1 فبراير، 2025 8:53 م

رواية “بلاد السين – الأم الرؤوم” ل”محمد الطيب” بين المخطوطة وصورة الرواية الأخيرة”

رواية “بلاد السين – الأم الرؤوم” ل”محمد الطيب” بين المخطوطة وصورة الرواية الأخيرة”

دور أدوات وتقنيات السرد في تحقيق “إغواء القراءة

 كتب : صلاح محمد الحسن القويضي- السودان

 (1)

لعل من حسن حظي، وربما من سوء حظ محمد الطيب، أنني قرأت “بلاد السين” في ثلاث مسودات مختلفة. كانت النسخة الثانية مختلفة “تمامًا” عن النسخة الأولى. بينما جاءت النسخة الثالثة مختلفة “كثيرًا” عن الثانية. وها أنا أقرؤها في نسختها الرابعة التي فازت بجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (مركز عبد الكريم ميرغني).

رغم ذلك الاختلاف فقد تحققت في الرواية مقولة ميخائيل بولغاكوف، على لسان البرفسور فولند، الذي هو عزازيل ذاته، في رواية “الشيطان يزور موسكو” (المخطوطات لا تحترق).

فعلى الرغم من التعديلات الجذرية التي أدخلها محمد الطيب على “المخطوطة الأصلية”، بما في ذلك إلغاء “عالم النمل الموازي”، إلا أن روح “المخطوطة” ظلت باقية حتى الخروج الأخير للرواية لتصبح “ملكًا عامًا” للقراء، لا حق لمحمد الطيب في تعديله.

والحقيقة أن “المحافظة “على “روح” “المخطوطة / المسودة” في غمرة هذه التعديلات الضخمة عملية محفوفة بالمخاطر والمحاذير. وقد لا ينجح فيها إلا روائي “حكاء” حاذق، ومتمكن في ذات الوقت من أدوات وتقنيات السرد.

ولعل ذلك هو السبب في أن الكثير من الروائيين السودانيين “يتخوفون” من “مراجعة” مسودات رواياتهم فيفضلون الإبقاء على ما في سردياتهم من “ترهل” بدلًا من خوض “مغامرة” غير مأمونة العواقب، كما فعل محمد الطيب.

قصدت بعبارة “روح المخطوطة” فكرتها الأولى التي “تصعق” الكاتب، ولحظتها التي يلتقطها “راداره السردي”، فتجعل رغبة السرد تجري في عروقه، وتمتد “يده إلى قلمه” أو “أصابعه إلى لوحة مفاتيح حاسوبه” فيدون (مخطوطته / مسودته) الأولية.

و”الفارق” بين “المخطوطة / المسودة” وصورة الرواية بين يدي القارئ تصنعه “أدوات السرد وتقنياته” التي يحول بها الكاتب “الحكاية / المسودة” إلى “سردية” جديرة بأن تُغوي القارئ وتشده إلى عوالمها من مبتدأ عنوانها وحتى آخر كلمة فيها، تمامًا كما يصنع المشي الطريق.

وذلك ما سأحاول أن استجليه في “المحاولة” التالية

كنت قد قلت في أول “رؤية جمالية” لي، كتبتها قبل 6 سنوات، عن رواية “ذكرى حروب قادمة” للصديق اللدود عثمان شنقر :

(يكتب الروائي ليُقرأ … ولكي يُقرأ لا بد له أن يُغوي بالقراءة … ولكي يًغوي بالقراءة، لا بد له أن يُدهش … ولكي يُدهش لا بد أن يكون متمكنًا من تقنيات السرد وأدواته).

لكن الإدهاش وحده لا يكفي. فلكي يواصل القارئ قراءته لا بد أن يستمتع. ولا بد له بعد ذلك أن يجد “بعض” ذاته أو “عوالمه” في النص السردي. ولكي يكتمل الاستمتاع لا بد للإبداع السردي أن يحلق بالقارئ في “فضاءات” مختلفة.

وظل ذلك هو معياري للحكم على جمالية النصوص السردية التي اتناولها بالبحث عن عناصر “الإغواء السردي” وتمظهراتها في “الإدهاش”، و”الإمتاع”، و”قول عوالم المتلقي”، والتحليق به في “عوالم مختلفة” على أجنحة تقنيات السرد وأساليبه المتعدد.

وبقيني أن الروائي “الشاب” محمد الطيب استطاع في سرديته “بلاد السين – الأم الرؤوم” أن يحقق قدرًا مناسبًا من الإغواء يجعل منها رواية جديرة بالقراءة، ومن ثم قول كلمة عنها. وهو في ذلك يستند إلى خبرة راكمها في مسيرته “السردية” منذ الحبل السري “دار ثقافة للنشر والتوزيع – 2016م” وروحسد “الدار العربية للعلوم – 2017م” وحلة جابر “دار نرتقي – 2020م”. واعتقد أن “بلاد السين” سابقة، في مسودتها الأولى، على “حلة جابر”.

ولعل ذلك الوقت الذي أمضاه محمد الطيب في “تجويد” المسودة هو أحد الأسباب التي جعلت الرواية متميزة، وأهلتها للفوز بإحدى أرفع جائزتين أدبيتين في السودان، جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي التي ينظمها مركز عبد الكريم ميرغني.

الإدهاش:

الواقع ان عناصر “الإغواء السردي” في (بلاد السين – الام الرؤوم) تتداخل وتتشابك وتتماهى بما يجعل المدهش ممتعًا في ذات الوقت. عنوان الرواية أول أدوات الإغواء التي يستخدمها محمد الطيب. فالعنوان ينطوي على “خدعة لغوية” لا تتكشف للإنسان إلا وهو يتوغل في القراءة. فبينما يوحي العنوان بأن “الأم الرؤوم” هي صفة ل «بلاد السين” يكتشف المتلقي من خلال القراءة أن الأمر ليس كذلك. وأن “الأم الرؤوم” هي على العكس من ذلك “لعنة” أصابت “بلاد السين” التي يتركها محمد الطيب “مُلغزةً” هكذا ليمنح القاريْ متعة استكناهها ومعرفة أي البلاد هي.

(تحدثت القنوات الإعلامية الرسمية عن رغبة الجماعات الانفصالية في تفتيت بلاد السين، وتحقيق مصالحها الذاتية، بعيداً عن مصلحة السينيين، تحدثوا عن أنّ الأم الرؤوم، هي درع الأمان الذي يحميهم من حمام الدم، الذي تعد له تلك الجماعات، وتقف من خلفها بلاد العين) ص ١٥١ من الرواية

لكن محمد الطيب لا يترك الأمر في إلغاز مطلق، بل يقدم “مذكرة تفسيرية” موجزة، حينما يضع على صدر سرديته قول الشاعر محي الذين فارس:

(إنَّ الطَّريقَ مُخَضَّبٌ بدَمِ الصَّبَاحَاتِ المُعنة

مَا دَامَ بَيْتُكَ فــي لَهِيبِ النَّارِ مُشــــْتَعِلُ الأكنَّة)

وإذا كان نص محي الذين فارس الشعري يشكل إضاءة تعين القارئ في تجواله بين ثنايا النص فإن إيراد المقال النقدي “الممتاز” للأستاذ الدكتور جبارة عبد الله محمد الحسن، أستاذ اللغويات في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة الخرطوم، لم يكن خيارُا موفقًا. فالمقال النقدي المذكور “يكشف” أوراق الرواية قبل أن يبدأ القارئ في تصفحها. بينما ينبغي لقراءة النص السردي ان تكون استكشافًا في عوالم السرد البكر وفضًا لعذرية” النص. أتمنى أن ينتبه المؤلف والناشر لذلك في الطبعة القادمة للرواية في سلسلة “الجوائز” التي ستبتدرها قريبًا دار “نرتقي للنشر”

