الحرب “الروسية-الأوكرانية” (1) .. زاوية رؤية مختلفة !

الحرب “الروسية-الأوكرانية” (1) .. زاوية رؤية مختلفة !

خاص : بقلم – د. مجدي عبدالحميد :

كاتب صحافي ومحلل سياسي

يبدو للوهلة الأولى أن الصراع الدائر الآن على الحدود “الروسية-الأوكرانية”؛ وكأنه أحد النزاعات المناطقية التقليدية بين دولتين بينهما مشكلات تاريخية وحدود مشتركة وفقط، أو هكذا يتم محاولة تصويره والترويج له، دولة كبيرة تمتلك القوة ولديها أطماع توسعية تسعى للسيطرة على جارتها التاريخية الصغيرة التي لا حول لها ولا قوة، فهل هذا المنطق البسيط الساذج، حتى لو كان ظاهره يتضمن جزء من الحقيقة، بكافٍ لتفسير ما يجري ؟

منذ إنهيار “الاتحاد السوفياتي” القديم وتفكيك مكوناته والإنفراد المؤقت لـ”أميركا” كقطب وحيد يقود العالم الرأسمالي والإعلان الرسمي عن هزيمة أحد المحاولات الإنسانية التي استمرت قرابة المئة عام؛ منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وإرهاصاتها الفكرية الكبرى على مدى قرن آخر أسبق؛ والتي لم تنجح في التغلب على والانتصار لأفكارها النبيلة الساعية لخلق عالم أكثر إنسانية لأسباب عديدة، منها النظري وأيضًا في التطبيق العملي، والصراع لم يتوقف لحظة واحدة لإشباع أطماع السيطرة والنهم الرأسمالي المتوحش؛ الكائن والمكون الأصيل للفكرة الرأسمالية نفسها من ناحية، والسعي الطبيعي الغريزي لدى الإنسان للبقاء والاستمرار والفكاك من هيمنة وقهر والنزعات المتوحشة للإنسان؛ والتي بلورها بكل وضوح ونقاء مفكري وصانعي ومطبقي الرأسمالية في صورتها النقية شديدة الوضوح والصراحة في مراحلها الحالية والنهائية.

ومع الإعتذار عن عدم الدخول الآن في المقدمات التاريخية والسياقات الكثيرة التي أوصلتنا إلى اللحظة الراهنة، تلك المقدمات التي تحتاج إلى الكثير من الشروحات والتوضيح، والتي أعتقد أيضًا أنها معلومة بقدر كبير لنا جميعًا بحكم معايشتها من ناحية؛ والإلمام بمقدماتها التي جرت وقائعها خلال الخمسين سنة الماضية من ناحية أخرى، ففي إعتقادي أن ما يجري الآن هو وبدرجة من الجرأة في الطرح ذروة لأزمة النظام الرأسمالي العالمي، ربما تأخرت قليلاً، ربما تم تأجيلها ومحاولة تجنب حتميتها لسنوات طوال، وربما يُحاول أقطابها تمريرها بأقل قدر ممكن من الخسائر، ليس من قبيل الحرص على البشر، بقدر الرعب من النتائج النهائية التي قد تؤدي إلى تدمير مكتسباتهم وتصدع النظام بأكمله تمهيدًا لجولة جديدة من جولات صراع الإنسان الحديث من أجل البقاء والاستمرار، جولة لا يعرفون أو حتى يتخيلون أبعادها وشكلها الجديد.

إن ما يجري الآن هو من حيث الجوهر؛ وبغض النظر عن نوعية الأسلحة والأدوات المستخدمة، حرب عالمية مكتملة الأركان، حرب سيكون لها الكثير من النتائج والتغييرات الجذرية في شكل الحياة على ذلك الكوكب، وهذا لا يعني بالضرورة أن ذلك سيتم ويُنجز بالغد القريب، ولكنه بدأ ولن ينتهِ قبل أن تحدث تغييرات كبرى مهما طال أمد تلك الحرب، لأنها ببساطة، قد تبدو ساذجة بعض الشيء من فرط بساطتها، تُشير إلى أن أزمة النظام الرأسمالي، فكرًا وممارسة، “جابت آخرها” ولن تنجح معها جميع محاولات الترقيع، فالثوب قد تهتك تمامًا بفعل الطمع الوحشي المتلازم للفكرة نفسها من ناحية؛ والعُري الذي أصاب الأغلبية الكاسحة من البشر والذي لم يُعد ذلك الثوب بقادر أكثر من ذلك على تغطيته، فهي مسألة وقت ليس أكثر.

