25 فبراير، 2025 12:51 ص

إكسير الموت والحياة !

إكسير الموت والحياة !

قصة قصيرة

خاص : بقلم – عدة بن عطية الحاج (ابن الريف) :

لفظ “مأمون” أنفاسه الأخيرة وهو يودّع هذه الحياة الدنيا، مات “مأمون” وهو في ميعة الشباب وشرخ الصبا، مات ذلك الفتي الطموح الذي كان يحلم بأن يُصبح طيّارًا يُحلّق في الأجواء البعيدة، مات ذلك الفتى الوسيم الذي كان حلم كلّ فتاة، مات ذلك الفتى الوديع وماتت معه أحلامه الوردية وطموحاته المخملية، كان “مأمون” الإبن الوحيد لعائلة ثرية تقطن في ذلك الحيّ الراقي في تلك المدينة العجيبة، كان “مأمون” يُعاني من مرض فقر الدم الذي أصابه وهو يبلغ من العمر عشر سنين وتطوّر المرض إلى أن أصبح سرطانًا في الدم.

قاوم وليد بكلّ رباطة جأش ذلك الداء الخبيث، وصار يكتب القصّة والرواية والشعر وصار يستمع إلى روائع الموسيقى الكلاسيكية كسنفونية “موزار” وسنفونية “بتهوفن”، وكان دائمًا يستمع إلى رائعة موسيقار الأجيال “محمّد عبدالوهاب”؛ والتي عنوانها: (حياتي حلم لم يتحقّق)، كان “مأمون” وهو يُكابد عناء المرض يواجه ذلك الداء الخبيث بكلّ صبر وأناة، كان يُصرّ دائمًا على التفاؤل وعلى حبّ الحياة ومواجهة صعابها مهما كلّفه ذلك من ألم وشكوى وآهات وبلوى ومعاناة.

كان “مأمون” دائمًا يُفكّر في والدته العجوز التي تُحبّه حبًّا جمًّا ولا تستطيع فراقه، دخلت عليه ذات يوم عبوس وهي تنوح نوحًا شديدًا قائلة له: يا حبيبي ويا قرّة عيني ويا مهجة روحي ويا ماء شيخوختي وشبابي، إنّي لا أستطيع أن أفارقك، إنّي أحبّك حبّ “آدم” لنجله “هابيل”، ليتني متّ قبل أن أراك في هذه الحالة التي لا تسرّ العدوّ ولا الصديق، أنت شمعتي الوحيدة التي أنارت ظلام حياتي، عمّا قليل سترحل إلى عالمك السعيد.

ـ قال “مأمون” لأمّه وهو يُكفكف دموعه الحارة المنسابة على خدّه الأسيل: يا أمّاه، لا تجزعي من لوعة الفراق، سنلتقي هناك في عالم السعادة والفرح والحبور، وستغمرنا الأفراح والأيّام والليالي الملاح، سنكون هناك بدون أجساد وبدون أرواح، سنتحوّل إلى نجوم وكواكب التي ستُضيء هذا العالم الفاني الكئيب، سنُصلّي من أجل الإنسانية جمعاء، لقد سئمنا من ويلات الحروب وكروبها، نُريد أن يحلّ السلام الأبدي في كلّ أرجاء المعمورة، لقد صارت الأيّام والليالي متشابهة يسودها الروتين القاتل، صرنا لا نرى إلاّ مشاهد الموت والدّمار والفناء.

ـ قالت له والدته وهي تتجرّع غصّة فراق ولدها: يا بُنيّ، قاوم المرض بكلّ شجاعة أدبية وبدنية، لا تستسلم لأوهام المرض ولترّهاته، كن شجاعًا بطلاً باسلاً يواجه الصعاب كأنّه أسد هصور ضاري، لم يبق لي في الدنيا من أعيش من أجله إلاّ أنت، يا حبيبي ويا فلذة كبدي.

أشتدّ المرض على “مأمون” وهجم عليه هجوم اللصوص على البنوك، وفاضت روحه وملأت الدنيا نورًا، واستحالت روحه إلى كوكب دُرّيّ يوقد من شجرة مباركة لا شرقية ولا غربية، لقد صار “مأمون” يرى هذا العالم من علياء سمائه، عندما مات “مأمون” لبست المدينة لُباس الحداد، وجاء المعزّون من كلّ مكان وتدفقوا دفقان السيل على المنحدر، صاحت المدينة وأطلقت عقيرتها بالصراخ: أرحموا عزيز قوم ذلّ، لقد فقدت المدينة أحد رموزها وأقطابها الفاعلين في المجتمع، لقد أنطفأت شمعة ذلك الشاعر الأديب الذي آثر أن يُحلّق في أجواء الإبداع بعيدًا عن عالمنا، لقد عاش غريبًا ومات غريبًا وسيُحشر في زمرة الغرباء الذين مرّوا على هذا العالم السّادر المزوّر من صلف، لقد آثر هذا الطائر العجيب العيش في مدن الأحلام الورديّة المخملية التي تسكن السعادة في أحشائها وفي روحها وفي جوهرها وفي إكسيرها.

قام أهله بتغسيله بالماء والكافور والسدر وقاموا بتحنيطه وتكفينه وحملوه على آلة حدباء، وكان حملة القرآن يتلون قصيدة البردة حتّى وصلوا إلى المقبرة وتوقف الموكب الجنائزي هناك، تقدّم الإمام من أجل الصلاة عليه وقبل هذا كان قد ألقى خطبة التأبين وهذا نصّها: “لقد فقدت المدينة نورها الذي كان يُشعّ في كلّ مكان، لقد ترجّل هذا الفارس عن صهوة حصانه وآثر أن يبقى في رحاب الأبدية، أيّها الشاعر الأديب، أيّها المفكّر الأريب، نتمنى لروحك السكينة والسلام، نم قرير العين يا فارس اللغة العربية ويا أمير البيان، فوداعًا يا أيّها الخلّ الوفيّ إلى أن نلتقي هناك”.

صلّى عليه الإمام والمشيّعون صلاة الجنازة ووسّدوه في التراب؛ حيث سيُرقد هناك، وصار “مأمون” نسيًّا منسيّا عند من لا يعرفون قيمته العلمية وقامته الادبية، ستذكره الأجيال بكلّ خير، لأنّه ساهم في نهضة أمّته وساهم في بناء صرحها الحضاري، مات “مأمون” في صمت رهيب ومعه مات الإبداع الذي كان يُشعّ في تلك المدينة العجيبة الغريبة، لقد آثر “مأمون” أن يعيش في عالم المثال الذي شيّده “أفلاطون” في جمهوريته الخيالية، وأخيرًا وجد ضالته المنشودة في ذلك العالم السحري العجائبي والغرائبي، فوداعًا يا “مأمون” وداعًا، إلى أن نلتقي ولو بعد حين.

تمت

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة