وكالات – كتابات :
نشرت مجلة (فورين بوليسي) مراجعة أعدَّها؛ “باولو غيربودو”، عالم اجتماع ومنظر سياسي في كلية “كينغز” لندن، لكتاب: (إصلاح الشعبوية)؛ الذي كتبه، “إريك بروتزر”، الباحث في “هارفارد غروث لاب”، و”بول سامرفيل”؛ أستاذ الأعمال الكندي.
وفي البداية؛ يُشير الكاتب إلى أنه لأكثر من عقد من الزمان ظل العلماء يتساءلون عن ماهية “الشعبوية”، وكيف أصبحت تُهيمن على السياسة في الغرب. وكان العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ عقدًا شعبويًّا إلى حدٍ كبير، حيث ظهر قادة يمينيون مثل؛ “غاير بولسونارو”، في “البرازيل”، و”دونالد ترامب”؛ في “الولايات المتحدة”، وظهرت أيضًا موجة من المرشحين والأحزاب اليسارية الشعبوية، من “بوديموس”؛ في “إسبانيا”، إلى “غيريمي كوربين”؛ في “المملكة المتحدة”، و”بيرني ساندرز”؛ في “الولايات المتحدة”، إلى جانب حركات احتجاجية مثل (السترات الصفراء) الفرنسية.
وأصبحت الشعبوية، التي اقتصرت يومًا ما على بلدان “أميركا اللاتينية) المتخلفة صناعيًّا، سِمة مألوفة للسياسة في كل بلد غربي. والأمر الذي أربك المحللين والمراقبين حول الشعبوية كان الطريقة التي تجعلها عنصرًا يمكن مزجه مع أجندة اليمين واليسار على حدٍ سواء.
الشعبوية ليست إيديولوجية..
يقول “غيربودو”: وأشتهر المُنظِّر الأرجنتيني؛ “إرنستو لاكلو”، بقوله إن هذا يحدث لأن، بل هي منطق سياسي أعم، وتناشد مجمل الشعب. ودفع “كاس مادي”؛ من جامعة “جورجيا”، بأن الشعبوية إيديولوجية: “ضعيفة المركز” تُركِّز على التعارض بين: “الشعب المحض” و”النخبة الفاسدة”.
وجادل الاقتصاديون، مثل: “داني رودريك” و”جوزيف ستيغليتز” و”توماس بيكيتي”، بأن عدم المساواة الاقتصادية هي التي تُثير السخط الشعبي. وشجب هؤلاء المؤلفون الفجوة المتَّسعة بين الأغنياء والفقراء في “الولايات المتحدة” و”أوروبا”، والطريقة التي تُغذي بها الاستياء، والذي غالبًا ما يوجَّه ضد المهاجرين والأقليات وليس إلى النخب الاقتصادية.
وركَّز آخرون على اتجاهات اقتصادية أكثر تحديدًا – من الصدمات التجارية كتلك الناتجة عن دخول “الصين” إلى السوق العالمية، إلى الأتمتة والطريقة التي تُنتج بها الوظائف اليدوية، إلى الهجرة وتأثيرها في سوق الوظائف. ولا يمكن فهم العواقب السياسية لهذه الاتجاهات إلا من خلال المنظور العام لزيادة التفاوت الاقتصادي. ولكن كيف يؤدي عدم المساواة إلى الاستياء الشعبوي، وهل ينبغي حقًا أن يكون عدم المساواة هو محور التركيز على الإطلاق ؟
يُعد كتاب “إريك بروتزر” و”بول سامرفيل”؛ الصادر بعنوان: (إصلاح الشعبوية-Reclaiming Populism)، هو أحدث مدخل في هذا النقاش. ويُجادل المؤلفان بأن التركيز على عدم المساواة، باعتباره العامل الدافع الذي يقف وراء حركات التمرد الشعبوية، أمر خاطيء. ومن وجهة نظرهما، “الظلم الاقتصادي”؛ مقاربة ألصق بما هو على المحك.
ويؤكد المؤلفان أن: “الناس لا يهتمون اهتمامًا منهجيًّا بمدى تفاوت الدخول، بل يهتمون بمدى تحقُّق العدل في المحصِّلة النهائية”؛ وهل: “عدم المساواة؛ موضوع البحث، ناتج عن الفروق بين المواطنين على نحو عادل أم غير عادل”. ومن وجهة نظرهما، يتمثل العنصر الأساس للظلم في تقليل الحراك الاجتماعي، وهو ما يجعل المواطنين يشعرون بأنهم محرومون من الفرص العادلة لإثبات قيمتهم.
عدم المساواة هدف غير مناسب لصنع السياسات..
وبحسب “غيربودو”، ينأى “بروتزر” و”سامرفيل” بأنفسهما عن كلٍّ من المناهج النفعية البحتة ومناهج المساواة الراديكالية، وقد استلهما من مناقشة “جون راولز”؛ (فيلسوف أخلاقي وسياسي شهير في التراث الليبرالي)، للعدالة والإنصاف ومن موقف؛ “أنغوس ديتون”؛ (اقتصادي شهير حاصل على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية)، أن عدم المساواة هدف غير مناسب لصنع السياسات.
يُحذر “بروتزر” و”سامرفيل” من خطأ الوعود بتقديم: “نتائج متساوية مفروضة بقوة القانون”، لأن هذا الهدف يرقى إلى مستوى الاستبداد الاشتراكي ويخلِّف نتائج قد يراها الجمهور غير عادلة أخلاقيًّا. وبدلًا من ذلك، يُجادل المؤلفان بأن الهدف يجب أن يكون مبدأ الإنصاف الذي: “ينص على أن مكافآت التعاون يجب أن تُقسَّم بالأساس وفقًا للإسهام الفردي”.
ووفقًا لـ”بروتزر” و”سامرفيل”، فإن العدالة الاقتصادية مبدأ أخلاقي أساس مقبول لدى الجمهور. ويؤكدان على أننا: “نكون جميعًا أفضل حالًا عندما تتاح للجميع فرصة عادلة للنجاح، ولكن يجب أن تعود ثمار النجاح بالقدر نفسه على من يكسبونها كَسْبًا عادلًا”. على سبيل المثال، يُجادلان بأن الأزمة المالية لعام 2008؛ أثارت الغضب لأنها كشفت بوضوح عن ظلم النظام الاقتصادي، إلى جانب أن إنقاذ الأثرياء والبنوك الكبيرة جرى باستخدام الأموال العامة.
ويمكن اعتبار الموقف الاحتكاري لعديد من الشركات الرقمية والطريقة التي أثَّرت بها شخصيات مثل: “غيف بيزوس”؛ (رئيس مجلس إدارة شركة آمازون)، مثالًا معاصرًا آخر على الظلم الاقتصادي.
ويرى “بروتزر” و”سامرفيل”؛ أن الاختلافات بين الدول الغربية تعني أنه لا يُنصح بحل واحد يُناسب الجميع، بل يقترحان استخدام طريقة: “تشخيصية”، تُحدِّد في كل حالة مدخلات السياسة المفقودة. وفي حالة “الولايات المتحدة”، تُحدَّد التكاليف الباهظة للتعليم العالي والرعاية الصحية على أنها ظروف هيكلية تغذي مشاعر الظلم. وفي “المملكة المتحدة”، تُغذي ندرة المساكن هذه المشاعر مع أن المشكلة يمكن معالجتها عن طريق تخفيف سياسات التخطيط والتغلب على نظام حكومي مفرط المركزية. أما في “فرنسا” و”إيطاليا”، فالشعبوية مشتقة من الفساد السياسي وأنظمة العمل الصارمة.
لا يمكن تجاهل القضايا التي تُثيرها الشعبوية..
ولفت الكاتب إلى أن المؤلفَيْن غير متحمسَيْن لفرض ضرائب أعلى على الأغنياء، معتبرين أنها قضية خاسرة في صناديق الاقتراع. إن الوصفات السياسية القليلة التي يقدمانها هي نسخة محدَّثة من: “ليبرالية الطرف الثالث”؛ لـ”بيل كلينتون” و”توني بلير”. لكن هذا لا يكفي لمعالجة الأسباب الجذرية للشعبوية.
كان من المقرر في الأصل أن يكون عنوان: (إصلاح الشعبوية) هو (هزيمة الشعبوية). ويعكس التغيير إدراك المؤلفَيْن أن الحركات الشعبوية يجب أن يُسمَع لها على الأقل. وفي حين أنه يجب إدانة الشعبوية، وخاصة من النوع اليميني غير الليبرالي، إلا أنه يصعب تجاهل القضايا التي تُثيرها. ويعكس هذا النهج تحولًا في الحس السليم بين الخبراء الليبراليين وصانعي السياسات، وقبولًا بأن الدوافع الاقتصادية للشعبوية أهملت لوقتٍ طويل جدًّا.
يُعد كتاب “بروتزر” و”سامرفيل” محاولة للتوفيق بين التعاطف مع بعض إجراءات إعادة التوزيع والإلتزام المستمر بـ”الأسواق الحرة”. لكن هذا النهج الوسطي والفصل التحليلي للحراك الاجتماعي عن عدم المساواة الاقتصادية التي تدعم حجة الكتاب هو موضع خلاف. وفي الواقع، سلَّط عدد من الاقتصاديين – بمن فيهم الرئيس السابق لمجلس “البيت الأبيض” للمستشارين الاقتصاديين؛ “آلان كروغر”، في خطاب مشهور، في عام 2012، في مركز “التقدم” الأميركي، والذي عُرِف باسم: (منحنى غاتسبي العظيم)، الضوء على حقيقة أن التفاوت الاقتصادي المرتفع يؤدي إلى ضعف الحراك الاجتماعي.
وجمعت رسومات “كروغر”؛ بين مرونة الأرباح بين الأجيال؛ (بقياس عدم المساواة المنقولة عبر الأجيال – باعتبارها وكيلًا لنقص الحراك الاجتماعي)، على المحور الرأسي، ومؤشر “غيني”، وهو المؤشر الأكثر شيوعًا لانعدام المساواة الاقتصادية، على المحور الأفقي. وأظهر التوزيع أن الحراك الاجتماعي بين الأجيال يميل إلى أن يكون منخفضًا في البلدان التي يوجد بها انعدام مساواة كبير في الدخل، مثل: “أميركا”.
عقبات أمام الحراك الاجتماعي..
وفي كتابهما: (مستوى الروح-The Spirit Level)؛ لعام 2009، أكدت: “كيت بيكيت” و”ريتشارد ويلكنسون”، بالفعل أن عدم المساواة الاقتصادية والحراك الاجتماعي المنخفض متشابكان. وبالاعتماد على مجموعة كبيرة من بيانات الحراك الاجتماعي في الدول الغربية، جادلا بأن: “زيادة عدم المساواة في الدخل تُقلل من الحراك الاجتماعي”. ويُرجع ذلك إلى الفصل الاجتماعي والجغرافي بين الأغنياء والفقراء الذي يُعززه عدم المساواة في الدخل. بعبارة أخرى، يُزيد عدم المساواة في الدخل من وجود العقبات أمام الحراك الاجتماعي، ويستبعد الفقراء من الشبكات الاجتماعية والمعلومات الضرورية للتقدم اقتصاديًّا.
وتبدو حجة “بروتزر” و”سامرفيل”؛ حول مركزية العدالة أكثر منطقية من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي عنها في الاقتصاد السياسي. والمؤلفان مُحقِّان في تسليط الضوء على أن التصورات العامة غالبًا ما تكون مرآة مشوهة للظروف الهيكلية؛ وأنه إذا أظهر الجمهور قلقًا بشأن عدم المساواة، فهذا لا يعني تلقائيًّا أنه يتبنى سياسات تهدف إلى الحد منه.
وجرى تسليط الضوء على هذه المفارقة في تقرير: (بريطانيا غير المتكافئة)؛ لعام 2021، الذي يُظهر أنه في حين أن حوالي: 80 بالمئة من المواطنين البريطانيين قلقون بشأن عدم المساواة، فإن حوالي: 50 بالمئة فقط يؤيدون إعادة توزيع الدخل والثروة من الأغنياء إلى الفقراء. ومع ذلك، من المُثير للاهتمام أن الدراسة نفسها وجدت دعمًا قويًّا لسياسات إعادة التوزيع غير المباشرة مثل الخدمات العامة والتعليم والصحة وأشكال الاستهلاك العام. وسيتضمن تمويل هذه الخدمات بالضرورة زيادة الضرائب على الأثرياء، وهي نقطة شائكة في السياسة المعاصرة.
كما جادل “جو غينان” و”مارتن أونيل”؛ في صحيفة (الغارديان) العام الماضي، لا يمكن تكرار سياسات الطرف الثالث، التي حاولت الجمع بين ضرائب منخفضة على الأغنياء والإنفاق على الرفاهية الاجتماعية، في الوقت الحاضر، لأنها اعتمدت على الظروف الاقتصادية المواتية بشكل استثنائي: “نظرًا (للرواج الطويل) في التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين”. وبالنظر إلى أنه – باستثناء الانتعاش الحالي للناتج المحلي الإجمالي، بعد الانخفاض في بداية جائحة (كوفيد-19) – من المُرجَّح أن تستمر العشرينيات من القرن الحادي والعشرين على مسار النمو المنخفض، ومن المقرر أن تكون إعادة التوزيع لعبة محصلتها صفر.
هل يمكن فرض ضرائب أكبر على الأغنياء ؟
ينوِّه الكاتب إلى أنه بعد الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، كانت تدابير إعادة التوزيع التي اتخذتها الحكومات ذات التوجه الاجتماعي الديمقراطي بمثابة: “عامل مساواة كبير”، كما جادل “بيكيتي”. واليوم، تُشير الثروة الهائلة التي جمعها أمثال: “بيزوس” و”إيلون ماسك”؛ إلى أن القوة الاقتصادية أصبحت أكثر تركيزًا من أي وقت مضى. وبسبب العوائد التاريخية الأعلى على رأس المال أكثر من معدل نمو الأجور، تميل الثروة المتراكمة لهؤلاء الأفراد إلى الزيادة. وعلاوةً على ذلك، تُترجَم القوة الاقتصادية للأثرياء إلى قوة سياسية، حيث تعمل جماعات الضغط التابعة للشركات باعتبارها حلقة وصل ضرورية.
ويُعد فرض الضرائب على الأغنياء هو السبيل الواقعي الوحيد للمضي قدمًا في تمويل الخدمات العامة وتوفير الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية للسكان المسنين. ولكن القوة السياسية للأثرياء تعني أن تدابير إعادة التوزيع من المُرجح أن تلقى مقاومة عنيدة.
وفي مواجهة المقترحات المطروحة من يسار (الحزب الديمقراطي)، يُشير “بروتزر” و”سامرفيل” إلى أنه لا توجد رغبة كبيرة في فرض ضرائب أعلى. غير أنه في هذه الأيام، لم تُعد سياسة: “أفرضوا ضريبة على الأغنياء”؛ هي صرخة استنفار للاشتراكية – تُظهر بيانات استطلاعات الرأي أن أكثر من: 60 في المئة من الأميركيين يعتقدون أن الأثرياء والشركات يدفعون قليلًا جدًّا، على الرغم من أن الدعم يعتمد على نوع معين من السياسة.
ومن الخمسينيات حتى السبعينيات، كان ما يُعد اليوم مستوياتٍ عقابية من الضرائب أمرًا شائعًا في “الولايات المتحدة” و”أوروبا”، حتى في ظل السياسيين اليمينيين، مع المثال الشهير لضريبة الدخل الأعلى بنسبة: 91 بالمئة في عهد الرئيس الأميركي؛ “دوايت أيزنهاور”. ولكن في هذه الأيام، لدى “الولايات المتحدة” وعديد من الدول الأوروبية؛ بعضًا من أدنى معدلات الضرائب على أرباح الشركات والثروة والدخول المرتفعة في التاريخ الحديث. وبينما لا تُعد العودة إلى تلك المستويات السابقة من الضرائب غير واقعية في عالم معولم، فمن الواضح أن المستويات الحالية المنخفضة القياسية للضرائب المفروضة على الأغنياء والشركات ليست مستدامة ماليًّا أيضًا.
وتقوم بعض البلدان مثل: “بريطانيا”؛ بالفعل ببعض التحركات الجزئية نحو زيادة ضرائب الشركات. وتُعد الاتفاقية العالمية بشأن الحد الأدنى من الضرائب على الشركات؛ مؤشرًا إضافيًّا على شكل المستقبل. لكنها تظل نقطة إنطلاق غير مرضية بالمرة، حيث تدفع الشركات المتعددة الجنسيات في كثير من الأحيان ضرائب أقل على أرباحها مما يدفعه العمال. وفي نهاية المطاف، يتمثل المقياس الأساس للعدالة في جعل تحقيق التوازن في المكافآت نحو العمال مُقدَّمًا على رأس المال – سواء من خلال الضرائب أو من خلال تعزيز القدرة التفاوضية للنقابات العمالية.
يُشير “بروتزر” و”سامرفيل” إلى الثقة المنخفضة في المؤسسات السياسية، حيث لا يلجأ المواطنون إلى الحركات والقادة الشعبويين لمجرد قلقهم من آثار عدم المساواة أو “الظلم”، بل يفعلون ذلك لأنهم يرون أن عدم المساواة نتيجة للقرارات السياسية التي يتخذها ممثلوهم ضد مصالح مَنْ يمثلونهم.
ومن المُرجح أن يتعزز هذا الشعور في “الولايات المتحدة” فقط من خلال الجدل السياسي الحالي حول اقتصاديات “بادين”، وعرقلة الشخصيات الوسطية؛ مثل السيناتور “جو مانشين”؛ والسيناتور “كيرستن سينيما”. وفي حين أن الأجندة الاقتصادية للرئيس؛ “جو بايدن”، كانت مُصمَّمة إلى حدٍ كبير باعتبارها وثيقة تأمين ضد عودة “ترامب” أو استنساخه، فإن فشلها الحالي في معالجة الأسباب الجذرية للشعبوية قد يؤدي قريبًا إلى إحياء أكثر أشكال الشعبوية زعزعة للاستقرار – بقيادة اليمين المتطرف الذي لا يهتم بمعالجة الجذور الاقتصادية للشعبوية، بل بركوب موجة عواقبها الاجتماعية والسياسية، بحسب ما يختم الكاتب.