كتب: سعيد بوعيطة (المغرب)
مدير تحرير مجلة نوافذ
(مركز الدراسات الحضارية)
رافق فنٌ السّرد الإنسان منذ بداية الخليقة مخبرًا عن وجوده، حيث اتّخذه طريقًا إلى تخليد إنجازاته، ونسقًا يلملم حزنه وينقّيه وينقله إلى المتلقي بأناقة وبأكثر الأدوات تفعيلاً للخطاب الموجّه إليه. تختلف الطّرائق التي يقدم بها السّرد من نص إلى آخر، حسب رؤية الكاتب الإبداعية، وتوظيفه التّقنيّات السّرديّة بما يتوافق ومفهومه. أو تبعًا للموضوع الذي ركن إليه مستخدمًا عدة الأساليبَ التّعبيريّة، وما يتخلّلها من حواراتٍ وأوصاف ووحدة الحدث والموضوع، وما إلى ذلك من التّقنيّات التي اتّفق النّقّاد والباحثون عليها. تظهر في كلّ مرحلةٍ تطوريّةٍ فكريّةٍ، أجناسٌ أدبيّة تجد لنفسها التّربة الملائمة للنُّموِّ. تستنبت فيها مسارها وتستأمنها على خصائصها ومميّزاتها، لتتسرّب إلى الفضاء الكونيّ بهدوء وسلاسة. لكن على الرّغم من ذلك، فإنّ كلّ جنس، بما يتضمنه من أنواع أدبيّة فرعية(خاصة الجديدة)، يواجه الكثير من النّقدِ و التوجّس والتّغريب، حيث يحاول النّقّاد أن يقوّضوه، ويحجّموه ويقلّلوا من شأنه وأهمّيّته.
شأن كلّ جديد، فكلّ جديد مرفوض، وعليه أن يخوض حربه ليفرض ذاته الأدبيّة التي استولدها الكاتب من رحم الواقع. ذلك أن (كلّ أدب جديد هو عدائيّ) (1). وعلى هذا الجنس الجديد أن يثبت وجوده ويحدّد طرائقه، وتقنيّاته ولغته غير المصطلح والمفهوم والجنس الأدبي. يخلع عنه كلّ ما يمكن أن يعرّضه للتّعمية والضّياع والتّهويل، فيأخذ نفسًا عميقًا لتبرز بشكل تدريجي أجوبة كثيرة. تصطفُّ اللّبنة تلو اللّبنة لتخلق لنفسها شكلاً ومضمونًا وقواعد ورؤية مشتركة بين مختلف الكتّاب الذين تجمعهم هموم وتطلّعات واحدة على الأغلب.
ولما كانت القصّة القصيرة جدًا واحد من الأنواع الأدبيّة الحديثة والطّارئة على المشهد الثّقافيّ العربيّ، فقد أثار(خاصة في بداياته الأولى/التأسيس) حفيظة الكتّاب وهواجسهم، فانكبّ البعض منهم على دراسته مقاربةً وتحليلاً، تفكيكًا وتركيبًا، ومقارنة بالأنواع الأدبيّة الأخرى خصوصًا القصّة القصيرة. و بعد هذا المسار، حاول النّقّاد أن يخرجوا بإطار موحّد. ذلك أنَّ القصَّة القصيرة جدًا فرضت نفسها، وأصبح لها روّادها وعشّاقها، وكثرت الإصدارات لكتّاب امتهنوا وعشقوا هذا النّوع الأدبيّ الدّقيق والصّعب الذي هو أشبه بحبل يتدلّى في فضاء شاسع يحملك إلى عوالمَ متنوّعة ومختلفة، شرط ألا تزلَّ قدمك وتسقط.
التجريب في النص القصصي القصير جدا:
إن القصّة القصيرة جدًا، هي قصّة أولًا، وقصيرةٌ بعد ذلك. لها خصائصُها التي تجعلها تتفرّد بها عن أيّ نوع أدبيٍّ آخر. فقد تستفيد من الفنِّ والموسيقى، والرّواية، والقصّة. لكنها تتميز بأركانها وشروطها النّابعة من بنيتها وكينونتها المستقلّة. يقول أحمد جاسم الحسين: (إنَّ بناء القصّة القصيرة جدًّا تتألّفُ من أربعة أركان رئيسة هي: القصصيّة، الجرأة، وحدة الفكر والموضوع، التكثيف)(2). أمّا يوسف حطينيي فيحدّد عناصر القصّة القصيرة جدًّا في الحكائيّة، الوحدة، التّكثيف، المفارقة، فعليّة الجملة (3).
في حين يذهب جميل حمداوي إلى أن هذه الأركان تتعلّق بالجانب البصريِّ أو الطبوغرافيّ، أو بالجانب التّركيبيّ، أو بالجانب البلاغيّ، أو بجانب القراءة والتقبل، أو بالجانب السّرديّ، أو بالجانب المعماري(4). كما يضيف مسلك ميمون(5) الكثيرَ من المصطلحاتِ على مفهوم القصّة القصيرة جدًّا، في محاولة لاحتواء إرهاصاتِها وامتدادها العميق. فيتوسّع في تحديد المكوّنات التي تتواشج لتؤسّس لهذا النوع الأدبي.