الواقع أن محمد الطيب قد استخدم في (بلاد السين – الأم الرؤوم) العديد من تقنيات وأساليب السرد و”حيله” ليغوي القارئ ويدهشه وصولًا إلى قمم من الإمتاع. والحقيقة أن السردية في مجملها سردية “ذات رسالة” وهي في ذلك تتماهى مع سرديات “كشف السحر” الأسود بخلق “سحر سردي” يسلط الضوء على “أسرار” السحر الأسود في الواقع ويفضحه ويحصن القارئ ضده. ومن سرديات “كشف السحر الأسود” الواقعي رواية ميخائيل بولغاكوف العظبمة “الشيطان يزور موسكو”، وقصة “الغزالة” لمحمد عبد الله كبلو. وتمامًا كسابقتيها، توسلت سردية محمد الطيب التي بين أيدينا لإنفاذ رسالتها بأدوات وتقنيات سردية برع في استخدامها.

التخييل الساخر:

التقط محمد الطيب اللحظة التاريخية التي ابتدأت بوصول “الكيزان” للسلطة في السودان. ولكنه سجل تفاصيل تلك اللحظة التاريخية من خلال “مشاهد مخيلة” تحيل القارئ إلى مشاهد موازية لها على أرض الواقع. وقد عبر عن ذلك الدكتور جبارة عبد الله محمد الحسن في رؤيته النقدية البارعة المنشورة كمقدمة للرواية حين كتب أن محم الطيب قد عرض تلك اللحظة التاريخية:

(في مسرحة رائعة للأحداث، استخدم الكاتب وسائلَاً وضروباً من البراعة الفنية، تعكس تمكنه من الإشارات الرمزية، والتهكم والهجاء الساخر، والسخرية الاستهزائية المضحكة، والسخرية المحضة، والوصف الحسّي والموضوعي، والأسلوب المباشر وغير المباشر.)

غير ان كل هذه “الأقنعة السردية” لا تؤثر البتة في إحساس القارئ الحصيف بأنه يشاهد “نسخة مخيلة” للعوالم التي عاشها خلال تلك الفترة السوداء من تاريخ “بلاد السين” والتي لن يتأخر في اكتشاف أنها الاسم “السردي” ل”بلاد السودان”.

العوالم الموازية:

وبذات الأسلوب الساخر يستعرض محمد الطيب في سرديته تفاصيل “احداث واقعية” في صورتها الكوميدية المتخيلة, بدون أن يفقد القارئ الإحساس بان هذه المشاهد انما هي استعادة سردية لوقائع عاشها في العالم “الحقيقي”. وهو بذلك يثير عصفًا ذهنيًا “ممتعًا” ينفذ من خلاله القارئ إلى دلالات أحداث سردية مثل “سباق الحمير”، و”مهرجان الشعر الرديء السنوي”، وظاهرة تفشي “تساقط الاسنان”، و” مسيرة الندم والتوبة. وكلها لحظات معروضة بأسلوب ساخر يكشف “قُبح” الواقع الموازي الذي عشناه طوال ثلاث عقود من الزمان:

(كان يشعر بالعار والخجل، ما الذي يحدث؟ ولماذا؟ لقد كان دائماً يسير بجوار الحائط، لا يتحدث في السياسة ولا تشغل باله، يمارس عمله بإخلاص، ويطيع وصية عمه، يتابع مهرجانات الحمير والشعر الرديء، كان يظنّ نفسه مواطناً مثالياً، تنكّر لأبيه وسيرته من أجل تجنب مراكز الأمن الشعبي، ولكن ها هو الآن يقف عارياً في إحداها، دون أن يعرف ما هي تهمته، وما الذي فعله، لقد ألقى أكثر من عشر بيضات فاسدة في مهرجان الشعر الرديء، للأسف كان حظّه من الطماطم الفاسدة أكثر، ولكن هل هذه تهمة تكفي لجرّه إلى هنا؟ حتى مسيرة الندم والتوبة اكتفى بمتابعتها من النافذة، ولم ينزل إلى ساحة الحي كما فعل الجميع.) ص 6

 

إثارة الأسئلة:

