تُعتبر لعبة الملفّات المضادة الملفّقة أو الحقيقيّة واحدة من أدوات الضغط الفاعلة في أروقة السياسة الدوليّة والمحلّيّة، وحتّى في غالبيّة التعاملات غير الصحّيّة في الشركات والمقاولات وعموم الحياة الإنسانيّة، وتستخدم تلك الملفّات للضغط والابتزاز على الأطراف المتورّطة في قضايا سياسيّة وماليّة وأخلاقيّة غير سليمة.
واستخدمت هذه الملفّات بشكل واضح في العراق بعد تشكيل أوّل حكومة في انتخابات 2005، برئاسة نوري المالكي، حيث سبق لحكومة المالكي أنّ أعلنت منتصف حزيران/ يونيو 2012 بأنّها ” تمتلك ملفّات تُدين بعض النواب بتعاونهم مع دول إقليميّة وأجنبيّة وتمويلهم لمنظّمات إرهابيّة”.
وهذا الكلام الخطير كرّره رئيس حكومة تصريف الأعمال مصطفى الكاظمي في الثاني من أيلول/ سبتمبر 2021، وكشف أنّ بحوزتهم” 18 ملفّ فساد إذا اطلعتم على تفاصيلها ستصابون بأزمةٍ قلبيّة”!
وحرب الملفّات عادت من جديد قبل أسبوع تقريباً وقد أثارها هذه المرّة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، الذي دعا لتخفيض قيمة صرف الدولار الأمريكيّ مقابل الدينار العراقيّ، وقد قدّم الصدر عدّة مقترحات من بينها استدعاء وزير الماليّة ومحافظ البنك المركزيّ تحت قبّة البرلمان فوراً.
رغبة الصدر دفعت النائب الأوّل لرئيس البرلمان حاكم الزاملي (التيار الصدري) لاستدعاء وزير الماليّة علي علاوي للحضور إلى البرلمان قبل عشرة أيّام، ولكنّ الوزير لم يحضر!
وقد بيّنت المادّة ” (61) /سابعاً/ب/ من الدستور بأنّه يجوز لخمسة وعشرين عضواً من أعضاء مجلس النوّاب، طرح موضوع عامّ للمناقشة لاستيضاح سياسة وأداء مجلس الوزراء أو احدى الوزارات ويقدّم إلى رئيس مجلس النوّاب”!
وقد وجّه وزير الماليّة رسالة إلى رئيس مجلس الوزراء رافضا فيها طلب الزاملي لحضوره في البرلمان بشأن قضيّة سعر الصرف!
ولاحظنا أنّ الزاملي تصرّف بدكتاتوريّة واضحة مع وزير الماليّة، ويفترض، وفقاً للدستور، أن يتمّ رفع طلب الاستيضاح لرئيس البرلمان مع تواقيع النوّاب، ولا يحقّ للزاملي التجاوز على صلاحيّات رئيس البرلمان طالما أنّ الرئيس يُمارس عمله بصورة طبيعيّة!
وفي إطار حرب الملفّات أصرّ الزاملي، يوم السبت الماضي، على استدعاء الوزير وأكّد بأنّه” حتّى لو استقال علي علاوي فلن يُترك دون محاسبة ولدينا ملفّات تُدينه، وقد حمّل الزاملي ” وزارة الداخليّة وجهاز المخابرات مسؤولية سفره لحين إكمال متطلّبات حضوره لمجلس النوّاب والإدلاء بشهادته وحسم الملفّات التي على عاتقه”!
وبعيداً عن الاتّهامات المتبادلة بين الفرقاء السياسيّين، تبرز أمامنا جملة من التساؤلات المحيّرة والمذهلة بل والمدهشة، ومنها:
هل دور الحكومة يقتصر على تجميع الملفّات على الخصوم لاستخدامها في المقايضات السياسيّة، أم أنّ واجبها، باعتبارها أعلى سلطة تنفيذيّة، تنفيذ البرامج الهادفة لبناء الدولة وخدمة الناس بما فيها كشف قضايا الفساد، وفضح الفاسدين وتقديمهم للعدالة؟
وما هو المغزى من تصريحات رؤساء الحكومة والكتل السياسيّة بأنّهم يمتلكون ملفّات خطيرة ضد (شخصيّات غير محدّدة)، وهل هي تهديدات غير مباشرة للمتورّطين بتلك القضايا لمقايضتهم، أم أنّها إبراز للعضلات أمام الجمهور دون تنفيذ للقانون، والمحصّلة يكون (مالك الملفّات) قد أوصل رسائل ابتزاز وتهديد للمعنيّين، وأقنع البسطاء من الجمهور بأنّه يعرف الحقيقة وحريص على الوطن!
كان يفترض بالبرلمان في زمن حكومتي المالكي والكاظمي استدعاءهما وطلب التوضيح بخصوص تلك الملفّات الخطيرة، ومَنْ هم المتورّطون بالقضايا التي تتسبّب بأزمة قلبيّة لمَنْ يعرفها؟
وهذا ما لم يحصل، ومرّ الأمر مرور الكرام، وكأنّ المجلس لا علاقة له بالعراق والعراقيّين!
وأخيراً لماذا تجاوز الزاملي على صلاحيات رئيس البرلمان، وهل هي رسالة صدريّة بأنّهم يمكنهم التحكّم بالبرلمان وملاحقة الجميع طالما هم الكتلة الأكبر؟
ثمّ هل قضيّة ربكة أسعار الدولار يتحمّلها شخص واحد أم منظومة كاملة، وبالذات ونحن نتحدّث عن قوى سياسيّة تتحكّم بكافّة مقدّرات العراق منذ العام 2004 وحتّى اليوم!
وهذه القوى أفقرت العراق وجوّعت شعبه، وأنهكت المنهوكين، وضيّعت المساكين ودمّرت الضعفاء، واليوم يأتي التركيز على قضيّة رفع سعر الدولار في خطاباتها الرسميّة والشعبيّة، فهل هذه هي المشكلة الوحيدة في العراق؟
إنّ حرب الملفّات الابتزازيّة لا يمكن أن تقود لبناء الدولة، ويفترض أن تنتهي هذه الدوّامة القائمة على التهديدات القانونيّة والإعلاميّة، وتتوقّف هذه المهازل السياسيّة المعروفة للقاصي والداني!
المسؤول الصادق هو الذي يطبّق القانون على القريب والبعيد، ولا يسعى لتحقيق مكاسب آنية، استعراضيّة وإعلاميّة، على حساب أمن البلاد، وثرواتها ومستقبلها وسلامة أهلها!
فمتى يتعلّمون أنّ السياسة فن استخدام القوّة العادلة وعمارة البلاد، ونشر الخير والسلام والمحبّة في ربوعها؟
dr_jasemj67@