قاتل الصداقة
شهرزاد : وصلنا في المرة السابقة الى قولك ان إختبارا صغيرا بإيداع سر مصطنع في صدر الصديق المفترض شريطة أن يكون له أثر أيجابي عليه في حال قرر الأفشاء به كفيل باختيار صديق صدوق في مراحل حياتنا الاولى ولا اخفيك سرا انني أجد في الأمر خديعة واضحة بحجة إكتساب ذلك الصديق !، ولو أفترضنا صفاء النية تبريرا لها ، فكيف لمراهق قليل الخبرة أو شاب متحمس لصديق مخلص أن يكتسب موهبة كهذه بين ليلة وضحاها ؟
شهريار : معك حق ، قلة نادرة جدا من المراهقين والشباب يتحكمون بمشاعرهم ليكونوا مميزين لصدق الإنسجام النفسي، وأسرار المعرفة المسبقة ، وإنني لأعول كثيرا على كل أب وأم وأخ كبير محب ، أن يوصلوا هذه الرسائل ،وأن يساعدوا أحبابهم من المراهقين والشباب على حسن إختيار أصدقائهم ، لكن من دون التدخل المباشر في مشاعرهم ، هم بحاجة ،كما أسلفنا ، الى إحترام ذواتهم وتقدير مواهبهم الشخصية ، كل مايحتاجون إليه أمثلة عامة وقصص وعِبَر في أوقات حالمة تجتمع فيها الأسرة ، وحينها سنوصل لهم أبلغ رسالة ، وسنهبهم مفاتيح اللعبة ليستنهضوا في دواخلهم الأحاسيس المرهفة ، ورقة الغيبيات ، والقدرة على الإختبار وفقا لمفاهيمهم وتقديراتهم الخاصة .
عندما نريد أن نوصل رسالة بليغة تلامس الأعماق فعلينا أن نتجنب محاكاة مباشرة لتجربة المتلقي ، وبذلك يكون منصتا جيدا ومُقدرا للنصح المستتر مابين السطور، مميزا لحكمة الحكاية التي لاتقصده لكنها تعنيه بكل تاكيد .
شهرزاد : عرفت الآن لماذا كانت أمي ،رحمها الله، تقص علي الكثير من الحوادث المضحكة او المبكية ،وتعيد بعض العبارات المؤثرة من غير ان تنظر إلي! ، لكن ماذا يعني أن نحسن الإختيار وتمر سنوات طوال على علاقة وثيقة ، لاخذلان فيها ولا خيانة ولاكشفَ أسرار، ومن غير أن تختلف التوجهات أو القناعات ، ثم نصدم برحيل الصديق ، وكأنه سراب تلاشى الى غير رجعة ؟.
شهريار : لأجد سببا مقنعا لحالات مؤلمات كالتي ذكرتها ياشهرزاد سوى الغرور ابتداءً ثم الكِبْر، واذا عرفنا أن الغرور : هو شعور مبدئي بالعظمة والأعجاب بالذات والوصول الى كمال مزعوم ، يبطل عجبنا من رحيل صديق صدوق .. قد لا تختلف التوجهات ولا تتقاطع الأحلام ، لكن النجاحات الكثيرة والمناصب الرفيعة ، والشهرة العلمية او الفنية او الأدبية ، والمال الوفير ، أبواب واسعة قد يدخل منها مرض الغرور الى قلب الصديق الراحل الى غير رجعة ، في حينها وهو يشعر بكمال زائف سيفقد الرغبة بالإستمرار والمحافظة على العهد شيئا فشيئا ، وربما نلمس تلك التغيّرات ببرود عجيب يصيب العلاقة قبل الرحيل ،فإن واصل نجاحاته الخاصة ، وعلا شأنه بين الناس أكثر، وبلغ مرحلة الكِبْر ، حينها يصيبه داء العظمة والتَجبر واستصغار الآخرين، فهو يرى نفسه ( أعظم رجل في العالم )، وأنه أكبر من الجميع ، وأفضل منهم ، بل إنه صار يشعر بالندم على المواقف المحرجة ، وأيام البساطة والحرية ، وقد يغضبه سماع لقب أو كنية أطلقناها عليه في سنوات ماضية ، وبوده أن ينتزع من ذاكرتنا كل تلك السنوات ،فقد صارت دون مستواه ، ولا تمت الى ( الرجل العظيم ) بصلة ، وصدقا ياشهرزاد إن رحيله أخف ألما من تلك الصورة المفزعة والقناعً المُحكَم الذي هيمن عليه ، وجعل منه إنسانا آخر لا نعرفه ، هي الدنيا قد تقلب الإمور رأسا على عقب .. صرنا اليوم ذكرى مؤلمة في رأسه ، وقد كنّا بالأمس خزينة أسراره ودعائم نجاحاته ومفاتيحَ لتحقيق أحلامه .
شهرزاد : أكاد أجزم من نبرة الألم بين كلماتك إنك فقدت صديقا عزيزا على هذا النحو ، فلا تبخل علينا بالتفاصيل وهاتِ ماعندك.
شهريار : لم أستأذن ذلك الصديق حتى أقص عليك مايراه اليوم ذكريات تافهة، حسنا .. مازال وده يعصر قلبي ، وسأحفظ له كيان (الرجل العظيم) من غير ان أسميه او أكنيه ، فلست من يخون الصديق حتى بعد رحيله .
كنّا منذ نعومة أظافرنا صديقين حميمين ، وجمعتنا أوقات جميلة ، وأسرار بريئة، كان من عائلة مترفة ، وإنه لسخي بالمزاح والود ، وكريم من غير منازع ، ولو جاءه والده ،الذي كان كثير السفر بحكم منصبه الحكومي الرفيع ، بأغلى الهدايا لقاسمني أياها ، فإن رفضتُ ألحَ عليَّ وأقسم بأغلظ الأيمان أنْ لا أرد هديته ، وفي سنوات الشباب الأولى أحبَ فتاة من عائلة كريمة ، وكنت المستشار (القانوني) لتلك العلاقة البريئة التي لم تتعدَ إتصالات نادرة حرجة ، أو لقاءات مضطربة في أحد نوادي بغداد المترفة ،ومن بعدها في الحرم الجامعي ، وإني لَأعلم أبتداءً بحسن نواياه ورغبته بالإرتباط المقدس معها ، لكن الوقت لم يحن بعد ، فمازالا طالبين ، ومن شدة ثقة الطرفين بي ، ومع وجود كل الموانع المجتمعية ، صرتُ الحَكمَ بينهما ، بل إنني كنت أنحاز لطرفها ، وألوم عليه قساوته معها في كثير من الأحيان ، كان ذلك في آواخر ثمانينات القرن الماضي ،وما أن تخرجنا من الدراسة الجامعية ، حتى كلل الله ذلك الحب الطاهر بالزواج ، لكن صاحبي كان دقيقا في كل شيء حريصا على مستقبل باهر ،فأخذته الحيرة أمام فرصة نجاح في أوربا ، وبرغم مرارة الرحيل كنت أشد على عضده ، وأشجعه على إغتنام الفرصة .. حينها قرر أن يسافر ، وبدأ يرتقي سلمات النجاح ، لم ينقطع عني في زمن الحصار ، وحَرص دائما على أن يكون داعما لي وكأنه مازال في بيته القريب من بيتنا ، كما كنت داعما له في أعمق مشاعره الإنسانية لسنوات طوال ، لم تغيره المسافات البعيدة ،أو إنشغاله بمسؤوليات الزواج ، لكن شيئا آخر أصابه بالغرور فجأة.
عاد بعد سنوات طويلة من الغربة في زيارة سريعة ، وكنت أقف بالقرب من دارهم مع بقية الأصحاب والجيران لأستقبال (صديقي الحميم) ، لم أعرفه في بادئ الأمر لقد تغيرت ملامحه كثيرا وتساقط شعره ، لكن ماتغير أكثر وده فقد أصابه البرود ، وبينما هو يقدمني لأحد مرافقيه الأجانب قال له : أقدم لك إبن جيراننا ..!
لم ألتقِ به إلا مرتين في تلك الزيارة مع أنني كنت حريصا على أن أطرق بابه في كل يوم ، إلا إنه كان مشغولا بمن صاروا أهم مني بكثير ، مديرُ شركته ، أعمال سريعة ينجزها في بغداد التي ماجاء لزيارتها وإنما لعقد صفقة ما تعزز منصبه الرفيع في لندن .
أدركت سريعا ، أن الرجل أمسى مغرورا ، وأنه مسح من ذاكرته تلك الدموع التي كنت أمسحها بيدَيَّ لأخفف عنه آلام وجده، نسيَ رغبته الملحة والمستمرة – في صبانا – بأن يجري خلفي كالمجنون وهو يعض على سبابته ويسعى جاهدا ليلحلق بي (كدمة محبة) تعبيرا عن شوقه ونحن نضحك بقهقهة ، نسي ما لايحصى ولا يعد من ليالي الأحلام والأمال والآلام المشتركة.
اليوم وبعد أكثر من 25 عاما .. مازال الشوق يأخذني إليه ، لكنه لا يرد حتى على رسائلي عبر الهاتف ، يقرأها ويلتزم الصمت ولسان حاله يقول: (عذرا لم أعد أعرفك ولست صديقا لي ).
الحصيلة ياشهرزاد ، إن رحيل صديق أصابت قلبه أمراض الغرور والكِبْر ، خيرٌ ألف مرة من أن نتلقى منه صدمات يومية مفزعة تحت مظلة الصديق الصدوق .
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة
للتواصل مع الكاتب : [email protected]