باستثناء التدخل الأول للمرجعية الدينية في النجف الاشرف بداية الاحتلال الأمريكي للعراق وفرضها تعديلا جوهريا على الخطة الأميركية لعراق ما بعد صدام بإصرارها على الغاء المرحلة الانتقالية التي ارتأى الامريكان فيها إبقاء العراق تحت سلطة عسكرية – مدنية لفترة تمتد من ثلاث لخمس سنوات بغية اتاحة الفرصة للقوى السياسية العراقية لترتيب نفسها لتولي المسؤولية بشكل كامل عن إدارة شؤون البلادبتقديم تصور اخر اشترط انتخاب جمعية انتقالية تتولى كتابة دستور دائم للبلاد والشروع بتسليم المهام للعراقيين في ضوء ما يقرره هذا الدستور ، فان المرجعية الرشيدة نأت بنفسها عن الدخول بشكل مباشر في تفاصيل العملية السياسية العراقية ، واكتفت بدور المرشد الراعي للجميع تارة والخصيم المبين للقوى السياسية التي فشلت في الاستجابة للحد الأدنى من التحديات التي تواجه المواطن العراقي واحتياجاته تارة أخرى .
شخصيا لم اكن يوما ومنذ البداية مع إصرار المرجعية على الاستعجال في نقل مهام إدارة البلاد للعرقيين ولطالما حذرت من تبعات مثل هذه الخطوة منذ ان اعلن موقف المرجعية بعد اشهر من الاحتلال الأميركي للعراق لما توقعت انه سينتج عن ذلك من اثار لم تكن المرجعية قد حسبت حسباها ابدا ولايزال البلد يدفع ثمنها لحد هذه الساعة ، فبدلا من ان يكتب الدستور بتأن وبعد انقشاع دخان الغزو وان تصل القوى السياسية المحملة بعقد الماضي والمستقبل لحد ادنى من التفاهمات سلقت الجمعية الانتقالية الدستور سلقا فخرج ملغوما بإشكاليات عقدت ولاتزال المشهد العراقي لدرجة ليس من الممكن إصلاحها بسهولة لكون الدستور جاء من الدساتير الجامدة المستحيلة التعديل تقريبا من جهة ، واطلق الانتقال السريع والشكلي للسلطة ليد العراقيين يد الامريكان لكي يعيثوا في البلاد فسادا دون ان يكونوا مسؤولين امام احد لا العراق ولا المجتمع الدولي ولا حتى القانون الأمريكي طالما ان هناك سلطة سياسية عراقية موجودة في الواجهة بشكل مشرعن ودستوري ولو شكليا كما قلنا .
ومع ان المرجعية الرشيدة في النجف الاشرف كانت من اهم عوامل مسك المجتمع العراقي من الانهيار والسقوط في حرب أهلية معلنة الا انها ورغم دورها كأكبر منظومة أخلاقية لم تستطع ان تمنع القوى السياسية جميعا من السقوط في بحار متلاطمة من الفشل والفساد الإداري والاحتراب المعلن ، وبدل من ان تتدخل وبشكل جدي في كبح جماح القوى السياسية الحاكمة والمعارضة من ان تقود الى البلاد الى ترد متصاعد ، وبدل من ان تمارس المرجعية الرشيدة دور الوسيط بين هذه القوى في ظل غياب كامل لهذا الدور بعد الانسحاب الأمريكي وتراجع الاهتمام الدولي بالعراق ومرض رئيس الجمهورية الذي كان اخر من يمارس هذا الدور ولو جزئيا ، غلّقت المرجعية أبوابها امام قيادات البلاد واكتفت بتوجيهات عامة اخشى انها قد تكون اجتهادات شخصية من قبل وكلاء المرجعية في النجف وكربلاء السيدين الجليلين احمد الصافي وعبد المهدي الكربلائي ، مع انها لم تغلق أبوابها يوما بوجه ممثلي الأمم المتحدة في العراق ولا سفراء أجانب وعرب وكأنها كانت تبحث عن فرصة للنأي بالنفس فقط في هذه الزيارات الدائمة .
وإذا كان من أكبر تحديات الانتقال السياسي في اية بلاد هو المصالحة بين نظامين او طبقتين من الشعب بين نظامين كما اخبرتنا التجارب الدولية الناجحة فان المشكل العراقي لم يعد ينحصر بفشل هذه المصالحة رغم ما خصص لها من أموال ومشاريع واهتمام دولي وانما انهار الحد الأدنى من التوافق بين القوى السياسية العراقية التي شكلت الخارطة السياسية بعد سقوط النظام السابق ولم تعد البلاد يتهددها انهيار هذا التوافق بين الاطياف العراقية الرئيسة (شيعة، سنة ،اكراد) طبقا لانهيار التوافق بين لقوى القائدة لهذه الاطياف ،وانما اصبح وضحا ان هناك انهيارا للحد الأدنى منه داخل هذه الاطياف او المكونات نفسها وخاصة الشيعية الأقرب للمرجعية مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي في 2014 وفي ظروف قد تكون هي الأسوأ في الدولة العراقية منذ تأسيسها وليس فقط بعد الإطاحة بالنظام السابق ، لذلك بات لازما على المرجعية الرشيدة ان تخرج من فقه ( المقاطعة والإرشاد ) الذي اكتفت به بعد كتابة الدستور والتصويت عليه وتشكيل النظام السياسي العراقي الراهن لتتدخل بشكل عاجل لإنقاذ الدولة العراقية من السقوط شبه لمؤكد في مهاوي الردى .
طبقا للتسريبات التي شاعت في الآونة الأخيرة فان المرجعية بدأت بمراجعة مواقفها واحست بالحاجة الملحة لتدخلها بشكل مباشر في وضع خارطة طريق لإنقاذ البلاد، لكن طبقا لنفس التسريبات فان خارطة الطريق التي تفكر المرجعية في تبنيها ليس الا خطأ اخر كبيرا من أخطاء الاجتهادات السياسية التي اتصورها نتاج كادر استشاري سياسي يبدو لي انه ليس افضل حالا من الملاكات الاستشارية للقوى السياسية وقوى إدارة الدولة العراقية جميعا ، لذلك رأيت ان من واجبي كمواطن عراقي يؤمن بالمرجعية الرشيدة ودورها الرعوي في حفظ امن وسلامة البلاد ومواطنيها قبل ان أكون مثقفا وسياسيا ليبراليا ان انبه لخطورة خارطة الطريق التي يشاع ان المرجعية بصدد تبنيها والتي تقوم على تقديم مرشح مستقل لرئاسة الحكومة تتوافق عليه القوى السياسية الشيعية الرئيسة باعتبار ان رئاسة الوزارة أضحت استحقاقا شيعيا لا يمكن تجاوزه في هذه المرحلة ، بل وذهبت بعض التسريبات الى تسمية المرشحين لهذا الاستحقاق منذ الان بما يكرر الخطأ العراقي الدائم في بناء العملية السياسية في عراق ما بعد صدام حسين بوضع العربة قبل الحصان .
وطبقا لنفس التسريبات فان الأسباب الموجبة لخارطة الطريق هذه هي رغبة المرجعية في الحفاظ على اللحمة الشيعية – الشيعية بعد ان أضحت هي الأخرى عرضة وبشكل واضح لما هو اخطر من الخلاف السياسي ضمن اطار الاستحقاق الديمقراطي من جهة ، وخشية المرجعية من إصرار المالكي على فرض نفسه رئيسا للحكومة لولاية ثالثة ولو رغما عن معارضيه الشيعة ( وأعضاء ائتلافه الحاكم لحد الان ) وبدون الحاجة لتحالفهم الوطني ، وهي أمور مردود عليها لو استمعت المرجعية الرشيدة لأصوات عراقية من خارج أصوات مستشاريها من الوسط الشيعي المحافظ وبعض القوى السياسية الشيعية التي تطمح ان تستقطب المرجعية لصالحها في حربها ( المقدسة ) للظفر بعرش العراق ولو على الجماجمِ والدم ِ .
