطة” بـ”الشام”.
ووضع “عريب بن سعد القرطبي”؛ (توفي 370هـ – 980م)، ذيلاً لتاريخ “الطبري” ينتهي في: (320هـ – 932م). وقد تناول بصفة رئيسة فعاليات “قرامطة البحرين” العسكرية، مع إشارات موجزة لـ”قرامطة العراق” في هباتهم المتأخرة؛ كما بحث “الدعوة الفاطمية” في “إفريقية”، ولكنه كـ”الطبري”، لم يُدرك الصلة الفعلية بين “الدعوة الفاطمية” في “شمال إفريقيا” وبين “حركة القرامطة” في “العراق والشام والبحرين”. كما أن تكملة “الهمداني” لتاريخ “الطبري” لا تُضيف جديدًا. ينتمي لهذه المرحلة أيضًا المؤرخ “المسعودي”؛ (توفي 440هـ – 956م)، وفي كتابيه: (مروج الذهب) و(التنبيه والإشراف) يُغطي الفترة الممتدة حتى: (322هـ – 944م)، أي حتى وفاة “أبي طاهر”، ومعارفه عن “القرامطة” أحدث من معارف “الطبري”، وقد أطلع على كتاب “ابن رزام” وعرف مباديء “الباطنية”، وخاصة “نظام التأويل”، والفاطميين في “إفريقية واليمن”. ورغم نُدرة المعلومات التي يُقدمها “المسعودي” إلا أن لها أهميتها الخاصة؛ فتصانيفه تقوم على مشاهداته ومعايناته المباشرة استنادًا إلى تجربته الخاصة، وهو ما يُعطي كتاباته أهمية وحيوية استثنائية. ومما يؤسف له أن كتاباته المفصلة عن “القرامطة” لم تصل إلينا. ومعلوماته عن “القرامطة” مُستقاة مباشرة من محادثاته معهم؛ وخاصة بعض دعاتهم. وهو يُقدم رواية موضوعية لا تحامل فيها حتى حين يُشير إلى استيلاء “قرامطة البحرين” على ا”لحجر الأسود” من “الكعبة”.
ويُضيف “برنارد لويس” إلى هذه المرحلة أيضًا؛ المؤرخ “حمزة الأصفهاني”؛ صاحب كتاب (سنى ملوك الأرض والأنبياء)، وقد اقتصر حسبما أشار إلى تناول أعمال “القرامطة” العسكرية، ولم يتناول عقائدهم المذهبية ولا صلاتهم بغيرهم، وترجع أهميته إلى تصويره الأزمة الاقتصادية الاجتماعية في دولة الخلافة بما رافقها من فتن وهبات وحروب، خاصة بعرضه النزاع الطبقي الحاد بين الخاصة والعامة، والكتاب يُساعد على فهم المناخ الذي انتعشت فيه “حركة القرامطة” الثورية.
اما المرحلة الثانية؛ فيُمثلها؛ “ثابت بن سنان الصابي”؛ في كتابه: (تاريخ أخبار القرامطة)؛ (توفي 365هـ – 974م)، وهو تاريخ “القرامطة” في “العراق والشام والبحرين” منذ ظهورهم حتى وفاته. وقد تناول تفصيلاً حروب “القرامطة” مع “المعز لدين الله الفاطمي”. والكتاب يُمثل مرحلة متقدمة بالقياس إلى “الطبري”، وقد أدرك العلاقة بين “القرامطة” و”الفاطميين” في “إفريقية”، وإن لم يذكر شيئًا عن عقيدتهم، وهو لا يعرف شيئًا عنهم في أطوار الحركة الأولى. ويتبع “مسكويه” في كتابه: (تجارب الأمم)؛ وكذلك “ابن الأثير” في: (الكامل) تاريخ “ثابت” – الذى كان صابئًا وهو يتبنى وجهة نظر معادية لـ”القرامطة”؛ شأنه شأن السُنة.
وفي المرحلة الثالثة؛ بلغ العالم السُنى معلومات مفصلة عن الفرقة وعقائدها الإسماعيلية، وخاصة عن بداياتها التاريخية في طور دعوتها السرية الأولى وقبل شيوعها. ويعتبر “برنارد لويس” أن أقدم كاتب معروف في هذه المرحلة هو: “أبوعبدالله بن رزام”، الذي عاش – تقريبًا في أوائل القرن الرابع الهجري. وقد فُقد كتاب “ابن رزام” إلا أن بحثه عن “القرامطة” محفوظ في بعض الكتب التاريخية، وهو يُعين بداية اتجاه جديد في تناول “حركة القرامطة”. ومن بين جملة المؤرخين الذين تابعوه وانتهجوا طريقته في تناوله لـ”القرامطة”، “نظام الملك” و”ابن شداد” و”أبوالفداء” و”رشيد الدين”.
وقد اعتمد “أخو محسن”؛ وهو علوي معاصر لـ”المعز لدين الله الفاطمي”، على رواية “ابن رزام”؛ وذلك وفقًا لما أنبأنا به “المقريزي”. ورغم أن الأخير لا يوثق ما كتباه إلا أنه يعتمد عليهما دون الإشارة إليهما؛ وذلك في مؤلفيه: (الخطط) وفي (إتعاظ الحُنفا). وقد أحتفظ “المقريزي” بنص “أخو محسن”، فذكر ما يتعلق بالعقيدة منه في (الخطط)، والجانب التاريخي في (المقفي) وأجملهما في (الإتعاظ). أما “النويري”؛ (توفى 732هـ – 1331م)، فقد أورد النص بصورة أفضل في موسوعته الأدبية التاريخية: (نهاية الآرب). ويتابع “ابن النديم” في: (الفهرست) الرواية عن “ابن رزام”. وجدير بالذكر أن “المسعودي” قد تحدث عن كتاب “ابن رزام” عن “القرامطة” بإزدراء، ولعله من الأمور ذات المغزى أن نُشير إلى أن “ابن رزام” – توفي حوالي: 365هـ – قد كان صاحب ديوان المظالم بـ”بغداد”.
وتنبع أهمية كتاب “ابن رزام” – من زاوية موضوع هذه الدراسة – من أنه قد صور لنا “مجتمع الألفة المشاعي” الذي أقامة “القرامطة”؛ بـ”الكوفة”، وبين طبيعة التدابير الاجتماعية والاقتصادية التي أتخذوها، وهو المصدر الوحيد – فيما أعلم – الذي تحدث بمثل هذا التفصيل عن هذه التدابير.
ويميل “ب. لويس” إلى الإعتقاد بأن ما عُثر عليه من وثائق “إسماعيلية” تميل عمومًا إلى تأييد ما جاء عند “ابن رزام” بصدد الجوانب العقائدية، مثل صيغة القسم الذي يؤدية الملتحق بالدعوة، وكذلك بعض المفاهيم الأخرى، عدا ما ذكرة عن مراتب الانتماء التسع؛ والتي يتبناها عديد من المؤرخين.
ويُضيف “لويس” أنه بظهور كتاب “ابن رزام” ابتدأ يُروج في كتابات السُنة التاريخية اسم: “ميمون القداح”؛ وابنه “عبدالله”، وربطت أصول “الحركة الفاطمية” بهما، وتأكدت الصلة بين “الفاطميين” و”القرامطة”. وبدأ التشكيك في نسب الخلفاء الفاطميين.
ويمكن القول بأن كتاب “ابن رزام” شكل معينًا لا ينضب للكتابات المعادية؛ بسبب تعصبه الضاري ضد “الفاطميين” و”القرامطة”.
وقد احتل “الفكر الإسماعيلي” مكانة رئيسة في كتابات السُنة الدينية؛ خاصة تلك الكتب التي تتناول المقالات والفِرق، ففضلاً عن أن هذا الفكر قد تم تبنيه من قِبل حركة اجتماعية ذات طابع انقلابي فقد كانت خصوصيتة – من وجهة نظر السُنة – كفكر هرطقي إلحادي يُزعزع الأساس الديني لسلطة الخلافة – هي التي دعت إلى إيلاءه هذه المكانة. وهذه الكتابات إذ تُقدم عقائد “الإسماعيلية” بشكل مشوه يختلط فيه التعصب بسؤ الفهم، فإنها تُشير في حدها الأدنى إلى مدى وعن هؤلاء الفقهاء المتحاملين بهذا الفكر.
وأقدم التصنيفات عن الفِرق الإسلامية؛ هو: (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين)، لـ”أبي الحسن الأشعري”؛ (المتوفي في 321هـ – 933م)، وهو يتميز بالاعتدال الشديد في تناوله لـ”الإسماعيلية الباطنية”. أما (الفرق بين الفِرق)؛ لصاحبه “أبي منصور عبدالقادر بن طاهر البغدادي”؛ (المتوفي في 429هـ – 1037م)، فهو يعرض لـ”الإسماعيلية” بمنهج متعصب وضارِ العداء لهم، ويبدو أنه اعتمد على “ابن رزام” بصفة أساسية. وقد تناولت “الباطنية الإسماعيلية” تلك الكتب التي عالجت المِلل والنِحل وشكلت أصول علم الأديان المقارن، مثل كتاب: (الفصل بين المِلل والنِحل)؛ لـ”ابن حزم”، (المتوفي في 459هـ – 1064م)، وهو يتبنى نظرة ضيقة متعصبة أيضًا، وإن كان كتابه يُعد أول تاريخ إسلامي للأديان؛ وفقًا لـ”برنارد لويس”. وكذلك: (المِلل والنِحل)؛ لـ”الشهر ستاني”؛ (المتوفي 548هـ – 1053م)، وقد تميز الأخير بنظرة مستنيره للفِرق المخالفة. ومعظم الكتابات السابقة تكاد تقتصر على تناول الجوانب المذهبية العقيدية وليس فيها من المعلومات التاريخية إلا القليل، وقيمتها الرئيسة؛ كما يرى “لويس”، هي أنها لا تقتصر على وصف “الحركة الإسماعيلية”، بل تشمل كل الفِرق الشيعية الغالبة التي انبعثت “الإسماعيلية” منها.