خاص : بقلم – د. أحمد عزالدين* :
*كاتب صحافي وخبير إستراتيجي
(1)
الحقيقة أننا أمام مقدمات تقليدية لسيناريو تقويض الاقتصاد الوطني، وإيصاله إلى حالة “السكتة الدماغية”؛ وهو سيناريو مكرر وموحد في كل الحالات السابقة على المستوى الدولي، سواءً في “آسيا” أو “أميركا الجنوبية”، حيث تبدأ الأزمة مالية الطابع، حول مصير العُملة الوطنية، ثم يُقدم “صندوق النقد” ونخبته المختارة في الداخل، نصائح عاجلة بأن الحل هو تخفيض العُملة أو تعويمها وتركها لقوانين السوق كي تُصلح الطبيعة ما أفسده التدخل، وحين تتشكك السلطات المحلية أو بعض أركانها بإمكانية الحل وفق هذا السبيل، تبدأ الضغوط بطابعها المادي والمعنوي، لإقناعها بجدوى التخفيض مصحوبة بمشهيّات ووعود عن ضخ استثمارات عاجلة، ومعونات هائلة وعن ارتفاع عوائد التصدير بعد التخفيض، أو عن القوة الكامنة في العُملة المحلية وقدرتها إذا ما تُركت لقوانين السوق، على أن تقفز إلى وضع أفضل على سلالم “الدولار”، حتى لو اضطرت للهبوط مؤقتًا والسقوط قرب منسوب القاع، وتتدفق النصائح إذا ما رأت السلطة خشية من الفوضى التي تُصاحب التخفيض أو التعويم، بالبدء في تخفيض جزئي لقيمة العُملة في حدود توصف بأنها آمنة، وحين تتحرك عملية التخفيض تقفز قيمته قسرًا، بسبب بواطن الخلل في الهيكل الاقتصادي، حيث تكون بقية أركان سيناريو التقويض جاهزة للعمل، فتُهاجر الأموال من “البورصة”، وتقفز إلى الخارج كـ”العفاريت”، ثم تتجه رؤوس الأموال المحلية، إلى تغيير عُملتها إلى “الدولار” على عجل، كي تحمي نفسها من مغبة “الإنهيار الكبير”، فتزداد العُملة المحلية إنهيارًا، وتبدأ سلسلة تفاعلات مفتوحة تقف السلطة أمامها شبه عاجزة عن إيقاف تداعياتها، وتبدو الصورة وكأننا أمام مدن اقتصادية شيّدت من الورق المقوّى، فتتداعى سوق العقارات، ويتكوّم الإنتاج في الداخل عاجزًا عن ترجمة نفسه إلى قيمة ثابتة، لأن معامل الإنحدار بالغ الحدة، أما الاحتياطي النقدي من العُملة الأجنبية، فيأخذ في التآكل، مع محاولات السلطات المحلية وضع مقادير منه في فم السوق، لمحاولة إيقاف إنهيار العُملة الوطنية دون جدوى.
(2)
لقد كان هذا هو مدخل سيناريو التقويض في “الأزمة البرازيلية”؛ رغم وجود فائض نقدي بالعُملات الأجنبية مقداره: أربعون مليار دولار، فحين بدأ تخفيض العُملة الوطنية وفق نصائح الصندوق، استمرت فصول السيناريو الأسوأ في التعبير عن نفسها، حتى بلغت ذروتها بفرض تعيين “رومينيو فراغا”؛ أحد مساعدي، “جورج سورس”؛ محافظًا لـ”البنك المركزي البرازيلي”، ثمنًا لإيقاف تداعيات الإنهيار، وكان تعليق واحد من السياسيين البرازيليين قاطعًا؛ بقوله: “لقد نجحوا في الاستيلاء على البنك المركزي”؛ أما في الحالة التي نواجهها في “مصر” الآن؛ فإن السؤال يبدو معلّقًا حول الثمن الذي سيُفرض على “مصر” أن تدفعه، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا لإيقاف تداعيات هذا الإنهيار، وإن كان هناك بالضرورة ثمنًا باهظًا سيتحتم دفعه دون تأخير، وإذا كان أولئك الذين أوصلوا نار الأزمة إلى عظام الوطن يتدفئون بها، فإن الثمن الحقيقي ستدفعه “مصر” عافية ودمًا ودورًا واستقرارًا.
(3)
نتحدث في الاقتصاد، ولكننا نتحدث في صميم نظرية الأمن القومي وعلاقتها بالصيّغ المستحدثة التي تفرضها التطورات الاقتصادية، وهي تندفع لترث دور حروب الماضي، فقد جددت الظاهرة الاستعمارية نفسها منذ عقود في صيّغ مبتكرة، لإعادة ضم المستعمرات وتغيير الحدود وتقسيم الدول، ولهذا دون أن تُدمج أي نظرية للأمن القومي هذا البُعد الاقتصادي في صياغة متجددة لنفسها، فإنها لن تكون عاجزة فحسب عن ملاحقة التحديات التي تواجه الأوضاع الوطنية المكلفة بحمايتها، في تجلياتها الاجتماعية والثقافية قبل السياسية، بل إنها لن تكون قادرة على رؤية عوامل الاختراق التي تنتشر ككتل الجليد العائمة في محيط واسع، وهي تندفع كالألغام لتهدد هيكل السفينة الوطنية:
أولاً: عند نقطة ما فوق منحنى الاستقرار، فإن تأمين سلامة الكيان الوطني ووحدته، ينتزع لنفسه أولوية مطلقة مهما تكن حسابات التكلفة، إن بمقدور علماء الاجتماع عند مستوى معين، من التحولات الاقتصادية أن يقيسوا درجة الإلتهاب الاجتماعي، وأن يُحددوا مردوده وعوائده، ولكن علماء الإستراتيجية والأمن القومي هم الذين يستطيعون أن يقيسوا بالضبط إلى أي حدٍ يمكن للجسور الاجتماعية بين القوى والطبقات، أن تتحمل مزيدًا من ثقل اندفاع قاطرات الحراك الاجتماعي الثقيلة من اتجاه إلى آخر، دون أن تتصدّع الجسور وينهار البناء.
ثانيًا: إن دور الفكر الإستراتيجي أصبح بحكم التطورات الجديدة، أقرب إلى دور الفلسفة وعقولها في مرحلة من تطور المعرفة الإنسانية، عمل يُشبه القنطرة فوق الروافد المتعددة، التي تصب في النهر الوطني، ليس بمعنى تنظيم الحركة لمنع خطر الفيضانات العالية، أو للحيلولة دون أن تتحول مصادر الري إلى مصادر إغراق، وإنما بمعنى بناء صيغ متوازنة لضبط التفاعلات في المجرى الواسع الذي يتزاوج فيه الأمن والاقتصاد والاجتماع والسياسة والخصوصية الوطنية.
ثالثًا: بهذه المعاني فإن الاقتصاد ليس حقلاً مغلقًا على مجموعة من الخبراء أو الفنيين، ولا ينبغي أن يكون كذلك، لأن الاقتصاد ليس نظرية نقدية فحسب، وليس سياسة مالية فقط، كما أنه ليس مجموعة من الحسابات الفنية، التي تستعيض عن الرياضة التقليدية في جدول الضرب القديم بمجموعات من اللوغريتمات والدالات الإحصائية السابقة التجهيز، بل إن الفنيين الاقتصاديين أنفسهم وعلى مستوى أرفع المواقع في مؤسسات التمويل الدولية، هم الذين لا يملون من الحديث عما يُطلقون عليه: “باقي سولو” أو مقياس الجهل، أي ما لا قبل لهم بتفسيره في المعادلات العامة، سواء في حسابات النمو أو الإنهيار.
رابعًا: إن جانبًا أساسيًا في إيصال الاقتصاد الوطني إلى مقدمات حالة “السكتة الدماغية”، يتعلق – أولاً – بأننا أمام حكومة لم ولن تتورع عن تقديم عافية “مصر” وسلاماتها قربانًا لرضا “الولايات المتحدة” والغرب، ويتعلق – ثانيًا – بأننا أمام حكومة لا ترى للفقراء حقوقًا خارج عون الأغنياء، وإحسان القادرين، فهي منحازة بطبعها وتكوينها إلى الجالسين فوق قمة السلم الاجتماعي، وهي معادية بطبيعتها وتكوينها للفقراء والمستضعفين في أسفل درجاته، ويتعلق – ثالثًا – بأننا أمام حكومة لا خبرة لديها ولا لدى أصحابها خارج نطاق المقاولات والمضاربات وتوليد النقود من النقود، لا من العمل ولا من الإنتاج، ويتعلق – رابعًا – أننا أمام حكومة وضعت عربة السياسة النقدية لتجر عربة الاقتصاد، ووضعت عربة الاقتصاد أمام عربة السياسة لتجرها، رغم أن السياسة النقدية بطبعها جزئية الطابع قاصرة الحساب، إذا لم تخضع لسياسة اقتصادية تتشكل بدورها في إطار إستراتيجية وطنية محددة المعالم والأبعاد والأهداف، وتتعلق – خامسًا – بأننا أمام حكومة تُنازع من أجل بقاء سرمدي في السلطة، وهي ترى أن بقاءها على هذا النحو رهن باستحواذها على كافة مقاليد ومؤسسات وثروات “مصر”، فهدفها الإستراتيجي اليتيم هو التطويع والاستحواذ ثم التطويع والاستحواذ.
(4)
رغم ذلك؛ فإن مقدمات إصابة الاقتصاد الوطني بـ”السكتة الدماغية”، مع التجريف المستمر لقيمة العُملة الوطنية، تُقدم على أنها لا تخلو من فوائد وأرباح، وهي فوائد زائفة وأرباح مختلقة:
أولاً: أن الإيهام بأن تخفيض قيمة “الجنيه”، سوف تؤثر إيجابيًا على قيمة الصادرات، هو أمر صحيح في حالة واحدة إذا كان المقصود به زيادة قيمة عوائد الصادرات فوق الورق فقط، وتصور أن هذا التخفيض سيُعطي الصادرات المصرية مركزًا تنافسيًا أفضل، هو تصور غير صحيح، لأن أكثر من نصف مكونات هذه الصادرات مستورد من الخارج، أي أن الزيادة ستُلحق بتكلفتها، إن تخفيض قيمة “الجنيه الإسترليني” – مثلاً – يمكن أن ينعكس إيجابيًا على الصادرات البريطانية، وأن تحصل بموجبه على مركز تنافسي أفضل، بحكم أن القيمة المضافة إلى صناعتها تُمثل النسبة الأغلب في هذه الصناعة، أما عندما تكون القيمة المضافة للصناعة المصرية، لا تزيد عن نسبة: 38%؛ فإن هذا بدوره سيُزيد من تكلفة منتجاتها بـ”الجنيه المصري”، والأمر نفسه لن يكون بعيدًا عن الزراعة بحكم مدخلاتها من الأسمدة والمبيدات والبذور وغيرها وسائط النقل، ولذلك فإن الحديث عن طفرة في الصادرات وعن تشجيع الإنتاج المصري، هو كلام يصعب وصفه بأقل من أنه استخفاف بالعقول.
ثانيًا: إن الإيهام بأن انخفاض قيمة “الجنيه المصري”، سينعكس إيجابيًا على “البورصة المصرية”، هو صحيح في حالة واحدة، إذا كان المقصود به أنشطة الأجانب في “البورصة”، لكن ذلك سيُزيد من ظاهرة الأموال الساخنة، التي تدخل لتُجني الأرباح ثم تلوذ بالفرار، أما صغار المستثمرين المصريين الذين كابدت مدخراتهم من عوامل التآكل خلال الفترة الماضية، فلن تزيد أوضاعهم تحسنًا بل على العكس من ذلك، لأن مجمل التفاعلات التي يصعب حصرها الآن ليست في صالحهم، واستطيع أن أضرب مثلاً بأسهم الشركات الصناعية التي تعتمد على الخامات المستوردة، والتي ستتعرض لمزيد من الإهتزازات مع الزيادات في أسعار الخامات والضرائب وتكلفة النقل وضرائب المبيعات.
