وكالات – كتابات :
أعلنت “روسيا”؛ يوم 23 آذار/مارس الماضي، أنها لن تقبل استمرار بيع غازها للدول: “غير الصديقة”؛ بـ”الدولار” أو بـ”اليورو”، ولن تبيعه إلا بـ”الروبل”. ووضعت قرارها موضع التنفيذ ابتداءً من اليوم الأول من نيسان/إبريل 2022، بما في ذلك أنها ابتداءً من هذا التاريخ ستُغلق حنفية “الغاز” على من لا يقبل الدفع بـ”الروبل”.. فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لـ”روسيا” و”أوروبا” والعالم ككل ؟..
هذا ما حاول الباحث الاقتصادي؛ “مهند دليقان”، تحليله ورصد تبعاته في مقالات علمية؛ أراد خلالها المرور على عدة مستويات في فهم معنى وأبعاد التحول الجاري، “والذي نعتقد أن مسألة تسعير الغاز بالروبل وعلى أهميتها، ليست أكثر من مدخل أولي ورمزٍ لعمليات التحول القادمة…”؛ بحسب الباحث في دراسته التي نشرها موقع (قاسيون)؛ موضحًا: وفي هذه المقالة سنقف عند أحد الأمور الأكثر وضوحًا ومباشرة بما يخص هذه المسألة؛ وهي التأثير المتبادل بين “العقوبات” و”سعر الصرف” و”الغاز-روبل”…
العقوبات والتأثير على “الروبل”..
يوضح الشكلان التاليان تغيرات سعر صرف كل من “الدولار” و”اليورو” على التتالي؛ مقابل “الروبل”، وذلك خلال الفترة من 20 شباط/فبراير الماضي، وحتى الأول من نيسان/إبريل، أي خلال حوالي: 40 يومًا.
يُضيف “دليقان”: قبل إنطلاق “العملية العسكرية الخاصة” الروسية في “أوكرانيا”، يوم 24 شباط/فبراير الماضي، كان سعر صرف “الروبل”، مقابل كل من “الدولار” و”اليورو”؛ هو بحدود: (1 دولار=75 روبل، 1 يورو=86 روبل).
في اليوم التالي مباشرة لبدء العملية، بدأت “العقوبات الغربية”، التي وصلت خلال أسبوعين إلى مستوى غير مسبوق إطلاقًا. انعكس ذلك مباشرة في سعر صرف “الروبل”؛ حيث انخفض إلى مستويات قياسية يومي: 08 و09 آذار/مارس؛ (الدولار وصل إلى حدود: 150 روبل، واليورو إلى حوالي: 163 روبل)، أي أنّ “الروبل”، كان قد خسر عمليًا نصف قيمته خلال أسبوعين.
بعد استيعاب الصدمة الأولية لإنهيار سعر الصرف، بدأت جملة من القرارات المتعلقة بـ”البنك المركزي الروسي”، وبحركة العُملات الصعبة من وإلى “روسيا”، وبدأت هذه الإجراءات تفعل فعلها بشكل تدريجي؛ يوضحه التحسن التدريجي لسعر صرف “الروبل”، ابتداءً من يوم 10 آذار/مارس، وحتى يوم 22 آذار/مارس.
وابتداءً من يوم 23 آذار/مارس – يكمل “دليقان” -، أي يوم الإعلان عن قرار “روسيا” بيع غازها بـ”الروبل” حصرًا، بدأت عملية تحسن سريع لـ”الروبل”، وكانت عاصفة مع افتتاح أسواق؛ يوم الإثنين 28 آذار/مارس 2022. ويمكن أن نرى اليوم أنّ سعر صرف “الروبل”؛ مقابل “الدولار” و”اليورو”، قد عاد تقريبًا إلى القيم نفسها التي كان عليها قبل بدء العاصفة الأوكرانية.
مسار جديد للعقوبات..
موضحًا: ما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار جديًا، واستنادًا إلى مجرد التوصيف الشكلي لمسار سعر صرف “الروبل”؛ خلال 40 يومًا الماضية، هو أننا أمام مسارٍ جديد بالمعنى التاريخي لكيفية تأثير “العقوبات الغربية”؛ فالنظر إلى التجارب السابقة للعقوبات، على كل من: “إيران وكوبا وسوريا والعراق والسودان وليبيا ولبنان” وغيرها وغيرها، وحتى على “روسيا” نفسها؛ فيما مضى، وخاصة ابتداءً من 2014، يظهر أن إحدى النتائج المشتركة لكل هذه العقوبات، والتي بات يتم التعامل معها على أنها قانون وعلى أنها قدر لا رادً له، هي أنّ سعر صرف عُملة الدولة المستهدفة يهوي وينحدر يومًا وراء الآخر وسنة بعد أخرى، ويترافق ذلك بطبيعة الحال بتدهور الوضع المعيشي للسواد الأعظم من سكان البلد المُعاقب، وكذلك بفقدان سلع أساسية وبصعوبات كبرى وأوضاع مأساوية… (لا يمكنني في يومٍ من الأيام أن أنسى التباهي المتعجرف والوقح لـ”غويل ريبورن”، المبعوث الأميركي الخاص السابق لسوريا، في جنيف عام 2019، وهو يظهر لمحدثيه على هاتفه تطبيقًا يتابع من خلاله سعر صرف الليرة السورية ويُعبر عن فرحه العارم بتأثير العقوبات الأميركية في تدمير الليرة السورية).
يقول الباحث: بعد هذا المسار خلال كامل النصف الثاني من القرن العشرين وفوقه عقدين من القرن الحالي، فإننا اليوم أمام واقع جديد؛ ضمن هذا الواقع، تستطيع الدولة المُعاقبة أن تستعيد قيمة عُملتها خلال أقل من شهر واحدٍ عمليًا.. بما في ذلك أن أسعار السلع الأساسية كلها في “روسيا”، وإن كانت قد ارتفعت ضمن حدود: 10% إلى: 15%، خلال فترة انحدار قيمة “الروبل”، فإنّ تلك الارتفاعات قد بدأت بالتراجع، وبدأت الأسعار بالعودة إلى مستوياتها السابقة، ناهيك عن أنّ المعلومات تقول اليوم إنّ “البنزين” في المحطات؛ في “روسيا”، يُباع بأسعار أقل: بـ 10% مما كانت عليه قبل شهرين !
هذا ولم نتكلم بعد عن الأضرار التي وقعت على “الدول المعاقِبة”، أي على “الولايات المتحدة” و”أوروبا” خاصة؛ على حد تعبير الباحث الاقتصادي.
كل ذلك، يدعونا إلى التفكير أبعد وأعمق؛ فالتحولات التي تجري ليست اعتيادية إطلاقًا، وهذا ما سنُحاول العمل عليه بشكل تدريجي في السطور التالية؛ التي ستُعالج بشكل أولي الأبعاد التالية للمسألة:
العلاقة بين “البترودلار” والمواد الخام حول العالم.
العلاقة بين “البترودولار” والتبادل اللامتكافيء.
مستقبل “البترودولار” ومستقبل التبادل اللامتكافيء.
مستقبل “الولايات المتحدة” و”أوروبا”.
دور “الذهب”، وما هي العُملة العالمية الجديدة ؟
ما هي طبيعة النظام العالمي الجديد القادم ؟
ولكن قبل ذلك، لابد من عودة إلى الوراء (قليلاً وربما كثيرًا)، في محاولة لتقديم شرحٍ مبسطٍ مستند إلى الماركسية لمفاهيم اقتصادية ومالية يجري تقديمها لنا على أنها طلاسم؛ لا يمكن للإنسان العادي فهمها، وهذا مقصود بطبيعة الحال؛ لأنّ أرباب المال يرون العلم الاقتصادي الحقيقي علمًا محرّمًا على عامة الناس، بالذات لأنه علمٌ كاشفٌ للأسباب والآليات الأساسية للظلم والقهر والاستغلال الذي تعيشه البشرية، وذلك رغم أنّ حقيقة الأمر هي أنّ العلم الاقتصادي قابل للفهم من الجميع، بل وربما أقل صعوبة من غيره من العلوم، على الأقل بما يخص أساسياته التي يحتاج فهمها كل إنسان يعيش على هذه الأرض.
إذا أردنا أن نعرف ماذا في “إيطاليا”..
يواصل “دليقان”: إذا حاولنا تطبيق الطريقة الإبداعية لـ”نهاد قلعي-حسني البورظان”؛ (لكي نعرف ماذا يحصل في إيطاليا، فيجب أن نعرف ماذا يحصل في البرازيل…)، فإنّ الأمر قد يبدو بالشكل التالي:
لنعرف معنى (روبل-غاز)؛ علينا أن نعرف معنى “البترودولار”.
