18 ديسمبر، 2024 10:03 م

الفرق بين الخبر والقصة الصحفية..وإشكالية إستخدام الزمن ..!!

الفرق بين الخبر والقصة الصحفية..وإشكالية إستخدام الزمن ..!!

شهدت الساحة الصحفية العراقية بل والصحافة العربية وحتى العالمية عموما، تداول (خطأ شائع)، إستمر لسنوات، يتمثل في إطلاق مصطلح (القصة الصحفية) على مفهوم (الخبر الصحفي)، بالرغم من ان (الخبر) عموما يقترب كثيرا من كلمة (news) ،لكن الصياغة الخبرية ليس بالضرورة ان تعبر عنها كلمة (story) بالانكليزية التي تعني (القصة الخبرية).
وتردد إستخدام (القصة الصحفية) كثيرا في الأونة الأخيرة على أسماع طلبة كليات وأقسام الإعلام،على أساس أن ما يقابل كلمة الخبر هو (القصة الصحفية) وبالانكليزية هي (story)، كما حاول أغلب المهتمين بشرح وتوضيح علوم الاعلام ومنها الخبر الصحفي، إطلاق تسمية من هذا النوع على الخبر الصحفي،مخالفين حتى نظرية (الهرم المقلوب) التي يعتمدها البناء الصحفي، في حين تعتمد القصص والروايات نظرية (الهرم الإعتيادي).
وسأوضح للمهتمين بعلوم الإعلام ولطلبة وأساتذة الإعلام التفريق بين معاني ودلالات هذا المفهوم، وهو أن (الخبر الصحفي) لا يعني (قصة صحفية) ، بل هو يتمثل في (حدث) وقع في (زمن) و(مكان) محددين، ونجم عنه (تأثيرات) قد تكون (سلبية) أو(إيجابية) بفعل فاعل،ومبدأ صياغة الخبر يختلف عن مفهوم البناء القصصي ، إن لم يكن (متناقضا) معه تماما ، بل أن أدبيات الاعلام ومؤلفات أساتذة مختصين في علوم الإعلام والصحافة منذ الأربعينات تتحدث عن (الخبر الصحفي) وليس عن (قصة خبرية) يتم تداولها الان على نطاق واسع.
ومثال على ذلك (إنفجار عبوة ناسفة في شارع الربيعي صباح اليوم نجم عنه خسائر بشرية لم تعرف بعد)، أي ان الحدث هو (انفجار العبوة).. وأين في شارع الربيعي ، ومتى (صباح اليوم) ..فهو بهذه الصياغة (خبرا) وليس قصة صحفية، وقد تدخل صياغات من هذا النوع في (التقارير الإخبارية) أو ما يسمى بـ (المتابعات الصحفية) ومع ذلك تبقى تحافظ على سياقات اعداد الخبر (مقدمة- تفاصيل- خاتمة) بطريقة موسعة، أي أن (التقرير الصحفي) هو (خبر موسع) لكن صياغاته في كل الأحوال تحافظ على نظرية (الهرم المقلوب) .
وأود أن أضع بين أيديكم أيها المهتمون بعلوم الإعلام وكتابة الخبر الصحفي أو (الحدث الصحفي) (إكتشافا) ربما يمكن أن يكون فريدا بل غريبا من نوعه ، ومهما جدا ، هذا (الإكتشاف) كان فيه ظلم كبير للـ (الزمن) في إستخدامات لغتنا :(الماضي، المضارع، الأمر)،وربما وقعت فيه حتى بعض اللغات الأخرى،والذي يبنى على أساسه الخبر..أجل ظلم كبير يتساوى) فيه (الزمن) بين (الثانية) و(القرن) من حيث الفترة الزمنية التي يستخدم فيها فعل (الماضي)، بين (وقع الان إنفجار ) وما (حدث قبل قرن)، أو (أن حريقا إندلع الان في أحد المصارف) وفرق الاطفاء تواصل العمل لاخماد الحريق أو أن (فيضانا وقع منذ قرون)..أهكذا يتساوى (الزمن) في كلتا الحالتين..؟! إذ لايمكن أن يعقل ان يكون (الماضي) يتسع زمنه لـ (مائة عام) حين يتساوى مع (ثانية) مضت برمشة عين، وأرى ان تكون تسمية الفعل الماضي القريب جدا بـ (فعل الحاضر) حتى وان لم يكن بصيغة (المضارع) على شاكلة (يحدث، يقع ، يكتب)، وقد يسمى (فعل الان) لكن (فعل الحاضر) هو الأقرب في الصحافة ، وليس قبل دقائق او أيام أو سنين!!
