خاص: إعداد- سماح عادل
قد ينتج الهوس بالكاتبة من رغبة بعض القراء، سواء كتابا أو قراء فقط، بالاستحواذ على تلك الكاتبة التي استطاعت أن تفرض وجودها، تستخدم صوتها، وتتمرد على القيود التي تكبلها. وقد يكون نتيجة لتهافت البعض ورغباتهم في جذب انتباه أنثى لها حضورها القوي.
لكن يبقى الهوس محاولة من القارئ لدخول عالم الكاتب-ة الذي رسمه بنصوصه، وبقلمه، لأن الكاتب-ة استطاع أن يحكي عن القارئ، يصور أفكاره وأحاسيسه، وواقعه، أن يعبر عن القارئ بطريقة بارعة، مع التأكيد على أن النص حين ينشر ويخرج للعلن يصبح ملكا للجميع.
وهناك رأي آخر يعتبر الهوس من قبل القارئ دليل على فراغ، واحتياج شديد للحنان والحب والأمان. وهذا الرأي يفسر حدوثه على أنه إسقاط من القارئ على ذات الكاتبة التي تكتب عن الحب والمشاعر، أو تستطيع أن تلمس أوجاع وهموم ذلك القارئ، مع التأكيد على أن الكاتبة أو الكاتب في النهاية يكتب ذاته، وأوجاعه لدرجة تصل إلى حد تعرية الذات.
هذا التحقيق يتناول فكرة الهوس بالكاتب أو الكاتبة وقد طرحنا هذه الأسئلة على بعض الكاتبات من مختلف البلدان:
- ككاتبة هل تعرضت لحالة من الهوس من قارئ ما.. مثل أن يسعى للتعرف عليك أو يتقرب إليك؟ وماذا كان رد فعلك في حالة حدوث ذلك؟
- ما رأيك في هذا النوع من الهوس الذي ينتاب القارئ تجاه كاتبة ما وما تفسيره؟
- كقارئة هل انتابك هذا النوع من الهوس تجاه كاتب.. أو حتى كاتبة وأحببت أن تعرفي تفاصيل عن حياته، أو اهتميت به خارج حدود نصه؟
- هل يعني هذا الهوس بمعنى ما أن النصوص التي ينشرها الكاتب أصبحت وسيلة لعرض جزء من ذاته على الناس وبالتالي أصبحت بمعنى ما ملكا للجميع؟
انتصار القارئ على ضعفه..
تقول الكاتبة الفلسطينية “شوقية عروق منصور”: “في البدايات أثناء دخولي محراب الكتابة والعيش فوق تنهدات الكلمات وإشعال أصابعي فوق الورق لكي تنير القصائد، كنت آنذاك في الثالثة عشرة طالبة في المدرسة الإعدادية وعاشقة ل “نزار قباني” الشاعر السوري الذي جعل دموع جيلنا تتحول إلى غيوم تمطر شعراً، كنت أقلد “نزار” وأكتب شعراً، كان التصفيق يفرحني ويهديني الثقة، خاصة حين كان النقاد الرجال يخبئون في جيوبهم الإعجاب والفراشات الملونة التي تحمل العبارات المهربة، تغرد بالحب والاشتياق واللوعة.
في المجتمع الذي فيه صوت المرأة عورة، كنت أنا أصرخ، وأحطم، وأهرب من أجواء القمع إلى الكتابة، وكانت الصحف تفتح صفحاتها، والرسائل تصلني – لم تكن الهواتف متوفرة كما هي الآن – من المعجبين الرجال.
أنهيت المرحلة الثانوية، وفجأة شعرت أنني أعيش في سوق الأنوثة، وهناك مزايدة على كوني أنثى وليس لكوني شاعرة جريئة أو كاتبة لها رأي سياسي واجتماعي – فقد بدأت أكتب المقالات – .
وجاء الهوس من عشرات الكتاب الذين كنت ألتقيهم في الندوات أو المحاضرات، كاتبة صغيرة السن وكل كاتب يريد أن يكون بطل قصة أو رجل الإلهام، ولكن كنت بحاسة المرأة أعرف أن بوسع الرجال شراء موسوعة الغزل بأسرع من الضوء.
بعد سنوات طويلة في مجال الأدب، وفي إحدى الندوات التي كانت عن أدب المرأة كانت محاضرتي عن “كيفية صمود المرأة الكاتبة أمام الرجل المعجب خاصة الشاعر والكاتب” وعندما سردت لهم كيف قامت المرأة الكاتبة بحماية نفسها ولم تنزلق في مراهقة بعض الكُتاب والأدباء، كانت صفعة لبعض الجالسين من الرجال.
نعم هناك هوس لكن لنتذكر أن الكاتبة العربية بالذات، الكتابة بالنسبة لها مشروع حياة، أكون أو لا أكون، عن طريق الكتابة تسطع شمس أفكارها، تبقى الكلمة قوتها وتحديها، إن الكلمة بالنسبة لها حنجرتها التي قام المجتمع باستئصالها.