لا نستطيع القول بأن هذا الصراع هو صراع بين الغرب الرأسمالي الذي يحمل لواء الدفاع عن قيم الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، في مواجهة شرق يُدافع عن ويتبنى قيم العدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر حتى لو كان على حساب التضحية بقيم الحرية وحقوق الإنسان، فهو في الحقيقة وبداية، صراع بين أطراف تحمل نفس القيم والمباديء والأسس الرأسمالية غير العادلة؛ والتي توحشت بشكل أصبح يُشكل كابوسًا مزعجًا للإنسانية جمعاء، صراع من داخل وبين أطراف إيديولوجية واحدة، ولا يوجد أي مبرر سياسي أو أخلاقي أو إنساني يجعلنا ننحاز مبدئيًا لهذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع، وإنما ننظر إليه في سياقه التاريخي ولحظته الراهنة ودلالاته وكيف يستخدم ويتم توظيفه كأحد الأدوات التي يستخدمها ذلك النظام لحل أزماته التي تولدها وتخلفها تفاعلاته الداخلية، ثم ما هي الآثار المترتبة عليه وانعكاساته علينا جميعًا.

هكذا سعي الأوكران بكل ما أوتو من قوة وشوفينية مقيتة وغباء لا يُحسدون عليه، وكأنهم دخلوا مسابقة كبرى للفوز بذلك الشرف، شرف أن تكون الأراضي الأوكرانية هي مسرح العرض الكبير؛ والذي قد يكون العرض الأخير لتلك المرحلة من مراحل أزمة النظام الرأسمالي العالمي، وسعى جميع الأطراف للخروج منها بأقل قدر ممكن من الخسائر، والذي سيؤدي حتمًا لإعادة ترسيم خريطة العالم.

إن صناعة وتجارة السلاح وتأجيج وخلق بؤر للصراع في أنحاء كثيرة من العالم لم تُعد كافية؛ كما لم يُعد لها مبرراتها القوية؛ ولم تُعد مخرجًا مناسبًا لمعالجة مشكلات العالم الاقتصادية؛ وتخفيف أزمة النظام الرأسمالي العالمي، فلم تُعد الحروب الصغيرة المتعددة في: “آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية”؛ تُشكل مخرجًا أو منفذًا طبيعيًا لأزمة النظام العالمي، ولم تُعد الاقتصادات القائمة على صناعة وتجارة السلاح والمخدرات والأدوية بقادرة على الخروج بالعالم الرأسمالي من أزماته.

لم يُعد أمام الأقطاب المتناحرة من بدائل أخرى سوى الاقتراب أكثر وأكثر من المواجهة المباشرة.

فهل يكون ذلك الصراع نهاية لتحالفات قديمة وبداية لتشكل تحالفات من نوع جديد؛ وخاصة مع غياب الأبعاد الإيديولوجية من الصراع ؟

هل سيُفرز الصراع تحالفات من نوع جديد قائمة على المصالح والأبعاد الجيوسياسية ؟

هل من الوارد أن ينُجم عن هذا الصراع صحوة بأن مشكلات البني أدمين على هذا الكوكب تكمن في جوهر العلاقات التي أفرزها ورسخها النظام الرأسمالي بأنماطه المتعددة شديدة الجشع والطمع والتي لم تُعد تصلح لاستمرار الحياة على ذلك الكوكب ؟

عشرات الأسئلة المصاحبة للأزمة “الروسية-الأوكرانية” الحالية؛ والتي ستمتد آثارها لتطال “أوروبا” غربًا وتمتد آثارها إلى جميع أنحاء العالم.

السؤال الكبير والأكثر الحاحًا الآن والذي يطرحه ذلك الصراع هو، حول مفهوم العدالة الإنسانية. عدالة فرص الحياة المتكافئة للبشر سكان ذلك الكوكب البائس، تلك العدالة التي زاد إختلالها بمعدلات باتت غير محتملة الاستمرار، ولا أقول غير مقبولة فقط، لأنها بالفعل كذلك طول الوقت؛ ولكنها باتت غير محتملة، وبالتالي غير قابلة للاستمرار أكثر من ذلك.

هل سيُنجم عن ذلك الصراع مواجهة شاملة، أو مواجهات تتسع رقعتها جغرافيًا وتمتد أعمق نحو جوهر وطبيعة النظام الذي أفرزها ؟.. أم سيتم محاصرتها وينجح النظام الرأسمالي القائم في تجاوزها مثلما يفعل دائمًا ؟.. وحتى إن نجح في تجاوزها هذه المرة، فهل تُعد إيذانًا باقتراب انفجار ذلك النظام من داخله وإعادة تشكيل الحياة على أسس جديدة أكثر عدالة ؟

أسئلة كثيرة يطرحها الصراع الجاري حاليًا على الأراضي الأوكرانية؛ وليس أحد بمنأى عنها، وإن غدًا لناظره قريب.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة