بابل ….لم تعد بابل الكافرة
بابل حجر أسود لطواف التواريخ
قيل أن الشعر الملحمي لم ينتشر انتشاراً واسعاً في الأدب العربي، لكنه موجود كما عند غيرهم من الأمم ، لذا نرى أن الشعر الملحمي أو القصائد والأعمال الأدبية التي توصف بأنها ملحمية تكاد تكون معدودة عد الأصابع. والشعر الملحمي أو الملحمة الشعرية حالة شعرية تعبر عن وقائع تتعلق بحدث واستمراره ،أو بمعنى الصراع الذي يأخذ ردحاً من الزمن ليستمر لأجيال ، أو أن يكون تأثيره ممتد لأجيال.
ومن وجهة نظري فأن شعر الملحمة يحتاج إلى موضوع يتخذه أساساً يبني عليه الشاعر حبكة القصيدة الملحمية أو تصورها بشكلها العام، وهي من شعر الحماس ، وتدخل فيها معان الفخر والفضيلة والفخار سواء بشخص ( وغالبا ما تكون كذلك)،أو بالوطن، وقد عرفها العرب في الجاهلية ( قبل الإسلام)، كما عرفتها وأتقنتها الشعوب الأخرى وتركت منها أثار خالدة كالمهاباتا والإلياذة ، و الأوذيسة، أو الشهناما، ولنا منها نصيب رائع وكبير بما أختطه ( كلكامش) من مسار في الملحمة الرائعة والتي يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد والتي كتبها الأستاذ طه باقر ، كما كتب فيها الأستاذ عبد الحق فاضل، وكنت قد قرأتها (نسخة عبد الحق فاضل) ولازالت عالقة في ذهني منذ عقود مضت. ويختلف أسلوب صياغة الملحمة بكل تأكيد حسب أسلوب الشاعر والقضية التي تصاغ من أجلها القصيدة، ودائما مايكتب الملاحم الشعرية شعراء كبار، أي شعراء الأمة.
وحين تُجمع الإنسانية على قضية استمرت تأثيرها أكثر عن ستون عاماً، فهي تمثل ملحمة رسمت صوراً للقتال الدائر طيلة تلك السنين وشارك فيها أجناس مختلفون من البشر، تركوا تأثيراتهم على تلك القضية وأثروا فيها ، وكانت لهم بصمات واضحة على صفحاتها. تلك هي قضية فلسطين العربية ، فلسطين السليبة ، فلسطين الحق العربي الذي لايضيع.
والجدير بالذكر أن الملاحم إما أن تكون شعرًا أو نثرًا، وتتميّز الملاحم بدقة الوصف، التحليل والاستقصاء وتمتاز أيضًا بالطول الذي يتيح لها الانتقال من حدث إلى آخر، كما وتتسم الملاحم بالوحدة العضوية والترابط فكل حدث يعتمد على ما قبله.
هذا التقديم الموجز ليس بدراسة عن شعر الملحمة، بقدر ما هو تقديم للقارئ ليكون على دراية بأن ما نتناوله اليوم من نص شعري يرقى لما وصفناه ( بالملحمة الشعرية) المكتملة العناصر ، والمعبرة عن قضية مستمرة في الوجدان العربي، في الوجدان الوطني، في الفهم العميق لقضايا الأمة العربية بل الإنسانية.
أول نص شعري ضد محاولات التطبيع في العراق ، كما أسماها (جواد الحطاب)، سلام ( شالوم مسلح) ، رسالة بالغة التعبير عن ضمير الأمة، احتوتها أبيات الحطاب جواد لتجسد معنى (السلام) قبل غيره، حين بدء ملحمته الشعرية بكلمة ( سلام) ثم ترجمها إلى العبرية ( شالوم ) وضمنها التسليح، وتلك صفة ذلك الكيان الذي سلب أرضاً من أصحابها، وأدعى زوراً وكذب.