على أنّ هذه المكونات ليست من المستحدثات (الإيجاز، التّكثيف، الرّمز، واللّغة القصصيّة الشّعريّة الإيمائيّة، والكلمة البلاغيّة، والحكاية المحكية، والطريقة الاختزاليّة، والوحدة الموضوعيّة والعضويّة، وخاصّتي الاتّساق والانسجام، وانبثاق التّوتّر الدّراميّ، والتّأرجح بين الواقعيّ التّخييليّ، والرّمزيّة المقنعة وتقنيّة المفارقة المستفزّة. وإن كان لكلِّ كلمة خصوصيّتها في القصّة القصيرة جدًّا، وشروطها، وتقنيّاتها)، فإذا أخذنا القصصيّة، أو الحكائيّة التي عمادها السّرد، والتي تستوجب القدرة على الكتابة المختزلة (حذف/ إضمار)، لأن ليس كلّ من يكتب يمتلك هذه القدرة الفنية التي من حسن خصائصها وأبلغها: التراكيب وكثافتها، والأساليب وتنوّعها، والشّيفرة وترميزها، والإشارات الإيمائيّة وعمق دلالاته.
هذا فضلاً عن نسق المصادفة والمفاجأة، والبعد الأيقونيّ، والتبئير. بمعنى موقع القاص من عمليّة القصّ، وعلاقته بالشّخصيّة الحكائيّة، فضلًا عن موازيات النّصِّ (العنوان مثلاً). مما يتيحُ آفاقَ التّأويلِ المختلفة. ويفسح في مجالات القراءة المتنوّعة. فقد شدد معظم الباحثين على أهمّيّة القصصيّة والتّكثيف والوحدة. كما تأتي المفارقة والرّمزُ والتّناص والاختزالُ من الأركان الأساسيّة المتمّمة لعناصر القصّة القصيرة جدًا. إن المفارقة مثلا، تمدّ النّصّ القصصي بالحيويّة وبالتّنوُّع، والاختلاف والضّدّيّة، لكن على القاص أن يحسن استغلالها لتحقيق الكفاءة النّصّيّة.
أمّا التّناصّ، فهو تعالق النّصوص وتواشجها. حيث تتوّلد قراءة جديدة من حيث التكثيف والتحليل، كذا التماهي والاستفادة من نصوص أخرى على مستوى الحدث، أو الشّخصيات في بوتقة تجديدية بعيدة من النمطية وغير مسايرة لما هو رائج. هنا يدخل عنصر التّخييل الذي يتموضع في قوة الكلمة والمعنى الكامن، والتّجريدية والعصف الذهني. أما الرمزية فقد خصّص لها الباحثون مساحة واسعة من حيث القراءة والتحليل والتأثير، على أساس أنّها نسقٌ تعبيريٌّ. يحتاج إلى تدبّر وتأمّل، للوصول إلى البنية السّرديّة العميقة، والرّمزيّة تتقصّد الابتعاد من المباشرة، حين لا تستطيع التّعابير المعتادة أن تفضي إلى عمق الشّعور، والذات وما تنطوي عليه ولا يمكن في صفات معدودة أن نحصي خصائص ومكوّنات القصّة القصيرة جدًا جميعها. فعلى الرغم من صغر حجمها الذي لا يتعدى ثلاثة أو أربعة أسطر في العادة، فإنّها تحتاج إلى تقصٍّ وسبر ودراية وإلا تتحول إلى خاطرة تأمّليّة، أو شذرة قصصيّة أو قطعة نثرية.
التجريب قرين الإبداع. لأنه يتمثل في ابتكار أساليب وطرائق جديدة في أنماط التعبير الفني المختلفة. لهذا، يشكل جوهر الإبداع وحقيقته عندما يتجاوز المألوف ويغامر في قلب المستقبل. مما يتطلب المغامرة، واستهداف المجهول دون التحقق من النجاح. يخترق الفن التجريبي مساره ضد التيارات السائدة بصعوبة شديدة. لهذا، نادرا ما يقبله المتلقي دفعة واحدة. بل يمتد إلى أوساط التلقي بتوجس وتؤدة. حيث يستنير الخيال والرغبة في التجديد باستثمار جماليات الاختلاف. و يتوقف مصيره لا على استجابة المتلقي فحسب(كما يبدو للوهلة الأولى)، بل على قدر ما يشبعه من تطلعاته البعيدة عن التوقع. يوظفه في إمكاناته الكامنة. لهذا، فجدل التجريب الإبداعي متعدد الأطراف.
لا يجري داخل المبدع في عالمه الخاص، بل يمتد إلى تلك التقاليد التي يتجاوزها، والفضاء الذي يستشرفه المخيال الجماعي. من هذا المنظور، فإن فن القصة القصيرة جدا في جملته تجريبي في الثقافة العربية على وجه الخصوص. لأنه من اللافت للنظر أن المحاولات التجريبية في مسيرة النص القصص العربي القصير جدا، هي التي شكلت تياراته الفاعلة في مستويات السرد العديدة. وربما كانت التجارب المنقطعة، هي التي تمثل حركتها الباطنية المستمرة، مع ما يبدو منى عدم استمرارها. لأن التجريب كامن في دينامية الخلق ذاتها، ومؤسس لقفزاتها. لا نسعى في هذا السياق المحدود إلى رسم خارطة تحولات التيار التجريبي القصصي في جميع المراحل. لأن طرفا منه سرعان ما يندثر.
وطرفا آخر لا يلبث أن ينتشر ويدخل في نسيج التقاليد المستقرة، ولا يظل بارزا منه سوى التجارب المنقطة التي تمثل كشوفا جمالية ذات خصائص نوعية. بقدر نكتفي بإشارات وجيزة لإبراز ملامح هذا التيار التجريبي عندنا خلال العقود الأخيرة. و لابد أن نعترف بأن هذا الاختيار محكوم بعوامل شخصية و موضوعية. في مقدمتها أنها هي الفترة التي عايشنا فيها مجموعة من التجارب القصصية(نماذج مغربية).
هاجس التجريب عند القاص مصطفى لغتيري:
إن الحديث عن المبدع مصطفى لغتيري، مبنى ومعنى، هو الحديث عن الكتابة القصصية بمختلف طرائقها وصيغها التعبيرية المتعددة، وملابساتها الغامضة. لغة القاص مصطفى لغتيري قياسا إلى ما هو سائد من الكلام المباح، تكاد تعرف تطورات بارزة. تفيض بالمفارقات الغريبة وهي تقبض على التناقض الذي يعيشه الإنسان المعاصر. مما يجعلها تنحو منحى التجريد و التجريب في الوقت نفسه. إن وعي القاص مصطفى لغتيري الحاد بالكتابة وملابساتها، نابع من صراعه(بالمعنى الإيجابي) الدائم مع الكتابة ذاتها. يكتب لغتيري انطلاقا من وعيه بالاختلاف عن الكلام السائد. اختلاف في طرائق السرد و الحكي، في الرؤيا إلى العالم وإلى الذات المستلبة. بهذا، فالكاتب مصطفى لغتيري، كاتب تركيبي وليس نمطي. يتجه نحو التجريب والتجاوز. سنحاول تبيان ذلك من خلال تناول مجاميعه القصصية التالية: مظلة في قبر، تسونامي، زخات حارقة.
1.”مظلة في قبر”، وشعرية المفارقة و السخرية:
قبل أن نلج العوالم النصية للمجموعة القصصية ”مظلة قبر” للقاص مصطفى لغتيري الصادرة في طبعتها الأولى عن منشورات القلم المغربي(2006). تشكل هذه العتبة الرئيسية للمجموعة نواة النص العام/ المجموعة القصصية. تتشظى وتتناسل من خلالها باقي النصوص القصصية. سواء على مستوى المعجم أو الدلالة. إنه بمثابة ذلك المولد. مما يجعل الدال ”مظلة في قبر” يتمظهر في كل نص من نصوص المجموعة القصصية.
إن قراءة أولية لنصوص هذه المجموعة القصصية، يجعلنا أمام نوع من المفارقة، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. تجلى ذلك في النصوص التالية: مالك الحزين(الصفحة:7)، الخلاص (الصفحة:10)، بلقيس(الصفحة:11)، العش(الصفحة:16)، الكلب (الصفحة:17)، عشق(الصفحة:18)، ظل(الصفحة:19).إن بناء هذه النصوص ودلالاتها، هو الذي حدد عنوان هذه القراءة النقدية. فعلى الرغم من كونه جاء مزدوج الدلالة(المفارقة/السخرية)، فإن هذه الازدواجية مترابطة في الوقت نفسه. ذلك أن الأولى المرتبطة بالمفارقة، تؤدي بالضرورة إلى الثانية المتجلية في السخرية. لهذا، تعد الثانية، نتيجة للأولى. لقد نشأ مصطلح المفارقة في إطار فلسفي. إذ ارتبط بالفيلسوف كانط / Kant، وصولا إلى شليجل/ Schlegel، وكيرك غارد. عمل هؤلاء على إرساء مفهوم المفارقة في البلاغة والنقد الحديث. ترتبط المفارقة عند شليجل بالمفهوم الكانطي الذي ربط مفهوم المفارقة بمفهوم الجمال. ذلك(أن الشيء الجميل هو الذي له علاقة بالكوني اللامحدود …)(6). لأن الكون والوجود مبني على المفارقة والتعارض والتضاد. لقد اهتمت الدراسات النقدية الحديثة بالنص و بالمتلقي. حيث ركز البحث في المفارقة على الكاتب والمتلقي ولغة المفارقة. بين المفارقة و السخرية:
إذا كانت المفارقة تكشف عن تناقضات الحياة التي لا يستطيع فيها الإنسان الوصول إلى حقيقة واضحة ومطلقة، فإن السخرية تسلب الشخص قدراته. تعريه من كل ما يتخفى فيه و يتحصـن وراءه. لذا، فالمفارقة تصنع السخرية. بهذا الفهم، فإن هذه الأخيرة مفهوم مرادف لمفهوم الضحك. سخرية وضحك باعتبارهما موقف ورؤيا للحياة والكون. إلا أن معنى السخرية، يتفاوت في المستوى الإبداعي حسب حركيته. إنه يسير في خط معين. ينتقل فيه من الأعلى نحو الأسفل أو العكس. قد تحمل معنى العدوانية المتجهة إلى هدف معين. في حين تكثف السخرية المتجهة من الأعلى إلى الأسفل، من الاستهزاء المحقر.
يبرز الضحك الذي يتحقق عند المتلقي مدى نجاح السخرية ووصولها إلى هدفها. بهذا المعنى، ترتبط السخرية بمفاهيم أخرى. توظف لوصف الخطاب الإبداعي الساخر. من قبيل: المحاكاة الساخرة، الهجاء ألانتقادي،…الخ. تتحقق هذه السخرية على مستويين:
أ. مستوى لغوي لفظي: يعتمد على المفارقة اللغوية. سواء على مستوى الجملة أو على مستوى المقطع السردي أو النص بأكمله.
ب.مستوى مقامي/ سياقي: تتحقق مقاما وسياقيا من خلال وصف وضعية مرجعية حاملة للتناقض الداخلي ومثيرة للسخرية في الوقت نفسه. كثيرة هي الأعمال الإبداعية التي تميزت بهذه الخاصية. ففي التراث العربي، يعد الجاحظ، صانع المفارقة و السخرية بامتياز، خاصة في كتابه ”البخلاء”. أما على المستوى العالمي، فقد تجلت هذه الخاصية على سبيل المثال لا الحصر عند الكاتب الروسي نيكولاي غوغل صاحب قصة ”المعطف”، ومسرحية ”المفتش” …الخ.
أما في الأدب العربي الحديث، فتجلت هذه الخاصية في أعمال عدة. سواء النص الروائي أو النص القصصي. تكاد تكون السخرية من أهم الأساليب التي ميزت أغلب النصوص القصصية الحديثة. باعتبارها تلك القيمة المهيمنة/ Dominante على حد تعبير اللساني رومان جاكبسون(7). من خلال هذا التصور العام، سنحاول استجلاء خاصية المفارقة في النص القصصي من خلال المجموعة القصصية ”مظلة في قبر” للقاص مصطفى لغتيري. إن قراءة أولية لنصوص هذه المجموعة القصصية، تمكننا من تحديد مجموعة من أساليب وأنواع السخرية: سخرية الأشكال، سخرية الفعل و الحركة، سخرية الموقف/ الرؤيا، سخرية الطباع والصفات.
أ. سخرية الأشكال:
ترتبط السخرية في هذا الإطار بالتغيير الذي يطرأ على سلوك شخص متمسك بالعادات والتقاليد الاجتماعية. فيغدو كل ما هو مخالف للمألوف، مثيرا للسخرية.لقد تجلى هذا الأسلوب في المجموعة القصصية”مظلة في قبر” في نصوص عدة أهمها: مالك الحزين (الصفحة:7)، العش(الصفحة:16)، الكلب (الصفحة:17)، برتقالة (الصفحة:26)، نيزك (الصفحة:30) ، الأسير (الصفحة:34)، صرخة(الصفحة :45)، صفعة (الصفحة:54)، الهدية (الصفحة:56). تتحقق السخرية في هذه النصوص القصصية، عن طريق مجموعة من المؤشرات المرتبطة بالحكاية. حيث تجعل المتلقي يقرؤها وفق مقاصدها الساخرة.
ففي قصة ”الكلب”، نجد مفارقة بين الوعي القائم / السائد(غالبا ما يكون مغلوطا) والوعي الذي يجب أن يكون (الصحيح). يقول السارد في الصفحة:23( أحضر الرجل، إلى بيته، كلبا.. خوفا من هروبه أحكم وثاقه. (…)ذات صباح، تأمل الكلب، فتألم لحاله. دون تردد عمد إلى فك وثاقه(…) وأمام ذهول صاحبه، توجه ــ مباشرة ــ نحو وثاقه). تكمن سخرية هذا النص القصصي، في حمله لتلك الدلالة المقلوبة والسائدة في المجتمع. فيما يحاول السارد(الكاتب الضمني)، تعرية زيف ما هو سائد.
أما في قصة ”انقراض”، فيقول السارد في الصفحة:24 (كانا متقابلين.. بينهما كراسي متعددة.. وحيدة ــ مثله ــ تجلس في ركن قصي.. بين لحظة وأخرى يختلس النظر إليها.. ساهمة كانت، تعبث بخصلة من شعرها.. في لحظة ما، التقت نظرتهما .. ابتسم.. ابتسمت.. حرك رأسه.. حركت رأسها رفع يدها.. رفعت يده.. حينذاك أيقن أن البشرية أبعد ما تكون عن خطر الانقراض). يحتوي هذا النص القصصي، على نوع من التقابل بين الحالة الأولى / العلاقة الأولى للشخصيتين والحالة الثانية/ العلاقة الثانية بين الشخصيتين. إن العلاقة بين عنصري الصداقة والتواصل في هذا السياق، لا تشكل تنافرا على مستوى الدلالة لتلك العلاقات غير السليمة. إن السخرية في هذا النص(كما في النصوص التي أشرنا إليها)،لا تتحقق على مستوى الكلمة أو الوحدة المعجمية، بل على المستوى المقامي. تحمل دلالة ترمي إلى تعرية واقع اجتماعي وإنساني غير متوازن. ب. سخرية الموقف/ الرؤيا:
يعتمد هذا الأسلوب من السخرية، على إعلان موقف/ رؤيا و الإتيان بغيرها. تجلى في المجموعة القصصية ”مظلة في قبر”، في النصوص القصصية التالية: مالك الحزين (الصفحة:7)، الخطيئة (الصفحة :8)، الخلاص (الصفحة: 10)، ظل (الصفحة:19)، الأسير (الصفحة:34)، عولمة (الصفحة:52). يعد النص القصصي ”عولمة” من أبرز نص يحمل هذه الميزة/ سخرية الموقف. يقول السارد في الصفحة52: (صعد الزعيم إلى المنصة.. لعن العولمة، والإمبريالية، واقتصاد السوق. أحس فجأة بغلة تكتسح جوفه.. أومأ إلى أحدهم، فاحضر له ــ دون تباطؤ ــ زجاجة كوكاكولا).
بهذا، تعيد نصوص مصطفى لغتيري القصصية، بناء هذا الواقع من خلال رؤيا أو فانتازم. وكأنها وصف لما في هذا الواقع من عوج ومسخ. تتوسل إلى ذلك بأدوات عدة. أهما السخرية والهزل والباروديا. حيث يكون النص القصصي، على موعد مع الواقع. من أجل سبر غوره وكشف حسابه في مرآة قيم أخلاقية وجمالية متأصلة ومتطورة. كما نلمس الشيء نفسه في قصة” خيانة”. يقول السارد في الصفحة :61 ( أبدا لم أخن زوجتي. قال الرجل بلهفة واثقة. فحين أختلي بامرأة ما..ىأغمض عيني.. أستحضر زوجتي، فأشعر بأنني في حضنها.. إنني أتمتع بقوة خيال لا تضاهى..). تعمد هذه النصوص القصصية إلى السخرية المكثفة والمتفجرة من ثنايا التقابلات: الزوجة/الخيانة(في قصة خيانة). يحمل هذا النص نوعا من التقابل بين عدم الخيانة ونقيضها، بين الرجل الملتزم والذي ليس كذلك. تعمل هذه التقابلات على تحويل دلالة النص القصصي، وإعطائه أبعادا عدة. تشي بعمق بمفارقات الواقع مأساة الراهن. كما تكشف في الوقت نفسه عن علائق زائفة. ومفارقة صارخة في الإيديولوجية المموهة التي تلوح بشعارات وتطبق أخرى.
ج.سخرية الصفات/ الطباع: على الرغم من ارتباط هذا الأسلوب(سخرية الصفات)بالفن المسرحي، فإنه يتجلى كذلك في النص السردي. بحيث يعكس عيوب المجتمع من خلال أفراده. كما ينقل عيوب الإنسان من خلال نماذج بشرية. حيث تبدو طباع الناس متناقضة. لذا فسذاجة الإنسان و تناقضاته، يغذيان هذه السخرية. تجلى ذلك في المجموعة القصصية ”مظلة في قبر” في نصوص عدة. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: قصة” ديانا”(الصفحة:21). يقول السارد:( في أعماق قلبها طفقت الأميرة تشيد هرم خوفو.. لبنة لبنة.. حين أوشكت على وضع الحجر الأخير، خاتلتها الملكة.. سحبت من قاعدة الهرم حجرا.. انهدم البناء، فتصدع قلب الأميرة ). لا تقدم السخرية في هذا النص القصصي، حكما إيديولوجيا جاهزا أو استنساخا مباشرا لتفاصيل الواقع. بل عبارة عن تشكيل فني أثر للاستهزاء و الازدراء من موضوع معين أو شخصية أو فعل.
تشخص موقفها وتضعه موضع تساؤل. تكشف السخرية في هذه النصوص عن الأبعاد الإنسانية و تعري نقائضها من خلال المفارقات. تضفي على النص من خلال ذلك البناء، بعدا دراميا. تجعل عين القارئ منفتحة على هول هذا الواقع من خلال الرؤيا التي قدمها القاص مصطفى لغتيري بأسلوب متميز. أضفى على نصوصه القصصية أبعادا و أساليب شعرية وجمالية.
- ”تسونامي”، تحول سردي ورؤى دلالية جديدة:
ينشغل القاص مصطفى لغتيري في مجموعة ”تسونامي ”بهاجس الكتابة، وبكيفية صياغة مخياله السردي. ففي نص ”قصة”، يتضح جليا التردد الذي يشوب القاص حينما يصعب عليه القبض على معيار كتابة قصة ”جيدة”. فعل يتحقق معيار الجودة بالتقنية، أم بالأفكار، أم بالأحاسيس، أم بهذه العناصر مجتمعة؟ لقد اختار القاص مصطفى لغتيري كإجابة على هذا السؤال كل هذه المقومات القصصية (التقنية، الأفكار، الأحاسيس، باعتماده على مقولة ”الصورة” باعتبارها ذلك (الانفعال الجسدي الذي ليس انعكاسا مباشرا لعلاقة مع العالم الخارجي، بل تفاعلا لأحاسيس يخلق بها الجسد أفكاره الخاصة) (8). بهذا، ركزت هذه المجموعة على تقنية المشهد السردي وبما ينقله من أحداث، أو فكار، أو أحاسيس. تتعلق بعالم الشخصيات التي انتقاها القاص من مرجعه الواقعي، أو الأدبي، أو الفكري.
لأنه مهما حاولت اللغة أن تخلق عالمها التركيبي والجملي الخاص بها وهي تنسج النص، فلا تخرج عن القوانين الكبرى لعالم آخر هو العالم التخييلي الذي يبتغيه المبدع/ القاص. ويتحكم في نسقه المرجعي والإبداعي. تعمل هذه المشاهد السردية على تتبع عناصر العالم الحكائي/ القصصي وهي في حركة. قصد استنطاق قيم تعكس الطباع والسلوكيات البشرية. أفرزتها تجارب إنسانية وحياتية.
لهذا، فإن القيمة الأساسية التي يدافع عنها القاص لغتيري في هذه المجموعة هي القيمة الإنسانية في بعدها الكوني. تجلى ذلك بشكل أساسي في الإهداء الذي افتتح به القاص مجموعته(إلى كل من آمن بالإنسان كقيمة تسمو على ما سواها من القيم) (الصفحة:5). لتشكل دلالة هذا الإهداء، قيمة أساسية. تحضر في جل قصص هذه المجموعة التي تحتفي بالإنسان باعتباره كائنا قيميا في صراعه الدائم بين جدلية الحياة و الموت. حاولت بذلك إعادة الاعتبار للإنسان الذي انتزعت منه روح الحياة و القيم الإنسانية، على الرغم من كون الإنسان هو محور الكون على حد تعبير أليكسيس كاريل (9). بهذا، تؤشر المشاهد السردية في قصص ”تسونامي” عن قيم وإيحاءات دلالية. تكشف عن رؤيا القاص مصطفى لغتيري للحياة والوجود. لأن الإبداع عامة، لا يخرج كما ترى الباحثة الوجودية سيمون دو بوفوار عن كونه رؤيا للحياة و الكون (10).
- المشهد السردي:
تخضع الحركات، والعلاقات والأحاسيس التي يرصدها سارد قصص مجموعة ”تسونامي” لرؤية سردية خاصة. تجعل لكل موجود من هذه الموجودات ضرورة في حياة القصة تخييليا وواقعيا. حيث تقع رؤية السارد غالبا على مشهد محدد لا يتعدى في الغالب لقطتين تخضعان لكولاج محكوم إما بتقابل ضدي أو بتداخل نصي (تناص).
أ.التقابل الضدي: يتأسس النسق المرجعي في قصص تسونامي على تقابل ضدي بين العوالم الحكائية(حيوان/ إنسان، رجل/ امرأة، طفل/ طفلة، حياة/ موت، سماء/ أرض، طهارة/ دناسة، الخوف/ الشجاعة،…الخ). حيث تشكل هذه الثنائيات ذلك الخيط الرفيع الذي يجمع قصص المجموعة. هذا الخيط/ الرؤيا الذي يعلن عن موت إنسان العصر الحديث( على المستوى الوجودي على الأقل). نظرا لهيمنة قيم السلب التي تعلن عن تحول الكائن البشري (الممسوخ). وابتذال الحياة نتيجة اضمحلال مكوناتها وجوديا، وواقعيا.
تجلى ذلك في قصة ”وثيقة” (ص:84) حيث أصبح كل شيء محكوم بمنطق السوق (العرض و الطلب). وهكذا دواليك في النصوص القصصية الأخرى. حيث تكشف هذه المشاهد السردية المبنية على التقابلات الضدية، منظورا مأساويا للإنسان المحكوم بالقيم ”التحتية” التي تنزع عنه الجانب الإنساني. مما يعيده إلى طابعه الغريزي الذي يشترك فيه مع الحيوانات. لأن هذه الغريزة هي التي تفصل بين الإنسان و الحيوان على حد تعبير عالم الاجتماع إميل دوركايم (11) .
مما جعل نسق التقابلات ذا مرجعية سلبية. يمكن إجمالها في التالي:
- الدناسة (قصص: الطهارة، المطهر، فرح) 2.الخوف (قصص: حذر، الموت، طفولة) 3. الخديعة (قصص: خداع، عدالة، أنفلوانزا، غزو، كسوف) 4.الوحدة (قصص: اكتئاب، الوحدة، ذكرى) 5.التمرد (قصص: تسونامي، الشاعر، تقمص، السكوت من ذهب، عرائس، انتقام، حرية). 6.الاستكانة (قصص: وداعة، وطن، غيمة، ذهول، نبوءة) تستمد المشاهد السردية أهميتها مما تمثله من قيم تجريدية. تعبر عن المتوحد في التجربة الإنسانية التي تكمن أساسا في هشاشة البنى الفكرية والأخلاقية لدى الإنسان. لهذا، استطاعت بنية المشهد السردي داخل نصوص مجموعة ”تسونامي” أن تعطي للأحداث و الشخصيات الموصوفة طابعا خاصا. ومنفردا وقارا للحظة التي يتفاقم فيها البعد الدرامي.
ب. التداخل النصي:
إذا كان التقابل النصي ينبني على نسق مرجعي. يقابل بين الثنائيات الضدية سواء تعلق الأمر بمكونات الطبيعة، أو ارتبط بالقيم الإنسانية، فإن التداخل النصي يتأسس على نسق مرجعي ذهني ومعرفي. يمتح من ذاكرة القاص الثقافية. ارتكز على تقنية التناص التي فتحت للقصة القصير جدا مجالا للامتداد والاتساع في مخيلة المتلقي بمجرد ذكر مؤشر علمي معين.
يتأسس البناء التناصي في نصوص هذه المجموعة القصصي على معطيين أساسيين. يشكل الثاني إبدالا للأول. لكنهما ليسا في تصارع أو تضاد. بل يمكن أن يتلازما معا باعتبارهما ثنائية توافقية. تحقق كنه الحياة. إذ لا يمكن أن يتحقق ”الوجود دون امرأة”. وما عنوان نص ”نكاية” (ص:81)، إلا رفضا لكل الشعارات والمنظومات التي تسعى إلى تجزيء العالم، أو تشتيته. أما في قصة ”تناص” (الصفحة:77)، فيضعنا السارد أمام بناء تناصي آخر غير متواز بل يتسم بالوحدة العضوية على الرغم من وجود البناء الثنائي ذي المرجعية الموحدة (الأدب).
نتج عنها محاكاة تطابقية من حيث الموضوع ”الجنة والجحيم” في كتابين مختلفين الأول عربي ”رسالة الغفران للمعري”. والثاني يتعلق بكتاب ”الكوميديا الإلهية لدانتي”. يخدم الاقتباس الثقافي والأدبي المجمل الصيغي لقصص المجموعة. يقوم على تحيين القيم المتعالية التي تجعل الإنسان يتجرد عن واقعه. ويسمو بنفسه إلى متاهات التأمل والعزلة. فقيمتي العذاب والجحيم، والجزاء/الجنة، تحكمان الوجود الإنساني في مآله. وتحتاجان العزلة والاختلاء من أجل التمعن فيهما.
هكذا يتشكل المشهد السردي في قصص تسونامي القصيرة جدا من التقابل الضدي الذي يغلب القيم السلبية. في حين تضمحل القيم الإيجابية، والتداخل النصي الذي يجعل القصة تنفتح على نصوص أخرى. تمنحها الامتداد والتوسع ذهنيا لدى القارئ أكثر منه سرديا وخطابيا.
- ”زخات حارقة” والبحث عن خصائص النص القصصي:
تثير المجموعة القصصية ”زخات حارقة” لمصطفى لغتيري، الكثير من الأسئلة حول عناصر القصة القصيرة جدا، وانفتاحها على تقنيّات سردية لا حصر لها، منطلقًا من واقعه، وتاريخه، وثقافته. تتكئ على السرد و الشعر في الوقت نفسه. مما يعمّق دلالة النصّ القَصصيّ، مستولدًا صيغًا نحويّة وتركيبيّة تتعدّد بتعدّد نصوصه القصصيةّ من أجل تحقيق تجريب سردي. يتجاوز القواعد التي يضعها النقاد انطلاقا من التراكم الذي حققته المتون السردية القصصية.
بهذا، تُخترق نصوص مصطفى لغتيري القصصية كل قاعدة. لهذا، فإن القاص مصطفى لغتيري الذي يؤمن بدور الحكاية في بناء النص القصصي، يؤمن أيضًا بتجاوز نمطيّتها. لذلك، يقدّم في قصصه القصيرة جدًّا أشكالًا حكائيّة متعدّدة/ متنوعة. تتّخذ بُنى دائريّة، أو تعاقبيّة، أو تعليليّة. ما يمكن أن يجعل مجموعته القصصية فسيفساءً بنائيًّا. يفتح أفاقا جديدة أمام المتلقي. تتميز قِصّة “برتقالة” ببنية دائريّة. تعتمد على بنية سرديّة سابقة، وتعيد إنتاج بدايتها في نهاية تصنع مفارقة لفظيّة، وحداثية، وفانتاستيكية. يقول السارد في قِصّة برتقالة: (صباحًا فتحت باب الثلاجة… مدّدت يدي داخلها…تناولت برتقالة. متلذّذًا شرعت أقشرها… فجأة أمام ذهولي، تحوّلت البرتقالة إلى سيّارة أجرة صغيرة حمراء… شيئًا فشيئًا استحالت دهشتي إعجابًا بالسيارة… بتؤدة فتحتُ بابها الخلفيّ…انبثق منها الكاتب متأبّطًا أوراقه…مدّدت يدي نحوه…دون تردّد سلّمني إحداها…متلهّفا قرأتها…إنّها قِصّة سيّارة أجرة، تحوّلت إلى برتقالة (ص:26).
كما لجأ السارد/ القاصّ إلى بناء حكايات قصصه بناء تعليليًّا، مستثمِرًا الصيغ اللغويّة المتعدّدة التي يتيحها نظام الجملة العربيّة، على نحو ما نجده في قِصّة “وثيقة” (ص:84)، وقِصّة “المتشائل” (ص:41 )، وقِصّة “أسرة” (ص:115) التي توظف الحوار، لتقدّم حكاية تحفر بكثير من الأناة وجدان القارئ. يقول السارد:
ـــــ قال الابن: أنا سعيد، لأنّ أبي يشتري لي كلّ ما أحتاج
ــــــ قالت البنت: أنا سعيدة لأنّ أبي يسمح لي بالذهاب أينما شئت
ــــــــ قالت الزوجة :أنا سعيدة لأنّ زوجي أبدًا لا يرفض لي طلبًا
ـــــــ قال الزوج، وقد طفرت من عينيه دمعة: حتمًا، يجب أن أكون سعيدًا لأنّ كلّ من حولي سعدا). يوظف سارد هذه المجموعة القصصية طرقا متعدّدة لعرض الأحداث. حيث يلجأ إلى رصد الأحلام والكوابيس، وإلى الحوار. لكنه لا يعمل على تكثيف الوصف. لأن هذا الأخير يكبل سرعة السرد، ليضعه في خدمة سرد مكثّف موجز. تجلى ذلك في قِصّة “كابوس” التي تحاكي أحد نماذج الشخصيّات الاجتماعيّة السائدة في المجتمع العربيّ، وتقدّم إدانة صريحة لذلك النموذج من خلال الاعتماد على كابوس يتكرّر بأشكال متعدّدة، ليقدّم للقارئ دلالات جديدة:(هبّت الطفلة من نومها فزعة…هرولت الأمّ نحوها…ضمّتها إلى صدرها، ثمّ سألتها:
ــــ ما بك يا ابنتي؟ بصوت متهدج، يخالطه نحيب متقطع أجابت: ـــــ كلب شرس يطاردني…أوشك أن يعضّني يا أمّي صباحا أخذت الأمّ ابنتها إلى “فقيه” ليعدّ لها تعويذة…انبهر الفقيه بجمال الطفلة، فالتمعت في عينيه نظرة، كانت قد رأت مثلها في عيني شخص تعرفه جيّدًا…ارتعبت الطفلة، فانطوت ذاتها حين حلّ الليل، رافقت الأمّ ابنتها إلى الفراش…ظلّت بجانبها إلى أن نامت…لم يمض زمن طويل، حتّى لعلعت في البيت صرختها…أسرعت الأمّ إليها…حضنتها بلطف ثمّ سألتها: ـــــ الكلب ثانية يا ابنتي؟ ـ مرتعبة أجابت الطفلة: ـــــ بل كلبان يا أمّي) (ص:127).
أما في قِصّة “الغريب”، فقد بنى القاص مصطفى لغتيري مفارقة نصوصه القصصية على المكون اللغوي مستفيدًا من النعت الذي يرافق الأشجار، فثمّة أشجار وارفة، وأشجار ظليلة، وهو يفيد من الدلالة المألوفة؛ ليقلبها في نهاية القِصّة رأسًا على عقب، مانحًا القِصّة دلالتها الوارفة(في بلادنا شجرة وارفة الظلال…جاء الغريب اشتراها، وطردنا بعيدًا، لنصطلي تحت نيران الشمس الحارقة…بعد زمن، رحل الغريب…مبتهجين عدنا إلى الشجرة، فلفحتنا ظلالها الحارقة)(ص:99).
كما جاءت بعض مفارقاته مفعمة بسخرية مرّة، على نحو ما نجد في قِصّة “عولمة” التي تنتقد الزعيم الذي يلعن العولمة، والإمبرياليّة، واقتصاد السوق، ولكنّه لا يتورّع، عند العطش، عن أن يشرب زجاجة كوكاكولا أمام الحشود. كما اقتربت تلك المفارقات، في قِصّتين من قِصصه، من حدود النكتة التي تضحك المتلقّي، ولا تترك أثرًا عميقًا في نفسه. يعتمد مصطفى لغتيري في صياغة لغته الحكائيّة على المجاز اعتمادًا لافتًا، ويرتكز في كثير من الأحيان على التشخيص، مستثمرًا الحيوان، والشجر، والحجر، ليعبّر عن هموم البشر، من دون أن ينسى وضع المجازات اللغويّة في سياق حكائيّ، وفلسفيّ، وإنسانيّ، وثقافيّ إحاليّ، على نحو ما نجد في قِصّة “رقصّة”.
وفي قِصّة “مالك الحزين” التي تحيل شخصيّتها الأساسيّة على بيدبا وابن المقفع وأوسكار وايلد، من دون أن تفقد بوصلة توجيه الحكاية نحو هدفها النبيل (في مراكش…على أسوار قلعتها القديمة، كان مالك الحزين يتربّع على عرش المدينة… من عليائه يتأمّل تكاثر الحمام من حوله، وتناقض بنات جنسه، بشكل يهدّدها بالانقراض… برويّة كان يفكّر في الأمر، وهو يسترجع تلك الحكاية القديمة، حين أفتى أحد أسلافه لحمامة برأي، أنقذ فراخها من الثعلب، وأهلكه. فجأة حطّت بجانبه حمامة حزينة…متألّمة طفقت تبثّه شكواها، وتستعطفه المشورة…أشاح مالك الحزين عنها بوجهه وقال: لقد تغيّر الزمان يا صغيرتي)(ص: 7).
تعد مجموعة “زخّات حارقة ” لمصطفى لغتيري من أهمّ الأعمال القصصية القصيرة جدًّا التي تؤسّس لهذا النوع السرديّ التي تسعى إلى التجديد والابتكار، والتجاوز، بدلًا من الجمود و الثبات.
تركيب واستنتاج:
كشف التراكم الذي حققته تجربة القاص والروائي مصطفى لغتيري، عن تحول في البنى السردية لنصوصه القصصية. سواء على مستوى الأساليب السردية(التقنية) أو الأبعاد الدلالية. مما جعل تجربته محكومة بهاجس التجريب القصصي على جميع مستويات النص: الحكاية، اللغة، البناء، الرؤية الفنية، الدلالة. لعل هذا ما يؤكد العديد من القضايا المرتبطة بالعملية الإبداعي
1. كل إبداع حقيقي محكوم بالتجريب الإبداعي الذي يتساوق مع تجربة الحداثة و التجديد.
- يسعى التجريب الإبداعي إلى التجديد وتجاوز المعهود و المألوف. قصد إحداث الأثر الجمالي المتجدد في المتلقي.
- إذا كـان التجريـب عنـد الغـرب هـو مقاطعـة التقاليـد و كسـر السـائد والثابـت وقطـع كـل علاقـة مـع الماضـي، فإنه عند المبدع العـربي بقـي في حالة من التردد. لا يعـترف بـه في بـادئ الأمـر، ثم بعـد ذلـك جعلـه نقطـة التقـاء بين الماضي و الحاضر ووصل التراث بالحداثة. إن ما يميز النصوص القصصية للمبدع مصطفى لغتيري، نزوعها نحو التجريب السردي. حيث وظف السارد جملة من الخطابات التي أدمجت فيما بينها وتفاعلت لتنتج بنية نصية تؤكد على جمالية الكتابة القصصية الجديدة. تخلق لدى القارئ مغامرة على مستوى التلقي. يجوب من خلالها عوالم النص. ليكشف عن جوانب هذا التجريب القصصي من خلال فعل القراءة و التأويل.
الهوامش: الصفحات المشار إليها مأخوذة من:
لغتيري (مصطفى) حدثنا القرد، فقال…(قصص قصيرة جدا)، ط1، منشورات غاليري، 2019. تتضمن هذه المجموعة الأعمال القصصية الكاملة لمصطفى لغتيري: مظلة في قبر، تسونامي، زخات حارقة، حدثنا القرد، فقال…
(1) مودن (عبد الرحيم) معجم مصطلحات القِصّة المغربيّة، منشورات دراسات سال، الطبعة الأولى، 1993، ص:53
(2) جاسم الحسين (أحمد) القصة القصيرة جدا، ط1، دار الأوائل للنشر والتوزيع، دمشق، سورية، 2000 ،ص 18
(3) حطيني (يوسف) القِصّة القصيرة جدًّا بين النظريّة والتطبيق، دار اليازجيّ، دمشق، 2004، ص:32
(4) حمداوي (جميل) القصة القصية جدا وإشكالية التجنيس، ط1 ،2006، ص: 7
(5) مسلك (ميمون) ما قبل السرد، تصديرات لمجموعات قصصية، ط1، منشورات ديوان العرب، 2012، ص:14
(6) إبراهيم (نبيلة) فن النص في النظرية والتطبيق، ط1، دار غريب، القاهرة، 1984، ص: 74. Jakobson(Roman)Huit Questions de poétique, col points, éd seuil, Paris, 1972, P :32 (7)
(8) مسكين (سعاد) لقصة القصيرة جدّاً في المغرب: تصورات و مقاربات، ط1، دار التنوخي للنشر، 2012، ص: 1
(9) كاريل (أليكسيس) الإنسان ذلك المجهول، ترجمة: نهى يهمن، ط1، دار الكتب، القاهرة،1995، ص:132
(10) دو بوفوار (سيمون) نحو أخلاق وجودية، ترجمة: جورج طرابيشي، ط1، دار النهضة، القاهرة، 1979، ص:12
(11) دوركايم (إميل) قواعد المنهج في علم الاجتماع، ط1، المركز القومي للترجمة، بيروت، 2015، ص:74