خاص: إعداد- سماح عادل
هناك رأي يعتبر أن الهوس الذي ينتاب القارئ نحو كاتب ما يأتي نتيجة استطاعة ذلك الكاتب التعبير عن شعور وأحاسيس ومخاوف القارئ، وبالتالي يلمس شيء ما داخل أعماقه، ويجعل القارئ يثق في أحاسيسه وأفكاره، ويشعر أنها تستحق التقدير والكشف.
كما أن هناك آراء تربط الهوس بشهرة الكاتب أو بغزارة أعماله وانتشارها، كما يعتبر البعض هذا الهوس أمر طبيعي ولابد أن يمر به قراء عديدون.
هذا التحقيق يتناول فكرة الهوس بالكاتب أو الكاتبة وقد طرحنا هذه الأسئلة على بعض الكتاب والكاتبات من مختلف البلدان:
- ككاتب هل تعرضت لحالة من الهوس من قارئة ما.. مثل أن تسعى للتعرف عليك أو تتقرب إليك؟ وماذا كان رد فعلك في حالة حدوث ذلك؟
- ما رأيك في هذا النوع من الهوس الذي ينتاب القارئ تجاه كاتب ما وما تفسيره؟
- كقارئ هل انتابك هذا النوع من الهوس تجاه كاتبة.. أو حتى كاتب وأحببت أن تعرف تفاصيل عن حياته، أو اهتميت به خارج حدود نصه؟
- هل يعني هذا الهوس بمعنى ما أن النصوص التي ينشرها الكاتب أصبحت وسيلة لعرض جزء من ذاته على الناس وبالتالي أصبحت بمعنى ما ملكا للجميع؟
حين يرصد الكاتب ما يشعر به القارئ..
يقول الكاتب العراقي “محمد حسين”: “عندما كنت أكتب وأنا طالب في الكلية، ولأن المناخ الجامعي يساعد ويدفع بالكاتب أن يتناول مواضيع ذات طابع رومانسي حالم، بعيد عن الواقع أو غير عميق كفاية. لذا جاءت نصوصي بنكهة شبابية أو قل صبيانية بشكل لافت وكان ذلك بالذات في الصف الأول. في تلك الفترة لم أعرف ما معنى ذلك الهوس الذي يصيب الفتاة تجاه كاتب ما، ربما بسبب أن تلك النصوص كانت عادية جدا ليس فيها شيء يستحق الوقوف أو الحديث عنه، مما يسبب حالة الهوس.
ولكن عندما كتبت قصة “ليلة شرقية” وكان فيها حوار بين البطل والبطلة يغلب عليه الريبة، حوار فيه رغبة وخوف لكل منهما نحو الآخر، برغم الظروف المحيطة بهما والتي كانت غير ملائمة تماما لنوع حوارهما. غير أني كنت قاصدا ذلك لتمثيل حالة مألوفة في وضع غير مألوف. عند هذا الحوار توقفت إحدى القارئات ولم تستطع على الأرجح أن تتعداه وتكمل باقي القصة إلا بعد وقت كما علمت منها بعد ذلك في رسالة ورقية. كتبت فيها فيما معناها؛ أنها أحبت البطل لسبب هو أنه لم يأبه بأجواء الغارة الليلة التي كانت تشنها الطائرات. وتكلم بصراحة مع المرأة، وكتبت لها أنا أيضا فيما معناه؛ بأنني أتمنى أن أتصرف مثله إذا ما وضعت في نفس الموقف، بالطبع لم تتقبل أو تصدق عبارتي كثيرا، ظنا منها بأن البطل هو أنا، وأن الموقف قد عشته بالفعل. إنها خلطت بيني وبين بطل القصة، مما سبب لها إعجاب بشخصي كان الأجدر أن توجهه نحو البطل الورقي. ومن زاوية أخرى فأنها أحبت تفصيل أو جزء من النص. وهذا يدل على أن الذوق يغلب على الفهم العام للنص..
سألت نفسي وقتها لماذا تلقت هذا النص بشكل مختلف عما كنت أكتبه وأنا في الصف الأول، كما قلت لأنها كانت تقرأ ما أكتبه منذ بواكير كتاباتي؛ لأني كنت اعتقد، ومثلي ربما غير قليلين، أن موضوع هوس القارئة لا يعدو كونه تعلق امرأة برجل بسبب كلمات رقيقة أو بسبب شاعرية ذلك الرجل، وربما وسامته البارزة على صورته. ولكن اتضح لي من خلال تجربتي البسيطة مع تلك القارئة؛ بأن الهوس قد يأتي نتيجة أن الكاتب قد وضع سطرا كأنه أفرغه عن لسان إنسان كان يجلس بجانبه. كأنه تلصص بطريقة سحرية على سريرة أحدهم.
شعور الإنسان أن هناك آخر يفهمه هو تأكيد لذلك الإنسان بأنه ليس وحده أبدا، شعور يقلص الخجل ويعطي دفق صحي نحو الثقة والإيمان أكثر بدواخلنا وعدم الاستخفاف أو الخوف بما يسكن فينا.
بعد ذلك تطور الاهتمام بما أكتب حتى تعداه نحو حياتي الشخصية، هنا بدأت أشعر بقلق أو بحالة غير مريحة. كأن أحدا كان يراقبني طوال اليوم، ولم أفلح في الحقيقة أن أجعلها تقف عند حدود النص. وبسبب عدم خبرتي في هذا الأمر رحت أتردد في التعامل معها بشكل واضح. فتارة كنت أحب شعور الأهمية من جراء هوسها بي فأجيب عن أسألتها الطويلة حتى صرنا نتكلم في اليوم لساعات من خلال الهاتف الأرضي. وتارة كنت لا أرد على مكالماتها. صرت كأنني في علاقة غرامية تقليدية وشيئا فشيئا تقلص الحديث عن الأدب، حتى صرنا لا نذكره إلا في بداية الحديث سواء كان حديثا ورقيا أو هاتفيا.
الخطر الحقيقي الذي أعاد لي شيئا من توازني هو نوع ما كنت أكتبه خلال تلك العلاقة (إذا جاز لي تسميتها بذلك) فانتبهت بأن ما أكتبه ليس سوى إرضاء لذائقتها أو لما تطلب. وهذا لا يخدم برأيي أي مؤلف يحترم نصوصه، لأن ذلك سيكون مخالفا لقناعاته. كما أن الاكتفاء بقارئة أو بنوع من القراء على هذه الشاكلة سيجعل من المؤلف آلة تكرر وتعيد.
هنا على المؤلف أن ينتبه جيدا ويميز بين الرأي الراجح والسديد وبين الآراء العاطفية التي غالبا ما تأتي سطحية لا تثري صاحبه ونصه على السواء”.
ويواصل عن هوسه كقاري: “أما عن نفسي كقارئ فقد اهتممت كثيرا بكتابات “نجيب محفوظ”، حتى استطيع أن أقول بأني صرت مهووسا به في فترة ما (ولو أني مازلت مهتما بنتاجه ولكن بشكل تحليلي وجدي أكثر من السابق). فرحت أطبع صوره بأشكال وحجوم متعددة. اقرأ تفاصيل عن حياته، طقوسه في الكتابة طريقة كلامه، حتى ملبسه وشكل نظارته بل وحتى ابتسامته. فصرت اعتبره كمثل أعلى ليس في الكتابة فحسب، بل حتى في طريقته وفلسفته في الحياة.
لكن ذلك برأي انعكس إيجابيا علي فيما بعد، لأنني عرفت أن أميز بين كل ذلك وبين التقليد في الكتابة الذي هو خطر حقيقي آخر على قدرتي في التأليف والتعبير. وربما لو التقيت به شخصيا لزال معظم ذلك الاهتمام. لأن الحضور الفعلي للشخص ينسف كثيرا من الصور المتخيلة عنه التي استقيتها من خلال صوره الشخصية أو حركات جسده وحتى لقاءاته. أي أنه جزء كبير من الوهم أو الهالة التي نسجت ستنجلي بسرعة. ولست أعني أبدا (حتى لا أفهم خطأ) بأن الأمر فيه تزييف أو كذب أو إدعاء.
كلا. ولكن طالما أنت لم تلتق بالشخص نفسه ولم تسمع منه كلامه سيبقى كل ما يصل منه حبيس الوسيط الذي يأتي به. وخير دليل على كلامي السابق هو أحد الفيديوهات الشهيرة له، عندما سأله “جمال الغيطاني” مع ثلة من الأدباء والصحفيين عن ما هو الحل الأمثل لمصر. وهو سؤال كبير جدا ينطوي على إيمان تام وثقة كبيرة بأنه سيعرف الإجابة، لكنه فاجأهم بابتسامته المعهودة مع تعليق (هو أنا فكرك عارف وساكت) يراد منه (كما أرى) التنبيه بأننا مهما تعمقنا وأجدنا التعامل نبقى لا نعرف إلا اليسير من هذه الحياة المبهمة. فصاحب نوبل لا يعني بأنه يعرف أو عنده حل لكل شيء. وإن كلمته تبقى ناقصة مادامت الحياة ومشاكلها في استمرار. فهوسي الآن ب”نجيب محفوظ” قد خف عن الإعجاب بالكاريزما وكل شيء صوري وصار هوسا بكلمته العميقة الصادقة”.