عمد جواد أن يعتمد في أبياته ( الوصفية) كحالة عامة بنى عليها هيكل ملحمته، كما غيره من كتاب الملاحم فهم رغم قلتهم جاءوا بقواعد باتت راسخة تُكتب على أُسسها الملاحم الشعرية، فهي تفخر بأشخاص أو أقوام أو أوطان، ومن ثم يذهب الشاعر ليثبت أركانها على بقية الأسس.
دلف الحطاب في مدخل الملحمة على تكريس حقيقة ضمنية قد يغفل عنها القارئ ، لكنها راسخة معروفة علميا أو حتى في سِير الخلق وتعاقبه، فلا ولادة من غير رحم، وقد وصف الحطاب (أورشليم) وهي العاصمة ( بلا رحم) ، أي منقطعة عن التاريخ، ولا ولادة لها، أي نعتها بالعُقم.
وهي كناية عن انعدام الأمل في مستقبل يمكن أن يستمر لقرون ، أو أن يُخَلد التاريخ تلك العاصمة بعد أن تمد جذورها فيه لتشكل أرثا، عقم سابق لارحم له ، يصف فيها جواد عدم التواصل مع التاريخ فمن لاجذور له ، لامستقبل له وإن كانت صفته (مسلح) ، النعت الذي جاء به جواد ليمزجه مع إلقاء التحية يرسم شكل هذا التجمع الذي يدار هناك على أرض سليبة ، يطلق عليه رغما عن أهله ( دولة) وهي لاتناسب صفة ( مسلح) فالدولة لها أركانها ومنها السياسية التي تدير شكل علاقاتها بالسلم ، وإن عجزت فبالحرب وهي حالة من حالات عدم التوافق في الرؤى والمنهج.
الأسقاط التاريخي الذي ذهب إليه جواد الحطاب في ملحمته يحمل دالة تخاطب عقل القارئ ، لتكون المقارنة من خلالها لمن يمتلك ماض ضارب في عمق الحضارات، وبين من بنى ما يسميها دولة تحت حراب السلاح وأزيز الرصاص ليسرق احلام الطفولة بل ليقتلها في مهدها. وهنا جاء جواد بنعت أخر يصف به المدينة ( أورشليم بلا ذاكرة) ، والذاكرة لمن ضمن عقلا ليتعض، ومن كان بلا ذاكرة كان بلا عقل ، فكيف يستوعب مجريات الأمور ليربط بين ماكان وما هو كائن.
في خضم ذلك التزامن بين النعت والذاكرة المثقوبة التي تحدث عنها الحطاب ، يميل بملحمته صوب التداخل الديني ليضفي على خطابه صفة القدسية التي يتبجح بها أهل أورشليم يغطون تسليحهم بغطاء الدين ، فيخاطب ” أشعيا *” .
“شالوم مسلح ”
أورشليم بلا رحم
أورشليم بلا ذاكرة
أي تيه ستسلك يا أشعيا
بابل ….لم تعد بابل الكافرة
بابل حجر أسود لطواف التواريخ
وكونها مبدأ التاريخ ومنتهاه، وتشكل ايضا رمزا دينياً ، ولأن الصراع برمته يأخذ طابعا دينيا في أساسه ، فليس هناك من نظرية في السياسة أو الحرب لاتبنى على اسس الدين، فمن ذاك الذي يقنع بأن نهج فلان أو علان خاطئ ما لم يغلف اداءه بغطاء الدين، منها ولج الحطاب رداً على اسرائيل في نهج التطبيع الذي رسم مساراته جواد الحطاب بنقيض (السلاح والسلام)، متضادة لغوية نادر ما يستخدمها الشعراء لعرض أو التقديم لقصيدة.
في تناوله ل(بابل) الدينية ، أخذ الحطاب منحى خطابه نحو التأليه ، فبابل رمز الآلهة ومكانهم، ولاتقام طقوسهم إلا فيها، وهي التي جاء ذكرها في القرآن، ولأن الأخر المخاطب في الملحمة والذي وجه له الحطاب ( شالوم) مسلح يعتمد الخطاب الديني وصوره في تفاصيل البناء ، فكان الأجدر أن يخاطب بما دلف على تكريسه في الخطاب العام كسياق يفهم منه المباهاة ( تستخدم لنسبة الخطوط لأصحابها من عدمه) وتختلف عن التباهي، مباهات الأخر بإصول خطابه ، لكشف نواياه واطهارها.