وعن هذا النوع من الهوس الذي ينتاب القارئ تجاه كاتبة تقول: “شيء طبيعي، المتلقي، القارئ للقصة أو الشعر أو النثر أو الرواية أن يجد نفسه بين السطور، فالكاتب يكتب من محيطه، من عالمه، من مجتمعه، عن عائلته، والقارئ جزء من هذا المحيط.
نعم هناك هوس يصب في الاهتمام بكاتب معين، وقد نجد هذا الهوس عند الغرب أكثر من الشرق، لأن الكاتب ما زال عندنا يبكي حظه، فهو ليس مثل المطرب أو مثل الممثل السينمائي، لكن حين يجد القارئ نفسه في كتابات كاتب معين يشعر أنه قد انتصر على ضعفه وصمته.
الكاتب الجيد أو الكاتبة الجيدة تصعد بالقارئ إلى سماء الأحلام والأمنيات، وقد تهبط به إلى قاع المشاكل والقضايا، تناقش أزماته الاجتماعية والسياسية والروحية، في الوقت الذي لا يستطيع فيه الكلام يجد هناك مندوباً عنه، بتكلم بلسانه ويقرأ أفكاره ويطرح مشاكله بصدق دون هدف.
الكاتب يسمح للقارئ بالدخول إلى عالمه، محيطه، ولكن أحياناً يتحول هذا الدخول عند البعض إلى هوس، حيث يتجرأ القارئ ويريد معرفة المزيد عن أخبار الكاتب، واليوم أصبح الكاتب بفضل شبكات التواصل الاجتماعي يتصرف كأنه الفنان والمطرب، أخباره وأخبارعائلته وتنقلاته مفروشة على جميع الشبكات”.
وعن هوسها كقارئة تقول: “بالطبع أنا أحببت عشرات الكتاب، وكنت أسعى لمعرفتهم، ومعرفة كل ما يدور حولهم، لأن معرفة خلفية الكاتب خارج النص تسلط الضوء على أدبه، ومن حسن حظي أن اللقاءات مع الأدباء كانت تتم وتنشر في الصحف.
أحببت الكاتب “نجيب محفوظ” وقرأت جميع رواياته، والتقيت به وقد قمت بعمل لقاء معه استمر أربع ساعات وتنبأت له بجائزة نوبل مع أنه ضحك عندما قال لي – عشم ابليس بالجنة -، وأيضاً التقيت مع أدباء أحببت كتاباتهم، “يوسف القعيد، إقبال بركة، نوال السعداوي، شريف حتاتة، جمال الغيطاني”، وغيرهم.
وعن كون هذا الهوس بمعنى ما أن النصوص التي تنشرها الكاتبة أصبحت وسيلة لعرض جزء من ذاتها على الناس تقول: “عندما ينشر الكاتب النص يصبح ملكاً للناس، للتاريخ، ما دام النص في رحم الغيب فهو ملك الكاتب، لكن نشره معناه تحول من ملكية الكاتب أو الكاتبة وأصبح ملكية عامة.
والكاتب يكتب ذاته، يكذب من يقول أن الكاتب يعيش في الخيال والأحداث مجرد اختراعات وأوهام، أو حكايات سمعها أو رآها، الكاتب يكتب تعبه، أحلامه، أمنياته، أيامه، الكلمات تتسلل دون أن يدري!! مهما حاول الاختباء وحاول ارتداء قمصان ليست له، تجد بعض الكلمات أو السطور تلتصق به، بحياته، أعماق الكُتاب والأدباء والشعراء مثل طوابع البريد تلتصق على مغلفات حياتنا، لا نستطيع نزعها، وإذا حاولنا نزعها يبقى مكانها مشوهاً.
كل نص أدبي ناجح تجد خلفه شيئاً من بقايا الكاتب، مهماً كان حريصاً على الإخفاء إلا أن اللاوعي يخترق الحرص ويظهر بين السطور” .
حاجة إلى الحنان والأمان والحب..
وتقول كاتبة المصرية “مي الحجار”: “في البداية أحب أن استعرض معني الهوس وماذا يفعل بالإنسان بصفة عامة؟!. الهوس هو حالة من الانفعال أو ارتفاع المزاج بشكل غير طبيعي، والإثارة، أو ارتفاع مستويات الطاقة لدى المهووس. فتصبح سطور كاتب محدد بشكل ما مخدر سريع المفعول للقارئ المهووس بالكاتب.