ويواصل: “أما عن الكاتبات. فقد لفتت انتباهي الكاتبة التركية “أليف شافاك” عندما رأيت صورتها. وهي ذات ملامح وجدتها جذابة بالذات عينيها وابتسامتها. وكنت قد قرأت قبل ذلك شيئا من روايتها “قواعد العشق الأربعون”. فتوقفت طويلا عند صورتها التي صرت استحضرها لا إراديا وأنا أقرأ لها فيما بعد. وفي الحقيقة لو حدث ذلك قبل عشرة أو خمسة عشر سنة ربما لكنت أحد المهووسين بها. لكني وبفضلها استطعت التعرف على ذلك الإحساس الذي ينتاب القارئ تجاه كاتبة معينة”.
ويؤكد: “الكاتب وما يكتبه صار شيء عام للقارئ شاء أم أبى، لأن مواقع التواصل ألغت أو قلصت كثيرا من الحدود بين النص وصاحبه، ولو أن القارئ ومن المفترض ألا يهمه ولا يستثيره سوى النص. إلا أن ذلك صعب الحدوث الآن، هناك قلة من الأدباء لا ينشر في صفحته في مواقع التواصل شيئا كثيرا عن حياته الشخصية خوفا من الخلط بين ما يكتب وما يعيشه يوميا، وهذا مفهوم خصوصا بالشرق عندنا قلة من يفرق بين النص وحياة صاحبه..
الهوس في الأدب برأيي ممدوح في معظمه، على الأقل يجعل المهووس يقرأ ويلتصق أكثر بهذا العالم، شريطة أن لا يؤثر ذلك على المهووس به. لا يوجد كاتب، إلا نادرا/ يرفض تماما القارئة المهووسة ولا يوجد قارئ إلا ما ندر أيضا وبالذات في بداية دخوله لعالم الكتاب إلا وأصابه شيئا من الهوس أو الاهتمام بكاتب أو كاتبة. الهوس الضار هو ما يجعل صاحبه سجينا لكاتب معين أما، ماعدا ذلك فهو مشاعر إنسانية جياشة كالحب تماما لا يجب كبحها، إنما من الأفضل ترويضها كلما توحشت”..
مجتمعاتنا لم تتخلص من الأصنام الحجرية..
ويقول الكاتب المصري “عمرو حمدون دنقل”: “قد يحدث هذا في مجتمعات تخلصت من الأصنام الحجرية، واستبدلتها بأصنام فكرية”..
ويضيف: “كقارئ لا أحب ولا أكره أي كاتب. بالعامية كده، مش بمضي لحد على بياض، حد بيعجبني في حاجة ومش بقبل منه حاجة، وككاتب لم أتعرض لذلك بشكل مباشر. ربما ليس لدي ما يكفي من الأعمال أو الشهرة”.
الهوس أمر طبيعي..
ويقول الكاتب الكردي السوري “حميد مرعي”: “في الحقيقة لم أتعرض لمثل هكذا موقف، ربما بسبب أني كاتب غير معروف وتجربتي قصيرة في الكتابة أو لربما أنني لست بذلك الكاتب الفذ والمتمكن، ولكن رغم ذلك هناك أمر مثير للاستغراب والتساؤل. ففي كتابي الأخير الذي تناولت فيه حياة أحد النسوة وما مرت به من انتكاسات وصعوبات، بطلة القصة الحقيقية حتى الآن لم تقرأ الكتاب ولم تتكلف عناء اقتنائه”.
ويضيف: “الهوس بكاتب أو كاتبة هو أمر أعتبره طبيعي ربما بسبب أن بعض الكاتب هم يكتبون حول مواضيع تشدنا وتحرك فينا رغبة القراءة والمعرفة”.
وعن هوسه كقارئ يقول: “كقارئ مازلت مهووسا بالكاتب الكوردي “سليم بركات” والشاعر “محمود درويش”، أما إن كنت مهووسا بمعرفة تفاصيل حياتهما الخاصة فهذا الأمر لم يخطر على بالي”.
ويؤكد:”الكاتب المتمكن هو ذلك الذي يستطيع أن يقدم أفكاره وفلسفته بأسلوب شيق ومحكم وبطريقة تجذبك إليه، حتى وإن كانت قضايا ذاتية نوعاً ما”.