ثالثًا: إن الإيهام بأن انخفاض قيمة “الجنيه” سوف ينعكس إيجابيًا على العجز في الميزان التجاري، لا ينطوي بدوره على تقدير صحيح، فحتى لو حدثت الزيادة في عائد الصادرات على الورق فقط، فإنها لن تُمثل أكثر من: 25% من الزيادة في تكلفة الواردات، والنتيجة الحتمية لذلك؛ هي زيادة فجوة العجز في الميزان التجاري وليس العكس.
رابعًا: إن الزيادة في أسعار الواردات، ستتضمن زيادة في أسعار السلع الغذائية، والسلع الرأسمالية، ومستلزمات الإنتاج، بما في ذلك الإنتاج الزراعي، فأي حجم من الضغوط سوف تتزايد أعباؤها على دخل الأسرة المصرية، وعلى ما تبقى من قدرتها على إشباع حاجاتها الأساسية، خاصة إذا استبقت ذلك الزيادة المقررة في ضريبة المبيعات، ومارست استحواذًا إضافيًا عليه، والحقيقة أن ذلك كله من شأنه أن يضع شرائح الطبقة المتوسطة والشرائح الدنيا، تحت ضغوط وأعباء لا قبل لها بتحملها، وإذا كان: 85% من المصريين قد أصبحوا عاجزين عن توفير نفقات العلاج والدواء، فأظن أن المستقطع الإجباري من فاتورة نفقات الأسرة سيطول تكاليف الغذاء بالدرجة الأولى، والتعليم بالدرجة الثانية، ولا مجال لوصف ذلك بغير أن هذه السلطة تضع الثروة البشرية المصرية، وهي أغلى ما تملكه “مصر” تحت تهديد حقيقي، وتضع معها الأوضاع الاجتماعية كلها في حالة قابلة للانفجار.
خامسًا: إذا كانت القاعدة المنتجة العريضة من المصريين، هي التي ستدفع من عافيتها ولقمة خبزها تكلفة إنهيار العُملة الوطنية، فمن الذين سيستفيدون من ذلك، أحسب أنهم لا يخرجون عن صنفين من البشر، صنف من المصريين هم أولئك المضاربون والذين استولوا على مدخرات المصريين وهربوها أو هربوا بها إلى الخارج، وصنف من الأجانب هم أولئك الذين أصبحت الظروف أمامهم مهيأة، أكثر من أي وقت مضى، لشراء الأصول المصرية بأبخس الأسعار.
سادسًا: في المحصلة النهائية، فإن محنة الانخفاض المتتالي في قيمة العُملة الوطنية، لن تدفع كسادًا، ولكنها ستُزيد من الكساد، لأن القوة الشرائية للنقود الاجتماعية التي تعكس حجم الطلب سيُلحق بها مزيد من التآكل، وفي المحصلة النهائية أيضًا، فإن الأضرار التي لحقت وتُلحق بالاقتصاد الوطني، ليست وقفًا على تفاقم الفساد، لأن العلاج بالأسبرين وترك الخلل الهيكلي في الاقتصاد دون علاج، سوف يُزيد من نتائجه وأعراضه وتداعياته، وأحسب أن أهم النتائج في حقل الاقتصاد ذاته، نتيجتان؛ الأولى: ظهور حُمى الإنكشاف أمام الخارج، مع مزيد من تقليل درجات الاعتماد على الذات، وهو ما يجعل إصابة الاقتصاد الأميركي أو الأوروبي بالأنفلونزا مسببًا للعدوى، وإصابة الاقتصاد المصري بمرض فقدان المناعة، والثانية: هي توفر عوامل الدخول في السكتة الدماغية للاقتصاد كما جربتها “المكسيك والبرازيل وتركيا” من قبل.
(5)
إن ثمة صلة بين الإذعان لمحاولات اختراق الخط الدفاعي عن الاقتصاد، وزحزحته إلى الوراء، متمثلاً في قيمة العُملة الوطنية، وبين الإذعان لمحاولات اختراق الخط الدفاعي عن حدود السيادة الوطنية على الأرض، ودفعه أيضًا إلى الوراء، إن في ذلك لآية لأولي الألباب.