الخطاب الديني عند الحطاب في ملحمة ( شالوم مسلح) مقتضب نعم لكنه مركز وبدقة، يحمل عناصر القوة في طرح الحقائق الكامنة في ثنايا ما كتب سجل جواد من تحدي جسده بعدم توافق الرؤى كما هي دائما منذ بابل الأولى التي احتوت قوافل المؤمنين بأشعيا وهي تسير بشارع الموكب، سرد تاريخي رائع يطوي فيه الحطاب كل أمل بالبتطبيع حين قال:
( بابل… لم تعد بابل الكافرة(
وفيها جاء الحطاب بتوصيف غاية في الدقة ، إن جاز لنا أن نسميه ( جواب الشرط) ، على تساؤل عظيم سيكون بلا شك مفاده ( لماذا لم تعد بابل كافرة )، وهنا ومن وجهة نظري أرى أن ما كرسه الحطاب من اتساع الرؤية ثم تحجيم العالم بصورة ضيقة الأبعاد ، أراد من خلالها تنشيط ذاكرة من تجاهل، ومن يريد ان يتجاهل ، أو يحاول أن يعلوا على التاريخ ، تجسيداً فنياً فذاً بأبعاد لايتسعها الكون، حين منح الحطاب القدسية ل ( بابل) وهي التي تستحق دون سواها، فقال:
“بابل حجر أسود لطواف التاريخ ”
ويعود بعدها ليورد تفسيراته الماتعة الجميلة ، وهو يدخل من باب الوصف فيضفي على بابل جمالاً قد لايراه الآخرون في تلك المدينة التي فتحت باب التاريخ ،ومنه رسمت مسارات الحضارة والإنسانية، وكانت لاتقهر، وأرغمت العالم على السلام والمدنية بما جسدته من أعمال عدة من عجائب الدنيا ، بإعتراف الدنيا، وهي التي فيها (السلام مسلح)، كونها نقيض متداخل بين القوة والحب وظلال الآلهة .
بابل ليست سدوم ، وفيها بهاء الممالك، ومن بوابتها يعبر الرب،وجدرانها ترف يوحي للناظر ذوق المدينة وكيف رسمت ملامحها بفن كسحر جنائنها التي خلدت ، فما سدوم حيال ذلك كله.
بابل…
بابل…
ليست سدوم
بهاء الممالك
بوابة الرب
جدرانها الأزورد
جنائنها ساحرة
حاول الحطاب رسم صور كثيفة متعددة الأوجه وبكثرة وهو يكتب ملحمته التي أراد لها أن تكون بصيغة المُخاطب ، ودائما ماتكون تلك الصيغة مؤثرة تترسخ صورها في الأذهان فتبقى عالقة قوية التأثير، راسخة المفهوم، تترك رهبة لدى المتلقي، إذا صيغت أو كتبت متداخلة مع الخطاب الديني وهنا المنتهى.
لذلك دلف الحطاب نحو تصوير الموروث الديني ، وما جاء في كتب الأديان من قصص ، خلدها القرآن الكريم بقصص معروفة عن أنبياء ورسل ورجال صالحون، هي غالباً كانت تدور عن وقائع حدتث لبني إسرائيل، وتركت أثرها على البناء التكويني على ثقافتهم وأرثهم المادي والمعنوي.من هنا جاء الحطاب بتوصيف دقيق لذاك الخطاب وهو يقدم صيغ للمقارنة بتأثير ما يتركه وحي الخطاب الديني ، ومايمثله من وقع نفسي على المتلقي.
ولأن جواد شاعر من الطراز الأول، خبر الرواد وتتلمذ على صناع الكلمة، واتقان فن تأثيرها على الأخر، ذهب ليورد الدلائل من أحب ما تحتفظ به ذاكرتهم ، ليرسم ابعاد تأثير كلماته هواجس في ثنايا النفوس لذلك الشتات الذي خاطبه الحطاب .
يتلبسني كاهن حين أكتب عنها
اسفر الخروج وبدعة فرعون والعجل
أفعى النحاس وما عبد السامرة
ستقود الوصايا إلى بابل
مؤكد إننا حين نتناول قصيدة من قصائد الشاعر الرائع المبدع جواد الحطاب بالتحليل والقراءة، لانتناولها من باب توصيفها مكتملة العناصر أم لا، أو ان جواد قد ابدع في صوره الشعرية أم كانت على غير وصف، ذلك توصيف يعيب من يقرأ اعمال الحطاب وفق ذلك التصور، فجواد الحطاب من القلة القليلة اليوم على مستوى الوطن العربي يمتلك ذلك الأرث الادبي الذائع الصيت، والندرة في رسم الصور الشرعية، والإبداع فيما يكتب أو يجسد من فن في ثنايا أبياته.
بأختصار “جواد الحطاب” من الشعراء القلة الذين تربعوا على قمة هرم الشعر العربي في زمننا الحاضر، وهو شارع كثيف المعاني غزير العطاء، لايجاريه اليوم إلا قلائل من شعرائنا العرب، غن جاز لي ، وذلك رأي ، وللآخرين ان يروا مايشاؤون.
من تلك الصورة نكتب عن شعر جواد ، ولاندخل في تفاصيل أخرى تنطبق على الحطاب، ولاتشمل ما يكتب.
لست سوى دوبلير المزامير يا اشعيا
فالنصوص الكبيرة في المسرح البابلي تقيم الحياة
حداثات مردوخ النفخ في الكور والرقم
من دم وتراب خلقنا بدائل للألهة
من دم وتراب
فنحن الضجيج ونحن الكلام
ومن شرفات السما حينما في الأعالي حلبنا ضروع الغمام
وفي خطابه ( لأشعيا) والأسم يعني خلاص الرب وهو ابن آموص والذي يعتبره اليهود الكاتب لسفر اشعيا في العهد القديم من الكتاب المقدس*. وصفه الحطاب ب(دوبلير) *المزامير،وليس هناك ما هو أقدس منها عند اليهود ، لذلك ذكرنا في بداية قرائتنا لملحمة الحطاب أنه غلفها بالخطاب الديني ، لتصل كل ثنايا عقول المخاطب ، وأن يقف عند حدود التقديس الذي يعتقده المقابل.
لم تعد بابل بابل الكافرة
فسود الرؤوس لأوطانها ناظرة
تماثيل شارع الموكب لم يفلت من كمائنها يهوه
لارايات لرب الجنود
على أسوار بابل
لارايات
دم على الاختام
لن نلجأ لتقنية الفار – 12VAR –
كتب الحطاب نصا حق لنا أن نفخر به، وأن نستشعر حروفه بذائقة من فقد ذلك الإستمتاع الذي يغلف رونق الحروف ، ويحيلها موسيقى ناعمة مرهفة للإحساس، وأستوفى جواد كل عناصر الملحمة في ما كتب فقد ضمن ملحمته البطولة التي افتقدناها فيما يكتب اليوم، واجاد بما أورده من سرد قصصي رائع للتاريخ الذي بنى على هيكله أبيات الملحمة، لتكون قصة حقيقية داعبت احاسيسنا، تنقل فيها مابين السرد القصصي والتاريخي والفخر، وميز بنائها بوحدة النص وموضوعية الكلمة فجاءت فعلاً ملحمة متميزة بأسلوب فخم اعتدنا عليه فيما يكتب جواد.
ولا أدري لماذا داخل الحطاب الحداثة في أخر ملحمته التي بناها على التاريخ والتقديس والآرث الديني، وليخرج من شارع الموكب ، من قوافل المؤمنين باشعيا ، ومن تقديس تلك اللحظات، ويؤكد أن ليس هناك من تدليس ولا تلاعب ، ولا استخدام لتقنيات الفار – VAR 12- .