وتدخل الرواية وهي تقترب من خاتمتها عوالم الواقعية السحرية حينما تتداخل “عوالم البشر” و”عوالم النمل” في برزخية تفرض على القارئ عصفًا ذهنيًا ليفرز تلك العوالم ويكتشف مدلولات تداخلها. القارئ المعاصر فاعل إيجابي في “السرد” لقد انتهى عهد السرد الذي “يقدم الحلول السهلة” لندخل في عصر السرد الذي “يطرح الأسئلة” ويثير “العصف الذهني”، ليتيح بذلك لكل قارئ أن يكتب في ذائقته النسخة الخاصة به من السردية. وتبقى أن يدرك نقادنا (الأجلاء) تلك الحقيقة فيجترحوا معايير نقدية تناسب (مقاسات) ذلك التوجه، بدلًا من (قصقصة أقدامه) لتناسب معاييرهم البالية.

أكيد ظني أن (بلاد السين – الأم الرؤوم) قد نجحت في طرح الأسئلة وإثارة العصف الذهني في كل لحظاتها السردية، لكن على وجه الخصوص في خاتمتها التي تفتح الأفق لتأويلات بعدد قارئيها.

(نعم اقترب أكثر، الآن هل لاحظت للنملة الأولى؟ هل ترى ملامحها بشكل واضح، هل ترى كم البؤس الذي يسكن في تفاصيل وجهها المسحوب، هل ترى نظرة القهر واليأس التي تسكن عينيها؟ حسناً دعك منها ولتنظر للنملة التي تليها، دقق أكثر، ألا تبدو أكثر ضخامة وتمشي بخيلاء واضحة، لو كنت تملك القليل من الخيال لظننتها تحرس النملة الأولى، وكأنها ستهرب بحبة الذرة التي تبلغ ضعفي حجمها، والتي بالكاد تستطيع حملها والسير، في ذات الوقت بخطوات منتظمة وثابتة، حسناً ظنك صحيح، تلك النملة الحارسة، التي تقتل كلّ أمل للنملة الحاملة لحبة الذرة في الانعتاق، رغم استسلامها لقدرها، ولكن وجودها خلفها يذكّرها دائماً بعدم جدوى التفكير في الهروب، هل ترى النملة الثالثة، نعم تلك التي تحيد عن المسار بمليمترات قليلة جهة اليمين تارة، وجهة اليسار تارة أخرى، تلك الحركة التي تكاد لا ترى من فرط سرعتها ودقتها، ثم تعود للمسار، كأنها تراقب النملة الحاملة والنملة الحارسة، دعنا نسميها النملة الجاسوسة، التي تنقل أخبار النملتين أولاً بأول للنملة الرائعة، التي تتخذ ذات المسار المتعرج المستقيم في نفس الوقت، والتي بدورها تنقلها للخامسة فالسادسة فالتاسعة، هل وصلنا للنملة العاشرة الآن؟ هل ترى الأبهة التي تحيط بها، تلك هي التي ينتهي عندها خبر حبة الذرة البيضاء، وحاملتها وحارسها وجواسيسها.

قطع عليه حبل ذكرياته ولوج فتاة إلى المكان، كانت ساحرة في زيها المدرسي مثل طيف يزور في الأحلام، احتضنته ثم قبلته على خده، ألقت حقيبتها في إهمال، وجلست بجواره تحكي عمَّا صادفها خلال يومها وهو ينصت إليها في اهتمام، عقدت حاجبيها في عبوس مصطنع وهي تقول في دلال:

– ما زلت متعجبة من تسميتك لي بطيف.

ابتسم في حنان وداعب شعرها المنسدل على كتفيها وقال مبتسماً:

الطيف عزاء عن كلّ حقيقة لم نستطع تحقيقها، صدقيني!) آخر صفحات الرواية

لا اعتقد أنني قلت كل ما عندي حول سردية محمد الطيب، آملًا في استكمال رؤيتي عند تدشين طبعتها الثانية القادمة بإذن الله بعد أن اوشكت الطبعة الحالية على النفاد.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة