خاص : بقلم – عدة بن عطية الحاج (ابن الريف) :
يقوم الحبّ على صرح المودّة، وهو يجمع بين قلبين تعارفا على هامش مسرح الحياة وخاضا معًا مغامرة الحبّ وهو حبّ محفوف بالورود وبالأشواك في نفس الوقت، من عرف الحبّ عرف صفاء القلب ونقاء السريرة وطهارة الروح، من عرف الحبّ عرف سرّ الحياة وسرّ الموت وأحاط علمًا بألغاز الوجود، فأمّنا حوّاء خرجت من ضلع آدم الأيسر يعني أنّها خرجت من قلبه ومن حشاشة صدره الحالم بامرأة جميلة تؤنسه في وحدته، كان في جنّة ولكنّها جنّة ليس فيها الطرف الآخر، الذي يجعل الرجل يعيش في جنّته الموعودة وهي جنّة القلوب التي فيها ما لا عين رأت ولا أذنٍ سمعت ولا خطر على قلب متيّم هائم في بيداء الهيام والغرام، منذ عرف الإنسان الحبّ على ظهر هذه البسيطة، استطاع أن يعيش حياة وردية مخملية تطوف في أرجاءها حمائم الهوى الوديعة.
إنّ الحبّ أوّله ختل وآخره قتل، لأنّه يخطف القلوب من أكنانها ويجعلها تحت أقدام القدر الذي لا يرحم، من سار على درب الحبّ وصل إلى شاطيء الضياع الذي لا قرار له، فالحبّ يُرسل أشعته الحمراء الفوق بنفسجية إلى الأعين التي لا تُبصر إلاّ في ظلام العدم، قام الحبّ على التضحية من أجل الطرف الآخر الذي فقد بوصلة المشاعر وفقد بريق الأمل وطفق يبحث عن السعادة في محيط عميق لا تحدّه حدود ولا تطوّقه القيود، من عرف حقيقة الحبّ عرف حقيقة الروح التي أمتزجت بهذا الجسد الترابي الذي آثر أن يعيش في روضة الصبابة الغنّاء تحلّق فيها فراشات الشوق التي آثرت التجوال من زهرة ذابلة آيلة إلى العدم إلى زهرة غضّة فتية نضرة حالمة بالوجود.
دخلنا “جمهورية أفلاطون” المثالية وهذا لكي نبحث عن الحبّ المثالي الذي يجعل الروح تعود إلى عالمها العلوي المتسامي ولا ترجع القهقرى إلى عالمنا هذا الترابي، فالحبّ الأفلاطوني المثالي هو حبّ طاهر نقيّ معدنه نفيس يجمع الأرواح الطاهرة في بوتقة واحدة ويجعلها تنصهر في روح كليّة مطلقة هي روح الأرواح، أقام “أفلاطون” صنم الحبّ في معابد القلوب وقدّم له القرابين الروحية وصار يحجّ إليه كلّما داهمته الخطوب، فالحبّ الأفلاطوني هو حبّ مثالي يمتح من معين الخيال ويتغذى من رحيق الأحلام، ويسبح في لجج الهوى المتلاطمة، لقد كفر “أفلاطون” بآلهة الحبّ الأسطورية “عشتروت” وكفر بأدونيسها، لأنّ “عشتروت” آلهة أنانية منحت قلبها لـ”أدونيس” فقط، إنّها آلهة مغرورة جعلت الحبّ دمية في يديها تحرّك خيوطها كيفما تشاء، لقد حطّم “أفلاطون” صنم “عشتروت” ودكّ معبده على رؤوس الوالهين بها، فالحبّ ليس أسطورة بابلية وليس خرافة آثينية تتناقلها الألسن من جيل إلى جيل، بل هو حقيقة أفلاطونية جاءت من عالم المثال لكي تكلّل صرح المحبة بالتيجان والورود المخملية بياضها ناصع مشرب بحمرة قانية، جاء “أفلاطون” لكي يُعقلن الحبّ ويجعله حبًّا نخبويًا أرستقراطيًا يجمع بين الأمراء والأميرات وبين الأدباء والأديبات وبين الشعراء والشاعرات، إنّه حبّ من الدرجة الأولى لا يضاهيه إلاّ ذلك الحبّ السماوي الذي كان بين آدم وحوّاء، إنّه حبّ نادر كأنّه الكبريت الأحمر الذي لا تكاد تراه الأعين وتناله الأيدي، إنّه حبّ ناعم يكاد ينام في العسل النصوح.
أضفى “ابن حزم” على الحبّ الأفلاطوني المثالي مسحة أندلسية، جعلت هذا الحبّ يرتدي رداءً عربيًّا إسلاميًّا، صار هذا الحبّ الأفلاطوني تُقيّده قيود الشريعة، لذلك يجب عليه ألاّ يتخطّى الخطوط الحمراء ولا يتعدّاها، يجب عليه أن يحترم القوانين التي وضعها سدنة معبد الحبّ الأفلاطوني المثالي، كان “ابن حزم” يُريد من خلال كتابه: (طوق الحمامة في الألفة والألاّف) أن يُعقلن ذلك الحبّ المثالي الأفلاطوني ويجعله حبًّا طاهرًا عفيفًا عذريًّا، بل جعله يهرب من “أثينا” الغربية ويحطّ الرحال في قبيلة “عذرة” العربية، حاول “ابن حزم” أسلمة وعوربة الحبّ المثالي الأفلاطوني، فـ”أفلاطون” نزع عن هذا الحب طابعه الأسطوري وأضفى عليه فلسفته المثالية الحالمة، أمّا “ابن حزم” فطوّق هذا الحبّ بطوق العروبة والإسلام، وأضفى على هذا الحبّ مسحة حضارية طغت على تلك المسحة البدوية التي عرف بها الحبّ العذريّ في “شبه الجزيرة العربية”، كان الحبّ في العصر الأندلسي يمتاز بالنخوة والشجاعة والتضحية والفداء، لا تشوبه شائبة الإباحيّة، بل كان حبًّا ساميًّا نخبويًّا يجمع بين علية القوم، وخير مثال على ذلك هو ذلك الحبّ الذي جمع بين “ابن زيدون”؛ الوزير الشاعر، وبين “ولاّدة بنت المستكفي بالله”، وهي شاعرة وأميرة، ولكنّ شعرها لم يصل إلينا للأسف الشديد إلاّ ما ندر منه وهو مبثوث في بطون الكتب الأدبية والتاريخية التي تناولت موضوعات الشعر والأدب في عصر الأندلس فردوسنا المفقود للأسف الشديد.
وخلاصة القول ونافلته هو أنّه يجب علينا أن نلوذ بحمى الحبّ الطاهر العفيف ونطوف على كعبته، ونساهم في إقامة صرحه على أساس متين لا تهزّه رياح الغرور والأنانية والنرجسية المفرطة، علينا أن نُلبي نداء الضمير الحي الكامن في القلوب الطاهرة التي تُريد أن تبثّ روح المحبة في أرجاء المعمورة بقضّها وقضيضها، نحن نُريد من طائر الحبّ أن يُحلّق فوق رؤوسنا ولا يرحل عنّا بعيدًا إلى جزيرة بعيدة تسكنها عفاريت الكراهية وشياطين الحقد والضغينة، نُريد من حبّنا الطاهر العفيف أن ترسو سفينته على شاطيء قلوبنا العصفورية الروح، سنظلّ نناضل من أجل نشر المحبة وزرعها في حقول الإنسانية البهيجة وبالتالي تسعد الإنسانية وتقيم الأفراح والليالي الملاح في مدن السعادة الوردية المخملية، سنسعى إلى إقامة مجد المحبة وزرعها في هيكل روح الإنسانية المقدّسة التي لا تشوبها شوائب المكر والخديعة، سنعرّج على مدن الحبّ الواحدة تلو الأخرى وسنقدّم أكاليل الزهور والورود إلى كلّ بطل وبطلة ساهما في قهر شيطان الحبّ الكامن في النفوس الظامئة إلى معين الهوى الصافي الذي لا تكدّره دلاء الوعود الكاذبة وسنطرد طيور التشفي التي تحوم حول جثث شهداء الغرام الأفلاطوني المثالي الأندلسي، فشهيد الحبّ كما يتصوّره شيخ الإسلام “ابن تيمية”؛ هو كلّ إنسان أحبّ فتاة وكتم هذا الحبّ إلى أن تجاوز هذه الفانية، وذهب إلى هناك حيث المحبة المطلقة، هناك تلتقي الأرواح الحالمة بالسعادة السرمدية وتغنّي أغنية الخلود الأبديّ والتي لحنّها مايسترو الهوى الطاهر العفيف.