وفي إعتقادي المتواضع أن (الخبر) في أول لحظات وقوعه يسمى (خبرا) وبعد ان تتفاعل أحداثه يمكن أن يسمى (حدثا) ، وبعد ذلك تأتي مرحلة (التأاثيرات الناجمة عن الخبر)، أي ان الخبر يمر بمراحل ثلاث (خبر – حدث_ تفاعلات) لهذا تبقى كلمة (news) أو (hapen) هي الأقرب للتعبير عن حالة وقوع الخبر الحالية بالتو، كما ان الخبر لا يقترب من كلمة (story) المتعارف عليها في الاعلام الغربي ، بينما تمنح كلمة (hapen ) إستمرارية لوقوع الحدث وكأنه (مضارع مستمر) لكن يتم تناقل أحداثه بصيغة (الماضي) القريب جدا، وهو يقترب من مفاهيم وتطورات الخبر (أحْداث ؛ حَوَادِث ؛ مَجْرَيَات ؛ وَقَائِع ؛ وُقُوعات) كما يصطلح عليه في قاموس المعاني الدارج، وربما بعد مضي (24) ساعة على الحدث يدخل مرحلة (الماضي) أي ان صيغة (المضارع المستمر) تبقى ملازمة لتفاعلات الخبر حتى نهاية اليوم على أقل تقدير، لكي نثبت بالدليل القاطع ان صيغة (الماضي) ومنها (وقع ، حدث ، شهدت، رحل ، توقع) وغيرها من أفعال الماضي التي تلازم بداية أي خبر يدخل زمنها هنا في (المضارع المستمر) أو (الماضي الحاضر) حتى وان كانت بصيغة (الماضي) ، لأن الدلالة اللغوية ربما (تظلم) الخبر إن حسبته على الماضي كزمن، فاللحظة التي أعقبت الخبر لايمكن ان تدخل في مرحلة (الماضي) كونها ما زالت (تتفاعل) واحداثها في (تعاقب) زمني مستمر، وما ان تمضي فترة يوم واحد على الأقل ، حتى يمكن ان نعدها قد دخلت في مرحلة الماضي.
والبناء القصصي، أو مايطلق عليه الان بـ (القصة الخبرية) يقوم أصلا على مبدأ (الهرم الإعتيادي) بينما (الخبر) يقوم على مبدأ (الهرم المقلوب) ، أي (مقدمة، تفاصيل، خاتمة)،بينما تعتمد (القصة الخبرية) إن صحت تسميتها هكذا، على السرد النسقي الهاديء للأحداث ولا يتطلب الأمر السرعة في تناقلها للاخبار، وهنا قد تعد (القصة الخبرية) أو البناء القصصي وفق صياغة لغوية تدخل فيها المشاعر والأحاسيس والتصورات والعقائد الفكرية والمصالح مع بعض الحقائق على طريقة (كلمة حق أريد بها باطل)، لبناء سيناريو لقصة تسرد احداثا وقعت في الماضي في الأغلب بعضها يمتلك جزءا من الحقيقة لكن بقية المضامين هي مجرد (تخيلات) أو قصص كما يقال من (نسج الخيال) وفي بعضها لا وجود لها على أرض الواقع، او تم (فبركة) أحداث بين سطورها مثلما هي في (الرواية) التي يدخل فيها عامل (الفبركة) و (الإختلاق) عبر (تصورات خيالية) او لنقل يأخذ (الخيال) جانبا منها ، يحاول فيها كاتب القصة او الرواية (إستدراج) المتابع للدخول في قصته كونه لايعرف تسلسل أحداثها ومتى وكيف تنتهي .