لنعرف معنى “البترودولار”؛ علينا أن نعرف معنى “بريتين وودز”.
لنعرف معنى “بريتين وودز”؛ علينا أن نعرف ما الذي يعنيه وجود عُملة عالمية هي “الدولار”.
ولنعرف معنى وجود عُملة عالمية؛ علينا فهم معنى العُملات المحلية.
ولفهم معنى العُملات المحلية؛ علينا أن نفهم قبل كل شيء ما هو معنى العُملة أساسًا، وقبلها معنى “النقد”.
ولنعرف معنى “النقد”؛ علينا أن نعرف معنى “البضاعة”.
ولنعرف معنى “البضاعة”؛ علينا أن ندرس (ولو بشكل مبسط) “قانون القيمة” !
شرط التبادل..
لم يظهر “النقد” أو “المال”؛ إلا في مرحلة متأخرة من تطور البشرية الطويل. ولم يكن أول نقدٍ استخدمه الإنسان هو العُملات المعدنية والأوراق والصكوك والحسابات التي نعرفها اليوم، وكذلك فهو لم يستخدم النقود الذهبية أو الفضية أو البرونزية أو غيرها؛ إلا في مرحلة متأخرة جدًا. “النقد” الأول الذي استخدمه الإنسان كان يختلف من منطقة لأخرى؛ حسب طبيعة الموارد الموجودة وطبيعة النشاط الاقتصادي؛ ففي أماكن معينة جرى استخدام “الملح” كنقد؛ (حتى أنّ رواتب الجنود الرومان كانت تُدفع أحيانًا بالملح)، وفي أخرى “ريش طيور” معينة، وفي ثالثة أنواع محددة من الأصداف وهكذا.. ولكن لماذا استخدمها ولأية غاية ؟
لم تبدأ عمليات تبادل المنتجات بين البشر أفرادًا وجماعات؛ إلا في مرحلة متأخرة جدًا، إذ إن الشرط الأساس لأية عملية تبادل لم يكن متحققًا طوال القسم الأعظم من عمر البشر على الأرض؛ ذلك الشرط ببساطة هو قدرة التجمع البشري على إنتاج فائضٍ ما، حتى ولو كان موسميًا في المراحل الأولى، بحيث يمكنه مبادلته مع منتجات أخرى، لتجمعات مجاورة، أو ضمن التجمع نفسه.
تقسيم العمل..
عمليات التبادل الأولى أخذت شكل “المقايضة”، أي التبادل المباشر للمنتوجات، وبما يسمح بتلبية الاحتياجات. ومع التطور بدأ إنتاج الإنسان وكذلك حاجاته بالتنوع والتوسع.
يُعبّر الاختصاصيون عن هذا التطور، بأنه تطورٌ في تقسيم العمل بين الناس، بمعنى أنّه ولفترة طويلة لم تكن هنالك اختصاصات في العمل البشري، الكل يعمل مع بعضه وبنفس الأعمال تقريبًا، (جمع والتقاط وإلى حد ما صيد). في تلك المرحلة كان هنالك نوع بسيط من تقسيم العمل، ولكنه: “تقسيم عمل طبيعي” يستند إلى العمر والجنس: (فالشباب هم المعنيون أكثر من غيرهم بالصيد مثلاً، في حين أن الأصغر عمرًا معنيون بالإلتقاط، والنساء معنيات أكثر بالأعمال القريبة من مكان تجمع العشيرة بما في ذلك الإنجاب والتربية ومن ثم في مراحل لاحقة الزراعة وتربية المواشي، والكبار في السن يلعبون دورًا استشاريًا بحكم خبرتهم، وهكذا…).
مع تطور قدرة الإنسان على التعامل مع الطبيعة، وعبر العمل بالدرجة الأولى، أصبح ممكنًا وضروريًا في مرحلة معينة من التطور أن يخطو تقسيم العمل خطوات إضافية إلى الأمام. بشكل مبسط، فقد أصبح ممكنًا مثلاً أن يختص شخص أو مجموعة أشخاص صغيرة بتصنيع المحاريث وغيرها من أدوات الزراعة البسيطة التي كان البشر قد استطاعوا اختراعها حتى حينه. بالمقابل فإنّ على العشيرة أن تقدم لهذه المجموعة أو الشخص احتياجاتهم الأخرى من طعام ولباس وإلخ. يمكن اعتبار هذا الشكل التعاوني الشكل الجنيني الأولي لعمليات المقايضة اللاحقة، والتي ظهرت باديء الأمر بشكل أوضح في التبادلات بين العشائر المتجاورة (مقايضة أنواع مختلفة من الطعام واللباس والأدوات وغيرها ببعضها البعض).
