تتراوح تجربة الكاتبة الفلسطينية اسمهان خلايلة، ابنة بلدة مجد الكروم الجليلة في الشاغور، بين المقالة والصورة القلمية والقصة القصيرة والرواية، واستطاعت بكتاباتها المتنوعة على امتداد أكثر من أربعين عامًا، صياغة افق أدبي لسيرتها ككاتبة إنسانية ملتزمة بقضايا شعبها وهمومه اليومية وجرحه المتواصل، ولكن هذا الزخم الذي تعيشه في ذاتها تجعلها تنسج علاقة عضوية جدلية لا تنفصم مع ذاكرتها، ومسارًا ثريًا لمفهوم الكتابة لديها، مرسخة تجربتها الإبداعية أكثر فأكثر على الأرض الصلبة، أرض الرواية، ولم تكن مسيرتها وتجربتها وسياحتها مع الكلمة إلا إملاءً للهم الذاتي والاجتماعي العام والوجع الفلسطيني الذي لم يندمل.
ومؤخرًا حظي القارئ الفلسطيني واحتفى بروايتها “طيور المساء” الصادرة عن دار الهدى في كفر قرع، التي تعالج موضوعًا لم يتناوله من قبل كتاب السرد القصصي والروائي الفلسطينيين إلا لمامًا وبصورة عابرة، حيث انها استمدت موضوع واحداث روايتها من مجزرة كفر قاسم.
وهذه الرواية تزخر بالدلالات التاريخية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية والجمالية، وذات بعد وطني وسياسي وإنساني- طبقي، وهي أول رواية فلسطينية تُكتَب وتتحدث عن مجزرة كفر قاسم بهذه الصورة، وتوثق لمرحلة جذرية في تاريخ جماهيرنا العربية الفلسطينية، إنها وثيقة تاريخية تنزف وجعًا والمًا تدور حول المجزرة الرهيبة التي اقترفتها العصابات الصهيونية بحق أهل القرية وعمالها، وتجسد مرحلة نضالية وكفاحية من كفاحات شعبنا، وتعالج العديد من القضايا الشائكة وتركز على خروج المرأة للعمل وتحمل أعباء المعيشة، وتبرز العلاقات العاطفية الأسرية والروابط بين أبناء البلد الواحد، أصحاب الهم الجمعي الوطني الواحد، وعبر تطورات الأحداث تنقلنا اسمهان من أجواء المجزرة إلى صباحات مشرقة بالحياة الزاخرة بالفرح.
وتكمن القيمة الأساس في الروية قدرة السرد على التعبير عن شخوص وأناس داخل حيز إنساني وكينونة فلسطينية، والقدرة على إشاعة وعي من شأنه استحضار المجزرة وإدانة مرتكبيها، والارتقاء بشروط الحياة إلى ما هو أفضل وأجمل. وقد جاء السرد الفني مزدوجًا، فيه المعطيات والوقائع والحقائق والتوثيقي التاريخي والذاكرة الجمعية الوطنية، والرواية الفلسطينية الحقيقية أمام زيف الرواية الصهيونية، وعليه فإن الرواية تستحق أن تدرس للأجيال الفلسطينية الصاعدة والقادمة، حيث أنها ترصد المذبحة والجريمة البشعة بحق شعبنا.
اسمهان خلايلة كما عودتنا دومًا استعارت لغتها بعناية وشفافية، ترتقي أحيانًا إلى مستوى اللغة الشعرية، وتتحول في أحيان إلى اللغة التقريرية المعيارية، وكشفت الرواية عن وعي فكري وسياسي متقدم، وذائقة في وصف الاحداث، وحاولت قدر المستطاع أن تجعل البناء الفني متماسكًا، فقدمت الأحداث حدثًا بعد حدث، ومشهدًا بعد مشهد، وصورة بعد صورة، ولجأت إلى أساليب السرد الروائي بتقنياته الحديثة المعاصرة بأداء لا يضر بتماسك نسيج روايتها وتناسق فنيتها، وتتسع فضاءات الرواية لأكثر من صوت من أصوات شخوصها وابطالها، وتغتني وتتلون بألوان الحياة، وتطرح أسئلة بنسيج حقيقي.
وهكذا تقدم لنا اسمهان خلايلة رواية هامة بموضوعها وبعدها، واقعية بأحداثها، مشوقة بأسلوبها وسردها، غنية بأوصافها، رائعة في آلياتها، مثيرة في شخوصها، وعذبة في لغتها، تشكل انجازًا وعملًا روائيًا يستحق القراءة والاهتمام، يضاف لسجل الأعمال الروائية الفلسطينية الرائدة، وبذلك تحقق خطوة جديدة نحو المزيد من الثبات والرسوخ والتطور والتبلور في المشهد السردي والقصصي الفلسطيني في هذه الديار.
فألف مبارك للصديقة العتيقة المعتقة الكاتبة اسمهان خلايلة، ونرجو لها المزيد من النجاح والعطاء الإنساني الإبداعي المتوهج المستمر.