خاص : بقلم – د. جودة عبدالخالق :
كنت أنوي أن أتابع الكتابة في توضيح الفارق بين الدولة والحكومة، وتصحيح الأخطاء الشائعة في الخطاب الرسمي ونمط التفكير السلطوي عندنا. لكن اندلاع الصراع العسكري في أوكرانيا فرض نفسه، بالنظر إلى آثاره المتعددة على مصر.
ليس المقصود بالعندليب هنا مطربنا الأسمر. بل المقصود ذلك الطائر الوديع صاحب أحد أكثر الأصوات عذوبة في الطبيعة. فالعندليب هو الرمز الوطني لأوكرانيا. أما الدب، فهو يرمز لروسيا. هو في نظر الروس رمز للطيبة والوداعة، ولذلك اختاروه تميمة للألعاب الأوليمبية في موسكو عام 1985. لكن الغرب دأب على تصويره منذ فترة الحرب الباردة على أنه رمز للعدوانية والشراسة. حاول أن تتصور معي عزيزي القاريء ماذا ستكون نتيجة المواجهة بين الدب والعندليب – أقصد بين روسيا وأوكرانيا. السؤال المطروح هنا على جانب كبير من التعقيد بسبب تداخل معطيات الجغرافيا السياسية مع شبكة معقدة من العلاقات بين أطراف عدة ذات حسابات متباينة في هذه البقعة الحساسة من أوروبا. فأوكرانيا تقع على خط التماس في أوروبا بين الشرق والغرب.
لقد تعددت الأسئلة بمناسبة هذا الصراع. ما هي الآثار المحتملة التي تُنتج عنه ؟.. وما هي آثار الحرب بين روسيا وأوكرانيا على مصر ؟.. وما هي الدروس المستفادة من تداعيات هذا النزاع المسلح ؟.. عالميًا، هناك تأثيرات على أسواق الطاقة والغذاء. فها هو سعر النفط يقترب من: 100 دولار للبرميل. وها هو سعر القمح يقترب من: 400 دولار للطن. وفي ضوء المعلومات المتاحة، ستتركز أهم آثار النزاع المسلح بين روسيا وأوكرانيا على مصر في مجالات الطاقة والغذاء والنقل والسياحة. وطبقًا للبيانات المبدئية لعام 2021، يميل الميزان التجاري بين مصر وأوكرانيا ميلاً شديدًا لصالح الأخيرة. فقد بلغت قيمة إجمالي التبادل التجاري للسلع والخدمات بين مصر وأوكرانيا حوالي: 2 مليار دولار، منها حوالي: 1.8 مليار واردات مصرية من أوكرانيا والباقي صادرات مصرية لأوكرانيا؛ أهمها الفواكه الطازجة. وتأتي الحبوب (القمح والذرة الصفراء) على رأس قائمة واردات مصر من أوكرانيا. وبالمعيار الإستراتيجي، تُمثل وارداتنا من القمح من أوكرانيا أهمية خاصة. إذ أن أوكرانيا إلى جانب روسيا هما أكبر موردي القمح إلى مصر ومن أكبر مُنتجي ومُصدري القمح على مستوى العالم.
ما هي مجمل التأثيرات على مصر ؟.. نُركز على المجالات الثلاثة الأهم: الطاقة والغذاء والنقل. فعلى خلفية الصراع بين الدب والعندليب، ارتفع سعر النفط إلى حدود: 100 دولار للبرميل. كما ارتفع سعر القمح ليقترب من: 400 دولار للطن. وتسعى أوروبا لتعويض تراجع إمدادات الطاقة من البترول والغاز من روسيا بالاعتماد على دول عربية مثل: قطر والسعودية والجزائر ومصر؛ مما يعني زيادة دخل “قناة السويس” وخط أنابيب (سوميد). محصلة كل ذلك هي زيادة العجز في الموازنة العامة للدولة بمفعول الارتفاع الكبير في أسعار البترول والقمح مقارنة بالأسعار التي بُنيت عليها حسابات الموازنة – باعتبار مصر مستوردًا صافيًا للبترول. يُضاف إلى ذلك اضطرار مصر للبحث عن مناشيء بديلة للحصول على احتياجاتها من القمح. كما أن ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء سيُزيد العجز في ميزان المدفوعات، وبالتالي سيُزيد الضغوط على قيمة الجنيه المصري. وقد يُقلل من هذه الضغوط على ميزان المدفوعات ارتفاع عائدات المرور في “قناة السويس” وخط (سوميد).
ما هي الدروس المستفادة بالنسبة لصانع القرار عندنا ؟.. لقد كشفت الأزمة مدى هشاشة اقتصادنا إزاء الصدمات الخارجية. كما كشفت عواقب تجاهل صانع القرار لأهمية ضمان الأمن الغذائي للبلاد. ولعل الأزمة الحالية تكون بمثابة “نوبة صحيان” كما يقولون. فتكون دافعًا لنا لمراجعة أولوياتنا. نحن بحاجة إلى مراجعة سياسات الاستثمار التي ركزت على البنية الأساسية والعقارات وأهملت قطاعات الإنتاج الحقيقي وهي الزراعة والصناعة. إن ملف الأمن الغذائي عندنا في حاجة ماسة إلى إعادة نظر جذرية. فالزراعة والفلاح، وكذلك الصناعة والعامل، تُشكل الأساس الذي لا بديل عنه لتعزيز أمننا الغذائي وتحصين اقتصادنا في مواجهة الصدمات الخارجية. هنا كلام كثير يقال. ولكن ما جدوى الكلام إذا لم يكن هناك من يسمع.