يفسر هذا الهوس التلاقي الروحي والفكري وربما الثقافي بين الكاتب والقارئ، لقد خلقنا الله من نفس واحدة، فمن المنطقي أن تتشابه أوجاعنا وابتساماتنا. فالروائي او الكاتب في النهاية بشر، مجرد بشر. الكاتب يعزف أوجاعه في صورة سطور تحكي بعض من تاريخ الإنسانية، ويبدأ الهوس عندما يغرم القارئ بالمكتوب، ويتملكه العشق أكثر عندما تتشابه أوجاع الكاتب أو أبطال الرواية مع أوجاعه هو الحقيقية. ويسأل نفسه دوما كيف عرف عني الكاتب كل هذا؟!، مع أن الكاتب يجهل شخصه تماما، ولكن كما قلنا سابقا فإن الله خلقنا من نفس واحدة وطبيعي أن تتشابه أوجاعنا وشجوننا. ولكن ميز الله الكتاب بالطلاقة في القدرة على صياغة ما يشعر به كتابة أو حتى ما يحرك أفئدتهم من حوادث البشر والحياة بصفة عامة”.
وتضيف: “وبصفة شخصية ك “كاتبة” كان من الطبيعي أن يحدث حالات هوس من بعض القراء لما أكتب، فربما دون قصد مني لمست بكلمات الحب التي كتبتها قصة حب منسية وما زالت لها أثر في قلوبهم أو حركت مشاعر خامدة. وربما رسموا لي صورة ذهنية أقرب للملائكية لأني كنت أكتب أشعار رومانسية وأنشرها على الفيسبوك باسمى دون صورة شخصية.
فتبادرت أذهانهم في صنع صورة لي عذبة خيالية، خالية من العيوب وأضفوا عليها هالة من أوهامهم غير الحقيقية عن الشاعرة أو الكاتبة. وكان رد فعلي على الرسائل والأشعار منطقي كأي إنسانة عادية جدا. فأحيانا كان يتم الرد على أشعاري بأشعار غزل مماثلة، أو رسائل إعجاب ومعاكسة. فيكون التجاهل الدواء الشافي للمهووس، وكثيرا البلوك لمن يتجاوز حدود اللياقة”.
وعن هذا النوع من الهوس الذي ينتاب القارئ تجاه كاتبة ما تقول: “هذا النوع من الهوس هو نوع من فراغ الروح، فالإنسان الفارغ من الحب والحنان والحلم والأمل وغيرهم من دوافع الاستمرار في الحياة، يلجأ دون وعي منه لأي مصدر “احتواء” مهما كان هذا المصدر هش وغير حقيقي.
لا بأس أن نتعلق بالكلمة الحلوة والسطور المبدعة ونقدر كل جميل ونسمو به فوق نواقص بشريتنا بالكتب والمعرفة، ولكن فرق كبير بين حب العمل الأدبي والهوس بالكاتبة كإنسانة”.
وعن هوسها كقارئة تقول: “الكتاب “يوسف السباعي”، كان دوما بكتبه رفيق الصبا بالنسبة لي، لطالما أخذتني كتبه بعيدا عن أحزاني وأشجاني وعواصف الحياة. ولكنى للأسف ولدت بعد موته رحمه الله بعدة سنوات، وهذا أعفاه من مطاردتي له كعاشقة لكلماته وكتبه وحودايته الرومانسية التي مست قلبي فترة المراهقة، ومازالت أكافئ نفسي بإعادة قراءتها في أوقاتي الصعبة لأنجو قليلا من صراعات الحياة”.
وعن كون هذا الهوس بمعنى ما أن النصوص التي ينشرها الكاتب أصبحت وسيلة لعرض جزء من ذاته على الناس يقول: “شاء الكاتب أو أبى، فأنه بمجرد نشر كلماته تحول لشخصية عامة، لها جمهور منهم المعجب والكاره، ونحن في زمن يحق حتى للحمقى التعبير عن رأيهم.
والكاتب المحترف لن يكتفي بنشر يومياته وحياته الشخصية للناس، بل سيسعي جاهدا ليكون صوت حر طليق يعبر عن كل المتألمين في صمت وسيكون لسان صادق يحكي فقرات من تاريخ الإنسانية في صورة حواديت . فالحدوتة الواعية ذات البناء القوي لطالما كانت الصورة الأولى للتعلم، فمن منا لم تعلمه أمه الكثير من السلوكيات والعادات السوية عن طريقة “حدوتة قبل النوم”.
وأسخف ما يفعله القارئ من وجهة نظر الكاتب هو ربط القارئ لكل ما يكتب الكاتب بحياة الكاتب الشخصية وتجاربه الخاصة مع الحياة. فإنها مخزوننا الحقيقي للكلمة والحكايات الشيقة، ولكن الجميع يدعى أن كتبه وحي خيال لا وحي أوجاعه. فتعرية الروح لطالما كانت ليست بهينة. نعم نحن معشر الكتاب نكذب بابتسامة واسعة وندعي أننا كنا نسبح في الخيال ونحن نكتب وهذا كذب مشروع من وجهة نظري المتواضعة”.