أما صياغة الخبر فتعتمد أصلا على نظرية (الهرم المقلوب) وهي عملية (الإخبار) عن حدث سريع في زمن متواصل الاحداث، تستخدم فيه (الإثارة) الى أقصاها في مقدمة الخبر لأغراض لفت الانظار في المقام الأول، ويعتمد على (المعلومة الأهم) وهي وقوع الحدث ، ثم يدخل في مراحل لاحقة في متابعة (المهم) من عمليات سرد تطورات الحدث، وبعدها تأتي الخاتمة أو (نهاية الخبر) و(التوقعات) لحين فترة وقوعه ، أي ان الخبر يبدأ بالأهم وهو حادث قتل مسؤول كبير او انفجار مثلا، سواء عبر (عبوة ناسفة) أو (سيارة ملغومة) أو (انتحاري) ، ومن ثم تبدأ بالمهم وبعدها تنتقل الى الاشياء الاخرى الاقل أهمية، وهي بذلك تجيب بين ثناياها على الأسئلة الستة (ماذا ؟ ومَنْ ؟ ومتى ؟ وأين ؟ وكيف ؟ ولماذا ؟) التي تعارف الصحفيون على وضعها، كشروط لضمان وجود (خبر صحفي)، وهو ليس موضوعنا، لكن (القصة الصحفية) تبدأ (عكس) بناء الخبر الصحفي تماما، وفق نظرية (الهرم الاعتيادي) أي تبدأ بسرد وقائع حدثت في الماضي البعيد، وهي ليست ملزمة بالإجابة عن (الأسئلة الستة) كاملة ضمن درجات أهمية وقوع الخبر كونها ستذكره بين ثنايا عشرات او مئات الفقرات، لكي يتم معرفة تفاصيل القصة ، بينما (الخبر) يوضح لك منذ البداية ان حدثا ما قد وقع : (إنفجار) ، (قتل) ،(حادث حريق) ، أو (انقلاب) ، في زمن (كذا) وملايين الناس متلهفة لرؤية نهاية الحدث وتسلسل أحداثه، أما من يتابع (القصة) فهم فرد أو أفراد وربما لايعدون على أصابع اليد الواحدة ، والقصة يحاول فيها كاتبها أن ينسج من خياله أكثر مما يكتب عن وقائع حقيقية، في حين يكون الخبر وفق أحداث وقعت، والمتابع يريد ان يعرف تسلسلها المنطقي ومن قام بالحدث وما أسفر عنه وتأثيراته على صعيد البلد ، وربما المحيط الإقليمي، في حين لايمكن متابعة قصة من قبل مجتمع في آن واحد ، اللهم الا عبر (مسلسل) على شاكلة المسلسلات التركية الدارجة هذه الايام.
والخبر الصحفي هو (حدث) يقابله في اللغة الانكليزية ربما كلمة (hapen) ، أي ان الخبر بالرغم من انه حدث في الماضي ، لكن هذا الماضي قريب جدا، بل هو وان دخل زمن الماضي، لكنه أقرب الى (المضارع المستمر) في زمنه ومفهومه ، كون (الحدث) وقع قبل ثواني أو دقائق ، ومن الظلم والخطأ أن نحشره مع (الماضي) حتى وان تم التعبير عنه بفعل ماض.
ولنتابع (غياب) القمر، فلو تابعنا مرحلة حركته، قبل أن يبتعد عنا مساء ، للاحظنا ان الثواني الاخبرة من لحظة ابتعاده عنا وعدم قدرتنا على رؤيته ، فنقول : غاب القمر، لكن (زمن الغياب) مستمر في لحظته، وهو لم (يغب) أصلا كونه مستمرا في الحركة، لكن الأرض حجبت رويته، ومع هذا تعد فترة (الغياب) الأولى كونها إقترنت بصيغة زمن (الحاضر) وإن كانت بصيغة الماضي، ونقول : طلعت الشمس، أي أن زمن إشراقتها (الماضي) كفعل، لكن (الزمن) مستمر في إشراقته ،وهي قد طلعت حتى قبل ان نرى وجهها، أي منذ بداية إشعاع ضوئها، أي ان الحركة مستمرة وهي ان قلنا (طلعت) لكن الزمن لايدخل في مرحلة (الماضي) البعيد بل الحاضر القريب، حتى وان كانت بصيغة الماضي، وهكذا.
وللتدليل أكثر على ان زمن (الماضي) ظهر بصيغة (المضارع) لنتابع مطلع القصيدة التي تتغنى بالرسول الكريم محمد (ص) ، فيقول الشاعر: طلع البدر علينا من ثنايات الوداع، وفعل (طلع) هنا وإن كان بصيغة (الماضي) كما يبدو إلا أنه ظهر لنا الان في زمن (المضارع المستمر) وليس بصيغته،حتى يمكن أن نقول (أن القمر طالع الان) وهو بنفس المعنى،وهذا مايؤكد قولنا أن وقوع الخبر ليس دائما بصيغة (الماضي) بل هو (حاضر مستمر) أي (present)..
وأعود وأكرر أن زمن الماضي في اللغة الصحفية هو (الحاضر) ( present) ، لكنه لانه وقع فقد دخل زمن (الماضي) past دون ان يكون معبرا عن (زمن) time بقدر ما يعبر عن (حالة) state أو (حدث) hapen.. وفعل المضارع يحدث happen هو الأفضل تعبيرا عن الحالة من كلمة story التي تعني القصة الصحفية..والسؤال عند وقوع أي حدث نسأل دوما : من هو (الفاعل) who ماذا حدث: What happen وأين where ومتى when وكيفhow ..الخ من الأسئلة الستة..المتعارف عليها في عالم الاعلام وقد تكون ستة أو ربما أكثر أو اقل ، وهذا يعتمد على نوع الخبر وزمنه وتشعباته.
ولنضرب مثالا على ذلك ، لو حدث (إنقلاب) مثلما وقع في تركيا قبل فترة، وكانت تشهده أغلب دول المنطقة، نقول : محاولة انقلاب في تركيا ، بصيغة (مستعجل جدا) او مايطلق عليه (الفلاش) ويقال عندما ننقل الخبر ، شهدت تركيا (انقلابا) ، لكن الحدث يتفاعل ، وهناك (مؤامرة) تستهدف إسقاط النظام في تركيا ، وهناك سيناريو للانقلاب ومنفذون، والخبر او الحدث مستمر في الحدوث ويتابع أولا بأول من وسائل الاعلام والاتصال (الميديا) بمختلف مسمياتها ، وهو وان وقع ، لكن زمنه (الحاضر) وليس (الماضي)، إلا إنه لم ينته، بل إبتدأ أصلا ، ويتطلب الامر متابعة تطوراته على عجل، ترافقه مجموعة من (الحكايات) والقصص وليس قصة واحدة ، وهنا يدخل الموضوع في (إختلاق الروايات) ونسج الأقاويل ، أي ان (الخبر الصحفي) يسبق القصة ، أي (الحدث).
والسبب وراء تسمية الخبر بأنه (قصة خبرية) هو لأن أغلب العاملين في الحقل الاعلامي ومن المسؤولين عن أجهزته هم من الوسط الأدبي وليس الإعلامي، وقد كانت لهم الغلبة في السيطرة على مقدرات العمل الصحفي لعقود طويلة، وهم يحاولون نقل تجاربهم الأدبية الى العمل الصحفي، وهم من ينقلون مصطلحاته الى الوسط الصحفي، لأن (الخبر الصحفي) حالة تختلف كليا في البناء والتدرج ونسج معلومات الحدث، وهو تعبير حديث، بينما الأدب مر بأزمان وعصور كثيرة تتجاوز قرون موغلة في التاريخ، حتى ان الشاعر كان الناطق بإسم القبيلة وهو من ينقل أخبارها، والخبر لم يكن يتطلب السرعة وادوات تناقله بطيئة جدا وتأثيراته لم تكن كما هي عليه الان، ولم يسمع من قبل او يتعارف أحد على (بناء صحفي) لـ (حدث) كما هو الشائع الان في الصياغة الصحفية في ظل تسارع وسائل الاتصال وقدرتها الفائقة على نقل الحدث لحظة وقوعه وتحول العالم الى ما يشبه (قرية صغيرة) كما يقال.
وأزيد على ذلك ان البناء الصحفي لوقائع الخبر وان كان يعتمد (المقدمة) و(التفاصيل) و(الخاتمة) في الصياغة الخبرية التي تعارفنا عليها في نظريات إعداد الخبر ، لكن مقدمة الخبر تبدأ من حيث إنتهى الخبر، ومن ثم بقية التفاصيل ، بينما لاتخبرك القصة عن مصير الحدث الا في آخره، وربما تحتاج الى ساعات أو ايام لكي تكتشف ما آلت اليه القصة من أحداث وما مصير أبطالها وتسلسل أحداثها، أما الخبر فيعطيك (الحدث) أولا بأول، وفي كل مرة تعاد صياغته وتدخل اليه (تفاصيل) جديدة ، فالخبر ليس (قصة) كما يشاع ، بل (حدثا) قد يعقبه مجموعة أحداث ، وقد تقوم جماعة معينة بحالة اعتداء على جماعة او منطقة اخرى إنطلاقا من ردة الفعل الشائعة هذه الأيام، لهذا يقع الحدث بالتتابع ، وما ان تنتهي وقائعه بعد ساعات او أيام، فقد يدخل (البناء القصصي) في تتبع احداث من هذا النوع، عبر بناء أدبي إسطوري ، يدخل الخيال أو لنقل يتدخل (الخيال) كثيرا في بنائه، بينما لايكون مجال (الخيال) واسعا في الخبر او احدث الصحفي، كونه يتحدث عن (وقائع) لاتقبل التأويل في أغلب الاحيان، وربما يتم اكتشاف تسلسل احداثها بعد أقل من ساعة او ساعات قليلة، وينتهي زمنها، لكن القصة ربما تسرد (حالة انقلاب) وقعت قبل أشهر،بينما لايكون بمقدور خبر صحفي ان يخبرك عن حدث وقع قبل أشهر ، الا عندما يذكر (خلفية) للخبر يذكرك فيها بتسلسل أحداثه وكيف وقعت.
وهناك ضمن دائرة الأخبار ما يمكن ان نطلق عليه تسمية (الخبر المستقبلي) وهو لايدخل في دائرة (الماضي) كزمن وقوع ، مثلما نقول : (إن من المقرر أن يكون هناك اجتماع لمجلس النواب خلال يومين او ندوة تقام في غضون إسبوعين، أو اجتماع مهم يعقد الشهر المقبل او حتى العام المقبل، فالخبر ليس دائما بصيغة (الماضي) أو (الحاضر) ، بل قد يعبر عن حالة (المستقبل) وهو أقرب في كل الأحوال من لغة (المضارع المستمر) من أن يكون بصيغة (الماضي) ، بل ان (القصة) أصلا هي من تدخل في دائرة الماضي وتسرد أحداثا وقعت قبل سنوات أو عشرات أو مئات السنين ، وليس الخبر، ولهذا يطلق مصطلح (القصة الصحفية) على (الخبر) جزافا، لكي يقال ان هذه (قصة صحفية بصيغة خبر) دون ان تكون التسمية معبرة عن فعلها وعن حدثها بالوصف الذي يمكن ان توصف مراحل الخبر، ومتابعة تطورات احداثه بالوصف الدقيق.
وفي الغرب يستخدم محررو الاخبار صيغا صحفية تختلف تماما عما هو متعارف عليه في البناء الخبري لمتابعة حدث ما، فالصحفي الغربي لايهتم كثيرا ، بالحفاظ على ثوابت اعداد خبره او تقريره الخبري على نمط ما نعده من اخبار في صحافاتنا، وهناك يتدخل المحرر كثيرا في سرد تفاصيل عن واقعة الخبر ، تتعلق بماضي الخبر ومن أرشيفه ، ثم يبدأ بسرد تفاصيل وقائع عن الحدث المطلوب ، لايعتمد إسلوب (مقدمة – تفاصيل – خاتمة) بالطريقة الكلاسيكية المتعارف عليها في صياغة الخبر على صعيد العراق وحتى على صعيد عربي وإقليمي، بل بصيغة مختلفة تماما يتبعها المراسلون الغربيون منذ سنوات طويلة، وهي ان تدخل تفاصيل (معلومات) إضافية و(يحشر) بين ثناياها مايود (تعبيره) من (رسائل) او (مضامين تسريب) بين ثنايا عرضه الصحفي ، وهم يحاولون وصف طريقة كتابتهم بالقصة الصحفية، كونها لا تتعلق بصياغة خبر ولكن بصيغة (تقرير صحفي)، يتناول فيه أطرافا كثيرة، وربما يدخل (معلومات مضللة) بين أخرى حقيقية ، ليخدم توجهات (جهة) ما كلفته باعداد تقريره وفقا للهدف المطلوب إثارة الرأي العام أو لجهة الاستهداف السياسي ، أما أن يسرد وقائع خبر فهو لايدخل في جانب (القصة الصحفية) بل ينقل (وقائع احداث) خبرية سريعة ومن ثم تدخل (إعتبارات الاعداد) ضمن تقريره الصحفي، بما يخدم توجهات الجهة الصحفية التي كلفته، ويعبر عن توجهاتها وما تأمله من بث (فبركات) بين ثنايا تقريره ، تعتمد احيانا على (معلومات) سابقة واحيانا يدخل (التضليل) في جانب كبير من الصياغة اللغوية، بل ان المتعارف عليه أن مايعادل (30) % على الأقل ،من عمليات اعداد التقارير الخبرية على صعيد عالمي تعتمد (التضليل) و(الاختلاق) و (الفبركة) وسيلة لها لضمان إنتشار أخبارها التي أرادت (تسويقها) الى من يدخل ساحة عملها كنشاط (دعائي) وليس (إخباري)..
وقد أثار موضوعي الذي أشرت اليه آنفا عن موضوعة إستخدام (الزمن الماضي) في دلالة صياغة الخبر بالرغم من أن (الحدث) يقع في مرحلة (الحاضر) ، آراء الكثير من الأساتذة والمختصين في علوم الاعلام واللغة العربية.
بل أن وجهات النظر كانت تختلف فيما بينهم بشأن إستخدام زمن (الماضي) في فعل الخبر وإشارة آخرين ، ومنهم كاتب هذه السطور، الى عدم دلالته على (كينونة الحدث) في فتراته الزمنية، وإن فعل (الماضي) الذي يستخدم عند بداية كل خبر لايعني زمنه (الماضي) في كل الأحوال، فقد يأتي بصيغة (الحاضر) مثلما قد يكون في دائرة الإهتمام بـ(المستقبل) .
لكن للأستاذ أمجد توفيق الكاتب والروائي والصحفي المحترف رأي آخر (مخالف) تماما لكل تلك الطروحات، إذ عد وجود (الزمن الحاضر) بمثابة (أكذوبة) ، وانه أي (الحاضر) أقصر الفترات الزمنية في عمر البشر، إن لم يصل به الأمر الى حد (إنكار) الحاضر كليا ، حتى أن (المستقبل) نفسه من وجهة نظره (غامض) وغير معروف ما سيؤول اليه حال البشر، والتنبؤات فيه لاترتقي الى حجم التطلعات والآمال، ولكونه (مجهولا) فأن لازمن له ، وما ان (يحدث) حتى يدخل في مرحلة الماضي، سواء القريب أم البعيد.
ويشير الكاتب والروائي أمجد توفيق الى أن (الماضي) يبدأ مع (اللحظة) التي تنتهي فيها فترة وقوع الحدث أو الواقعة، سواء كانت قبل ثانية او قبل دقيقة او حتى قبل قرن، وهو يريد إيصالنا الى قناعة أن كل ما يمر بحياة الانسان يحتسب على الماضي، وإن (الحاضر) لاوجود له في قاموس البشر، مادامت تدخل فترة الماضي من أول لحظة مغادرتنا للحدث او الواقعة، لتدخل في زمن (الماضي) الفترة الأطول في التاريخ، مخالفا بذلك آراء ووجهات نظر ما تزال تنظر الى إن الحاضر فترة زمنية لايستهان بها، وهو بالرغم من أنه يشير الى أن (إشكالية الزمن) موجودة في كل اللغات ، وهناك آراء تختلف بشأن النظرة الى الزمن، الا انه يصر على أن (الحاضر) لاوجود له، إن لم يصف ذلك الوجود بأنه (أكذوبة).
الزميل العزيز والمترجم والكاتب القدير عبد الحسين صنكور كان له وجهة نظر أكثر عمقا لتقسيمات الزمن وفهم مدلولاته ، بالقول : الخبر هو نوع من السرد بقوانينه وتقنياته . وعنصر الزمن time عنصر أساس من عناصر السردnarrative ، ويظل خاصية مشتركة بين أجناس أدبية وصحفية .. أظن علينا أن نتذكر فقط كيف كان محررو الأخبار في الصحف العراقية يغيرون كلمة..اليوم..إلى..أمس..في الأخبار الواردة من وكالة الأنباء العراقية قبل نشرها في صحفهم…
وإستعرض زميلنا عبد الحسين صنكور تلك الإشكالية بالقول : للزمن مفهومان أحدهما فلسفي والآخر واقعي.. فيما يتعلق بالسرد.. لذا حاول الأستاذ الدكتور عبد الملك مرتاض في كتابه المهم ..في نظرية الرواية..بحث في تقنيات السرد..الكويت.. تصنيف الزمن الى خمسة أنواع..أولها الزمن المتواصل..وهو الزمن الذي يمضي متواصلا دون إمكانية إفلاته من سلطان التوقف..وثانيهما الزمن المتعاقب..وهو الزمن الدائري لا الطولي ، ولعله يدور حول نفسه . وثالثهما الزمن المنقطع أو المتشظي .. وهو الزمن الذي يتمخض لحين معين أو حدث معين ، حتى إذا انتهى إلى غايته إنقطع و وتوقف .ورابعها الزمن الغائب ..وهو الزمن المتصل بأطوار الناس حين ينامون أو يقعون في غيبوبة وقبل تكون الوعي بالزمن عند الفرد .وخامسها الزمن الذاتي أو النفسي..فالمدة الزمنية من حيث هي كينونة موضوعية لا تساوي الا نفسها ..ولكن الذات تحول العادي إلى غير عادي والقصير الى طويل او تحويل الزمن الطويل إلى قصير في لحظات السعادة أو الانتحار.
زميلنا الاعلامي الدكتور خالد مبرك الغانجي من تونس كان قد أشار ضمن تعليقه على موضوعنا المثار الى ان اللغة الفرنسية كانت قد حلت بعض (إشكالات) من هذا النوع بأن قسمت الفعل الماضي الى ثلاث مراحل (البعيد والقريب والمتوسط) لكن اللغة العربية اهتمت بالمنمنات والتزويقات اللفظية أكثر من اهتمامها بالتعبير عن الفترات الزمنية لحالات وقوع الحدث.
(البعض) من الأكاديميين في الشأن الإعلامي ومنهم الدكتور أكرم الربيعي يرى ان الخبر مثل (سلعة) ينتهي مفعولها لحظة شرائها او اقتنائها، وقد يصح إستخدام كلمة (سلعة) من وجهة نظري على طريقة (عرض الخبر) من حيث ( الإثارة) و(الترويج) للسلعة، ولكن ليس على طريقة تفاعله الزمني، لأن (الكاشان الإيراني) هو (سلعة) كذلك ، لكنه ما ان تمر عليه فترة طويلة حتى يزداد بريقا ويرتفع ثمنه، وليس كل ما صنع في الماضي، هو (ماض) مادام معروضا في الحاضر ويجد الإقبال عليه من كثيرين.
في حين يرى الكاتب والاديب والفنان المعروف سعد الجبوري ان النقاش الحالي بشأن صياغة الخبر في الزمن الماضي او الحاضر، تعيد بنا الاذهان الى ما أسماها بـ (المرحلة السفسطائية) وهي فترة مهمة في تأريخ الحضارة اليونانية والأغريقية التي إعتمدت (الجدل) كطريقة لإثارة نقاشات من هذا النوع، أغنت الكثير من العلوم والفلسفات، لكنها لم تتوصل الى نتيجة، مايدخل موضوعات من هذا النوع في مرحلة (الجدل البيزنطي) من وجهة نظره..
ومع هذا ندعو المهتمين باللغة العربية والضليعين في الشأن الإعلامي للبحث بجدية في موضوعات ربما يتطلب التطور العصري خوض غمار نقاشات ترتقي الى مستوى الآمال والتطلعات وتقدم خدمة للبشرية، بما تضيفه من ملاحظات قيمة.
كما ندعو كل الاساتذة والزملاء والمهتمين بموضوعات (جدلية) من هذا النوع إغناء النقاش بملاحظاتهم، حتى يمكن التوصل الى (صيغة مشتركة) بشأن إستخدامات ( زمن الماضي) في الخبر الصحفي، والذى رأي فيه آخرون أننا بحاجة الى نقاش جدي يعيننا فيه أصحاب اللغة والضالعين فيها ومن المحترفين في الحقل الصحفي، لكي يكون بالامكان وضع (ضوابط) أخرى للخبر تخرجه من حالة الرتابة التي هو عليها الان، وتنقذه من (ظلم) الزمن الماضي الذي إستحوذ على مساحة واسعة من فترة بناء الخبر وصياغته،حتى تساوى فيه (الزمن) بين (الثانية) و(القرن) بالرغم من تباعد الفترات الزمنية عبر قرون ، وبالرغم من ان معظم الاخبار تدخل في مرحلة (الزمن الحاضر) أي (الحالية) ..بمعنى آخر ان كثيرا من الأخبار وتفاعلاتها والتنبؤات بشأنها ما تزال في مرحلة (الحاضر) ، وهذا الموضوع يخدم تطور الصحافة، إن لم يشكل (إنتقالة نوعية) لو وضعها المهتمون بـ (الاحتراف الصحفي) في الدرجات المتقدمة من الاهتمام في مستقبل قريب..وتبقى ملاحظاتكم القيمة محل تقديرنا واعتزانا مع وافر التقدير والاحترام لجميع المشاركين.