من الناحية النظرية فإن مبدأ حرية الأسواق قد يكون صحيحاً ومفيداً في حال تم السير في نهجه الذي اختطه المنظر الأول لاقتصاد الرأسمالية بشكله الكلاسيكي وأعني هنا آدم سميث في كتابه المرجعي ثروة الأمم الذي صدر في العام 1776. ويستند المبدأ بشكله النظري على أن قوى العرض والطلب في أي سوق سوف تؤدي إلى استقرار في السوق وفي الأسعار عبر قيامها بتوجيه دفة الإنتاج إلى القطاعات ذات الطلب الأعلى، وبالتالي تفضي زيادة العرض فيها إلى انخفاض أسعارها لاحقاً، بينما القطاعات التي ينخفض الطلب عليها فسوف يتم هجرانها إلى حين توازن العرض فيها مع الطلب عليها، لتستقر أسعار مجمل ما يتم تبادله في السوق المحلية بعدئذٍ حول معدل عام يدعى الريعية الاقتصادية في المجتمع. وجميع ذلك لا بد أن يحدث من وجهة نظر المنظر السالف الذكر بشكل عفوي ودون الحاجة لأي تدخل خارجي في الآلية الداخلية لعمل السوق وقوى العرض والطلب، وهو ما سوف يؤدي إلى انتعاش اقتصادي لاحق جراء حركية الاقتصاد الداخلية، كما لو أن هناك «يداً خفية» وفق التعبير الحرفي للمنظر نفسه، وهو التعبير الذي أصبح تعبيراً مقدساً لدى وعاظ الرأسمالية المعاصرين، تسهر فيه تلك «اليد الخفية» على ضبط وتنمية الاقتصاد وسوقه المحلي بناظم داخلي مضمر ينبع فقط من ترك الحرية المطلقة له في تنظيم نفسه وفق قوانين العرض والطلب.
ولكن ذلك التصور الذي رسمه آدم سميث في مرحلة نشوء الرأسمالية، وقبل تعضيها بشكلها العولمي الاحتكاري الراهن، قد يكون تصوراً صحيحاً وصحياً ولا بد منه، لو كانت المقدمات الطبيعية لوجوده موجودة في الواقع العياني المشخص راهناً؛ بينما الحقيقة المرة هي أنها في الواقع معدومة بشكل مطلق.
ولتلمس ذلك الانعدام الكلياني يكفي فقط النظر إلى الواقع الاحتكاري للاقتصاد العالمي الراهن، والذي يقوم على احتكار الغالبية المطلقة من جل الإنتاج العالمي والثروات المالية المتراكمة جراءه في يد حفنة صغيرة من كبرى الشركات العابرة للقارات، تقوم بتحريك ونقل إنتاجها عبر الحدود، بما يتناسب حصراً مع أهدافها في تحقيق الربح السريع، والتي لا بد أن تتضمن مخالفة لاشتراطات حرية السوق عبر تغولها عليه، من خلال تلاعبها الاحتكاري بموازين العرض والطلب، بالاستناد إلى حصتها الهائلة من الإنتاج والثروة. ومثالها النموذجي يكمن في القطاع المالي والمصرفي على المستوى العالمي، وفي دول الشمال الغني خصوصاً عقب التراجع الاقتصادي العميم في العام 2008، الذي استتبعه مناورة مجتمعات الأقوياء الأثرياء في الولايات المتحدة، و دول الاتحاد الأوربي، و بريطانيا، و اليابان بما يدعى سياسات التيسير الكمي Quantitative Easing، و التي تضمنت طباعة أكثر من 16 تريليون دولار قامت بضخها حكومات تلك الدول في أسواقها الداخلية من خلال مصارفها المركزية، و من ثم إقراضها إلى المصارف المحلية، وبأسعار فائدة شبه صفرية، وهو ما كان يجب أن يقتضي وفق قوانين اقتصاد السوق الحر وحرية العرض والطلب إلى انخفاض أسعار الفائدة التي لا بد أن يدفعها أي مقترض من تلك المصارف في تلك الدول سواء كان شخصاً أو شركة، وهو ما لم يحدث على الإطلاق بأي شكل ملموس ذي معنى، لسبب بسيط يتعلق في البنية الاحتكارية في القطاع المالي كما هو حال غالبية القطاعات الاقتصادية الأخرى في ظل واقع العولمة الاحتكارية القائم بالفعل، و هو ما كان تمظهره في الحالة المذكورة تنسيق بين مصارف دول الشمال الغني التي تتشابك فيما بينها حتى لا تكاد تفرق فيها مؤسسة عن أخرى، وتكاد جميعها أن تكون فروعاً لمؤسسة مالية عملاقة واحدة، و هو ما أنتج اتفاقاً على عدم تخفيض أسعار الفائدة على المستهلكين في مثال صريح على أن «اليد الخفية» التي تصورها آدم سميث والمناط بها السهر على حيوية الأسواق الحرة وتوازن العرض والطلب فيها لا تصلح للعمل في ظل الرأسمالية بشكلها العولمي الاحتكاري الذي يقع جله في يد بضع شركات ما يجري في كواليسها سري لا يدري به العامة، ونموذج إدارتها الهرمي فاشي في جوهره و يقوم على استقبال الأوامر من أعلى الهرم الإداري لتنفيذها بحرفيتها، دون أي إمكانية لتعديلها من المرؤوسين أو حتى التفكر بأخلاقيتها أو قانونيتها، بالإضافة إلى تشابك تلك الشركات بشكلها العابر للقارات، وتداخل مصالحها المتبادلة، التي تستدعي التنسيق فيما بينها، وتبادل المنافع، وحتى اقتسام الحصص من الموارد الأولية، وأسواق التصريف، بشكل يحول تلك الشركات إلى ما قد يرقى إلى «حكومة كونية غير معلنة» تقوم بتسيير اقتصاد العالم، ولا تخضع لأي قوانين محلية في أي دولة، عدا عن قوانين اقتصاد السوق الحر النظرية في أي من اقتصادات تلك الدول. والمثال النموذجي الآخر على تلك الشركات الاحتكارية العملاقة هو المؤسسات التقانية الكبرى العابرة للقارات من قبيل شركات آبل وغوغل وفيسبوك وأمازون، والتي تحتكر الغالبية شبه المطلقة من الإنتاج والتبادل والتوزيع في حقل ما تنتجه أو تسوقه، وتقوم بتحديد الشروط لتسعير منتجاتها بالشكل الذي تراه ملائماً لنفسها، بعد أن غيب احتكارها الكلياني أي فرصة نظرية لأي منافس آخر ليقوم بعرض ما تنتجه في السوق، وهو ما يلغي أي إمكانية لفعل قوانين العرض والطلب في ظل ذلك الاحتكار المطلق، الذي يتغول ليس فقط على المستهلكين وإنما على الدول وقوانينها، مفصحاً عن وجهه القبيح في تبجح تلك الشركات بعدم وجود وطن لها، وهو ما ينتج الحقيقة المرة بعدم دفع أي من تلك الشركات أي ضرائب فعلية عن أرباحها الخيالية في أي دولة بشكل ذي معنى، وهو ما يزيد معاناة البشر والشركات الصغرى في مجتمعات بأكملها لا بد لها ليس فقط مكابدة طغيان تلك الشركات العابرة للقارات فقط، وإنما تحمل الأعباء الضريبية التي كان لا بد لتلك الشركات الوحشية القيام بها، وهو واقع بائس يجعل من أطروحات «اليد الخفية» و«حرية الأسواق» مهزلة يدرك الجميع خواءها في ظل الرأسمالية الاحتكارية المعولمة، وأن استمرار مؤسسات الاقتصاد العولمي من قبيل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي بالمطالبة بها هو عبارة عن وصفة نموذجية لإرغام اقتصادات الدول النامية على فتح أسواقها الداخلية على أعنتها ليتم ابتلاعها من قبل نفس الشركات العابرة للقارات التي ابتلعت الاقتصادات الغربية من قبل، مع فارق كبير هو القدرة الإنتاجية الهائلة في الاقتصادات الغربية التي لا زالت تمكن الفئات الوسطى والطبقة العاملة فيها من تحمل الأعباء الضريبية التي لا تقوم أي من الشركات العابرة للقارات بسدادها في تلك الدول، بينما هشاشة الاقتصادات النامية ووهن الطبقات الوسطى فيها وشبه انعدام الطبقة العاملة التي تحول جلها إلى بروليتاريا هامشية عملها مرتبط بحظها، فقد تجد من يستأجر قوة عملها اليوم، وتقعد ملومة محسورة عاطلة عن العمل غداً، هي ما أفضت فعلياً بعد اتباع تلك الوصفة السمية لتحرير أسواقها بالقوة في غير موقع جغرافي من خارطة الدول المفقرة إلى تحول هشاشتها الاقتصادية إلى حطام اجتماعي وهشيم اقتصادي شكل الأرضية للكثير من الحروب الأهلية الطاحنة والهجرات القسرية بعد أن تحول كثير من تلك الدول إلى دول فاشلة بامتياز لا خيار عملياً لأبنائها سوى السعي للهروب بأي شكل من جحيمها بعد تبخر أي احتمالات للعيش و العمل بشكل آمن طبيعي فيها.