أساس المقايضة..
كان كل طرفٍ من الطرفين المتقايضين يسعى ضمن عملية المقايضة للحصول على منتَجٍ مختلف نوعيًا عن المنتوج الذي يقدمه، (وتاليًا يلُبي حاجات مختلفة)، ولكن في نفس الوقت أن يكون مكافئًا بطريقة ما للمنتوج الذي يقدمه، وبما أنّ المنتوجات التي يجري تقايضها هي مختلفة عن بعضها كل الاختلاف، في وزنها وحجمها وطبيعتها، (مثلاً لباس مقابل طعام)، فإنّ العملية كانت تجري بشكل تقريبي وتوافقي، ولكنها تستند ضمنيًا إلى وحدة قياس ليست ملموسة ولا واضحة للعيان.. وقد عبر “أرسطو” عن ذلك بالقول إن: “التبادل يجري بين متعادلات” أي بين أشياء متكافئة، ورغم أنه كان من المستحيل أن يتمكن من تحديد الوحدة التي يجري القياس الضمني على أساسها في ذلك الوقت المبكر من التاريخ، إلا أن مجرد تلمسه لهذه القاعدة كان عبقرية فذة أسست للاكتشافات اللاحقة؛ (بعد أكثر من ألفي سنة)، التي صاغتها مدرسة الاقتصاد السياسي الكلاسيكي بدءًا من: “آدم سميث” و”ريكاردو” ووصولاً إلى “ماركس”.
خلية الرأسمالية الأولى..
يقول الباحث الاقتصادي: لكي نتمكن من الوصول إلى فهم الأهمية التاريخية لتسعير مصادر الطاقة، وأهمها “الغاز” و”النفط”، بعُملات أخرى غير “الدولار” وغير “اليورو”، سواء: “الروبل” أو “اليوان” أو “الروبية” أو غيرها، فلا بد من استكمال الرحلة التي نسير بها ضمن هذه الدراسة؛ والتي تسعى إلى إعادة تقديم شرح مبسط وموجز قدر الإمكان للتطور التاريخي الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه، والذي سمح لدولة مثل “الولايات المتحدة” أن تطبع أوراقًا خضراء دون تكلفة عمليًا؛ وتستولي من خلالها على ثروات العالم بالمجان..
المقايضة من أمرٍ عَرَضيٍ إلى متكرر..
حين حدثت عمليات المقايضة الأولى، فإنها قد حدثت بشكلٍ عَرضيٍ، وتصادفي؛ فالمقايضة نفسها لم تبدأ – كما قلنا سابقًا – إلا بعد أن تمكن البشر خلال تطورهم من الوصول إلى مرحلة باتوا ينتجون فيها بعض الفوائض عن استهلاكهم الذي يكفيهم للاستمرار ولحفظ النوع. تلك الفوائض هي التي سمحت بحدوث المقايضات الأولى، ولكنها كانت قليلة وغير ثابتة، ولذا فقد كانت المقايضات عرضية وتصادفية.
مع الوقت؛ ومع كل خطوة إضافية في تطور تقسيم العمل؛ (وللتقريب نقول التخصص في العمل)، بدأت الفوائض تُصبح أكثر ثباتًا، وبالتالي بدأت عملية التقايض تتحول من عملية عرضية إلى عملية متكررة، ومن عملية تصادفية إلى عملية ضرورية ومنتظمة أكثر فأكثر.. وعند هذا الحد بدأ ظهور “البضاعة” أو “السلعة”، التي تطورت عبر التاريخ لنراها اليوم بشتى الأنواع والأشكال، بما في ذلك “النفط” و”الغاز”.
المنتوج الطبيعي والبضاعة..
أقترن ظهور البضاعة تاريخيًا مع انتقال المقايضة من أمر عرضي إلى أمر متكرر ومنتظم. وللتوضيح أكثر، نقف قليلاً مع الفارق بين “المنتوج الطبيعي” و”البضاعة”.
يشترك كل من “المنتوج الطبيعي” و”البضاعة” في أمرٍ أساس؛ هو أنهما نتاج عملٍ بشريٍ؛ سواء كنا نتحدث عن منتوج زراعي أو عن لباس أو ألبان أو لحوم أو نفط أو أدوات عمل… وإلخ. (قد يتساءل قاريء كيف يمكن القول إنّ اللحوم أو الألبان مثلاً هي نتاج عملٍ بشري ؟ والجواب هو أنّ ما نتحدث عنه ليس اللحوم والألبان كما هي موجودة في الطبيعة، بل اللحوم والألبان المعدة للاستهلاك البشري؛ فتحويل اللحوم والألبان وحتى النفط، الموجودة في الطبيعة إلى وضع تصبح فيه جاهزة للاستهلاك البشري، يتطلب عملاً بشريًا؛ يتمثل بالصيد أو بتربية المواشي، وبعدها عمل القصابة وإلخ).
الفرق بين “المنتوج الطبيعي” و”البضاعة”، هو أن: “المنتوج الطبيعي”؛ هو ذلك الذي ينتجه الإنسان (كمجموعة بشرية، كعشيرة، كعائلة، كفرد)، لكي يستهلكه هو نفسه، في حين إنّ “البضاعة”: هي المنتوج الذي ينتجه الإنسان، لا بغرض استهلاكه من قبله، بل بغرض مبادلته مع منتوجات أخرى، ينتجها آخرون، لاستهلاك تلك المنتوجات… (مثلاً، ضمن تجمع بشري ما، فإنّ العائلة التي تتخصص بحياكة الثياب، لا تستهلكها هي نفسها، بل تقوم بمبادلتها بمختلف أنواع المنتجات الأخرى التي تحتاجها، من خضار ولحوم وزيوت وإلخ…).
وإذاً فـ”المنتوج الطبيعي” هو: (1- نتاجٍ عمل بشري، 2- يلبي حاجة بشرية معينة، سواء مادية كانت أم روحية، 3- وهو معد للاستهلاك المباشر من قبل منتجه). أما “البضاعة” فتختلف في البند الثالث فقط لتصبح: (1- نتاجٍ عمل بشري، 2- يلبي حاجة بشرية معينة، سواء مادية كانت أم روحية، 3- ويتم إنتاجه بغرض التبادل، لا بغرض الاستهلاك المباشر).
ضمن إجمالي ما يستهلكه البشر من بضائع و”منتوجات طبيعية”، فمن المفهوم أنّ حصة البضائع كانت صفرًا لمرحلة طويلة لأن البشر كما أسلفنا كانوا بالكاد يستطيعون إنتاج ما يكفي استهلاكهم المباشر، كما أنه لم يكن هنالك تطور كاف في تقسيم العمل بينهم.. مع تطور البشر وتطور عملهم وتطور تقسيمه، ظهرت البضاعة وبدأت بالتزايد شيئًا فشيئًا على حساب “المنتوجات الطبيعية”، وصولاً إلى العصر الذي ساد فيه أسلوب الإنتاج البضاعي. سيادة أسلوب الإنتاج البضاعي هي ما يسميه الاقتصاديون (الرأسمالية).
الخلية الأولى..
يفتتح “ماركس”؛ كتابه الأشهر والأهم: (رأس المال)، بالعبارة التالية: “تبرز ثروة المجتمعات التي يسودها الأسلوب الرأسمالي في الإنتاج، بوصفها (تكديسًا هائلاً من البضائع)”.
لكي نصل إلى فهمٍ معقول لما يجري في عالمنا المعاصر، بتعقيداته العديدة، بما في ذلك الحديث عن “البترودولار”؛ وعن (الغاز-روبل) وعن العُملات على العموم، وبالجوهر عن النظام الرأسمالي السائد في الكوكب، فإنّ نقطة الإنطلاق الضرورية، هي فهم الخلية الأساسية التي تكوّن هذا الجسد الرأسمالي.. هذه الخلية ليست إلا “البضاعة”.. ولذا سنقف عندها بعض الشيء، ودليلنا كما في كل هذه السلسلة هو كتاب “ماركس”: (رأس المال).
جانبا البضاعة..
ضمن ما سيأتي من كلام، سنستخدم مفهومين في تحديد البضاعة هما: “القيمة الاستعمالية”، و”القيمة التبادلية”..
“القيمة الاستعمالية” للبضاعة هي ببساطة منفعتها، كأن نقول إنّ منفعة الخشب هي في استخدامه للتدفئة أو للطبخ أو لصناعة الموبيليا…، وأن منفعة الفاكهة هي في أكلها والاستفادة من عناصرها وإلخ.
منفعة أي بضاعة تتحدد بخواصها الفيزيائية والكيمائية.. أي بخصائصها الملموسة، وبكلامٍ آخر فإنّ جسد البضاعة هو مصدر قيمتها الاستعمالية، وهو محدد نوعيٌ لها؛ أي أنّه لا يمكن لأي بضاعتين مختلفتين أن تتساويا في قيمتيهما الاستعماليتين، فلكل بضاعة مختلفة منفعتها واستعمالها المختلف عن سائر البضائع الأخرى.
“القيمة التبادلية” للبضاعة، هي النسب الحسابية التي تدخل فيها هذه البضاعة في علاقة تبادلٍ؛ (أو يمكن أن نقول علاقة تقايض في المراحل الأولى)، مع البضائع الأخرى؛ فمثلاً القيمة التبادلية لسترةٍ يمكن أن تكون كالتالي:
01 سترة = 20 ذراع قماش.
01 سترة = 10 كغ من الحنطة.
01 سترة = 05 لتر من الحليب.
ويمكن لهذه القائمة أن تطول وتطول لتغطي كل أنواع البضائع الموجودة في سوق التبادل.
ليس من الصعب الاستنتاج أنّ ا”لقيمة الاستعمالية” للبضاعة، أي منفعتها، تعبر عن علاقة بين البشر والطبيعة، حيث ينتفع البشر بمنتوجاتهم عبر الانتفاع بخصائصها الفيزيائية والكيميائية.. وبشكل عام بخواصها الطبيعية. في حين إنّ القيمة التبادلية تعبر عن علاقة بين البشر فيما بينهم، فحين تتقابل سترة واحدة في السوق مع 20 ذراعًا من القماش، ويجري التبديل بينهما على أنهما شيئان متساويان، فإنّ هذه المقابلة، هذه العملية، تتم عمليًا بين صاحب السترة وصاحب القماش.
وإذا كان من غير الممكن إطلاقاً البحث عن تساوٍ بين أي بضاعتين على أساس قيمتهما الاستعمالية، (لأنّ لكل بضاعة منفعتها المتميزة والمشتقة من جسدها بالذات)، فإنّ السؤال شديد الأهمية هو التالي: على أي أساس يمكن القول إنّ سترة واحدة تساوي 20 ذراعاً من القماش، أو 10 كيلوغرامات من الحنطة، أو 05 لترات من الحليب وإلخ ؟
في المرحلة الإعدادية كان أساتذة الفيزياء بشكل خاص ينبهوننا دائماً إلى أنه من غير الدقيق القول إنّ 1 كم يساوي 1000 متر، بل الصحيح القول إنّ 1 كم يكافئ 1000 متر، لأنّ الوحدتين مختلفتين، ولا يمكن المساواة بين وحدتين مختلفتين، وذلك بالرغم من أنّ كلاً من المتر والكيلومتر يعبران عن جوهر واحد هو المسافة، فكيف يكون الأمر إذاً، إذا كان الحديث عن تساوٍ بين سترة وقماش، أو سترة وحنطة وإلخ…
يمكن أن يفترض المرء أنّ التبادل يتم على أساس توافقي، وعلى أساس أنّ صاحب السترة يحتاج الحنطة، وصاحب الحنطة يحتاج السترة، وبذلك فهما يتفقان على تبادل بضائعهما، ولكن لماذا السترة تقابل 10 كيلوغرامات من الحنطة وليس 5 كيلوغرامات مثلاً أو 20 كيلوغراماً…؟
البحث عن الوحدة المشتركة التي يتم على أساسها التقابل بين البضائع، والتي تتحدد على أساسها القيمة التبادلية لأي بضاعة مقابل البضائع الأخرى، هي السر الكبير الذي اكتشفه “ماركس” والذي أسس لقفزة معرفية كبرى في مجال العلوم الاجتماعية وضمنًا الاقتصادية.. وهو السر الذي سنقف عنده في الحلقة القادمة، والذي سيسمح لنا بالاقتراب أكثر من فهم نشوء “النقد-المال”.. وصولاً إلى قراءة ما يجري هذه الأيام في مسألة الغاز والنفط واليورو والبترودولار…