فأما بخصوص الحفاظ على وحدة الموقف الشيعي فعلى المرجعية ان تدرك ان الخارطة السياسية الانتخابية العراقية التي بنيت على التقسيم الاثنو-طائفي الذي يقسم العراق الى ثلاثة مكونات (سنة،شيعة ،اكراد) لا يمكن ان يبقى للابد في ظل عملية سياسية تقوم على مبدأ التداول السلمي لسلطة عبر انتخابات تخوضها ( مكونات ) حزبية متنافسة ستصل لا محالة الى تقديم مصالحها الحزبية على أي شعار استهلاكي اخر مهما كان براقا سواء اكان مصلحة البلاد او المكون ، وهذا بالضبط ما انتجته الديمقراطية العراقية بعد عقد من اطلاقها وبغض النظر عن كل العقبات والتحديات الجسام التي واجهها ويواجها البلد ، فالإيثار المطلق في العمل السياسي خرافة مثالية لا يمكن ان يصطبر عليها مجترعوها للابد وهم يرون (مكونات ) حزبية أخرى تنمو على هذا الايثار من اجل الطائفة او القومية او المكون بالشكل الذي اصطلحنا عليه في عراق ما بعد عام 2003 ، ولذلك قاد اللاوعي السياسي للقوى السياسية العراقية الكبيرة الى انتاج قانون انتخابات جديد لانتخابات 2014 يسمح لهم بالانشطار عن ارث مكوناتهم التقليدية الى فضاء مكونات حزبية أصبحت بحاجة ماسة الى عزل شارعها الحزبي عن أي انتماء اخر غيرها هي باعتبارها مكون حزبي لا اكثر كضرورة بقاء وحرفة استثمار في هذا الشارع وتدريبه على عقيدة (الحزب أولا ) وكذلك تمثيله والحصول على استحقاقه ، لذلك فان ان اية خارطة طريق أخرى ماهي الا تكرار لأخطاء سافرة ارتكبها الوجود الأمريكي الذي أعاق فرص التحولات الطبيعة في بنية العملية السياسية العراقية ببدعة حكومات ( شراكة ومشاركة ووحدة ) واشكال أخرى من الكلام الفارغ الذي تشدق به المتنمطقون ودفع ثمنه المواطن العراقي الذي افتقد ابسط حقوقه على دولته مالم يفقد حياته وامنه كليا ، ومصادرة تامة للديمقراطية والانتخابات التي لو صحت هذه التسريبات فان الحاجة اليها لم تعد قائمة أصلا .
وعلى المرجعية الرشيدة ووكلائها ومستشاروها المحترمون ان يأخذوا بنظر الاعتبار ان ما اسميناه اللاوعي في العقل السياسي العراقي الذي أنتج قانون انتخابات 2014 لم يفتت التحالف الوطني (الشيعي) الى ثلاث قوائم رئيسة لكل من المالكي والحكيم والصدر وربما ثلاث قوائم ظل لا يستهان بها وحسب ، وانما قسم العراقية السنية الى ثلاث قوائم رئيسة أيضا بعد ان خرج اياد علاوي بسنته منهم أيضا، وكالشيعة فان قوائم الظل في المجتمع السياسي السني لا يمكن الاستهانة بها ، الامر نفسه ينسحب على المجتمع السياسي الكردي الذي انقسم الى قوائم حزبية ثلاثة منها رئيسة للأحزاب الكردية الثلاث الديمقراطي والوطني وقائمة غوران بالإضافة الى قوائم ظل سوف تتمثل بالقوائم الإسلامية وقوائم أخرى ، مما يعني في اقل التوقعات ان هناك اثنا عشر قائمة انتخابية كبيرة ( بقياسات 2014 ) ومتوسطة سوف تنتج عن الانتخابات المقبلة الامر الذي يمنح البلاد فرصة تأريخيه قد يدخل العراق بعدها عالم لاستقرار والرفاه عبر تشكيل حكومة اغلبية سياسية من المستحيل ان تتضمن كل هذه الكتل معا بشعار وحدة ومشاركة وطنية او اية صيغة أخرى تشرعن للجميع الاستئثار بمنافع وامتيازات السلطة وتترك الشعب نهبا للإرهاب والفساد .
اما بخصوص الخشية التي بدأنا نسمع عنها بخصوص استئثار المالكي بولاية ثالثة لا يريدها شيعة او سنة او اكراد، فاعتقد ان المالكي لو فكر بالانقلاب على الشرعية الدستورية انقلابا كاملا لفعل ذلك بطريقة او بأخرى في انتخابات مجالس المحافظات على الأقل في بغداد العاصمة او عاصمة النفط البصرة، وبما انه نفسه كان اول الداعين لحكومة اغلبية سياسية فما الضير بان تطالبه المرجعية بشكل صريح لا لبس فيه للالتزام بمبدأ دعا اليه بنفسه بدل ان تقاطعه او تكتفي بالإرشاد تلميحا وغمزا كما نسمع ونرى؟ على ان يسري هذا الالزام على غرمائه وبالأخص الشيعة منهم وبشكل لا لبس فيه أيضا.
وإذا افترضنا جدلا ان المرجعية قد نجحت في اختيار من تجد فيه صفات الاولياء وانه لن يكون قائدا ضرورة وانه سوف يتعهد لها وللفائزين الذي سوف يتنازلون له عن فوزهم انه لن يبحث عن ولاية جديدة ولن يشكل حزبا او قائمة انتخابية تفوز بالمرتبة الأولى في اية انتخابات قادمة كما علمتنا تجارب المحافظين المستقلين الذي أكمل بعضهم فترة محدودة من عمر حكومته المحلية ولو افترضنا ان الكتل السياسية الشيعية وغير الشيعية قد اطاعت المرجعية وتحولت الى منظمات خيرية رضيت طائعة بمصادرة حقوقها الانتخابية لمرشح مستقل تختاره المرجعية او تعهد اليها باختياره ، افلا تنظر المرجعية الى ضعف الوزراء الذي لا تقف خلفهم كتل سياسية قوية ؟؟ وكيف تريد ان يتعامل رئيس حكومة مستقل ربما لم يفز او يشارك بالانتخابات أصلا امام اثني عشر كتلة رئيسية تخوض من الان حربا ضروسا لا هوادة فيها للظفر بموقع متقدم في الانتخابات ؟؟
عليه اجد لازما علي ان اشير ان على المرجعية الرشيدة ان تتراجع عن خارطة الطريق هذه ان صحت بشأنها التسريبات مرة أخرى ، وان تخرج اليوم قبل الغد من فقه المقاطعة والإرشاد للتدخل المباشر في ممارسة دورها الرعوي للبلاد بكل تنوعها عبر الدعوة الى ( صلح حديبة ) عراقي يكون برعايتها كليا بعد ان تطلب من كل الفرقاء ان يقدموا لها تصوراتهم الواضحة والصريحة عن المشكل العراقي وطرق علاجه لحين الانتخابات ووضع الية تشكيل حكومة العراق القادمة في ضوء نتائج الانتخابات ومبدأ الأغلبية السياسية والزام الكل بالسبل السلمية الديمقراطية في التنافس والزام الكتل المشاركة في الحكومة بتقديم كفاءات تكنوقراطية محترفة بدل توزيع وزارت الدولة غنائم حرب على قيادات الأحزاب دون أي معيار موضوعي ، والتهديد باستخدام سلاح الفتوى ضد كل من لا يخضع للأجماع والتوافق لوطني وصلح الحديبية الجديد الذي يجب ان ينطلق من عاصمة علي بن ابي طالب ، ستقولون ان هناك من قد لا يلتزم بهذه الولاية للمرجعية ، أقول لكم فليفعل لأنني كمواطن عراقي اكتفي لو الزمت المرجعية الرشيدة القوى السياسية الشيعية بهذا الصلح الذي سيترك كل ما هو مسموح الاختلاف والتنافس فيه بل وحتى الصراع للسياسة وادواتها .
ملاحظة : التمس على كل من يستطيع من الاخوة إيصال هذه المكتوب الى مكاتب المراجع العظام وممثليهم ووكلائهم مثلما أيضا كافة القيادات السياسية العراقية قبل ان نمضي في خارطة طريق ارها رأي العين انها ستقودنا الى نفق مظلم اربع سنوات أخرى .
والله من وراء القصد