25 فبراير، 2025 7:44 ص

إعادة تفكيك كتابات “محمد حسنين هيكل” !

إعادة تفكيك كتابات “محمد حسنين هيكل” !

خاص : قراءة بقلم – إبراهيم حمدي :

(كتابات هيكل بين المصداقية والموضوعية).. عنوان لافت بغير شك لكل مهتم بالتاريخ المصري الحديث والمعاصر، فـ”هيكل” – مهما كان موقفك الشخصي منه، لا يختلف إثنان على كونه عمود من أهم أعمدة النصف قرن الثاني من القرن العشرين – لاعبًا وشاهدًا ومؤرخًا.

وتأتي أهمية الدراسة حسب تأكيد المؤلف بقوله: “رغم الأهمية البالغة لكتابات هيكل التأريخية، فإن المكتبة الأكاديمية العربية ظلت تُعاني حتى الآن من ندرة الأبحاث التي تتناول بالنقد والتقييم إنتاج هذا الكاتب، خاصة في مجال الكتابة التاريخية التي له فيها إسهامات كبيرة كانت مثار اهتمام وجدل بين المؤرخين المعاصرين، وكذلك بين قطاع كبير من المهتمين بتاريخ مصر الحديث والمعاصر، فكان من المناسب إفراد دراسة أكاديمية لتناول الكتابات التاريخية عند؛ محمد حسنين هيكل، وتحليلها، وكان هذا الكتاب الذي اشتمل على أهم فصولها”.

وذلك صحيح تمامًا، لكن هل نجحت دراسته التوثيقية تلك فيما هدفت إليه ؟

هذا ما سنحاول إجابته بإذن الله..

*****

ملخص الدراسة :

يؤكد المؤلف في بداية كتابه؛ على كون الأستاذ “هيكل” هو الصحافي الأكثر تأثيرًا في الصحافة المصرية والعربية؛ خلال الستين عامًا الفائتة، كما أنه – بالدرجة نفسها – الكاتب السياسي الأكثر تأثيرًا في الفكر والحياة السياسية في الفترة نفسها. وذلك ليس فقط لإنتاجه الصحافي، وليس فقط للدور الذي لعبه في نجاح مؤسسة (الأهرام) وتحويلها من مؤسسة خاسرة معرضة للإغلاق إلى صرح من أكبر صروح الصحافة العالمية. وإنما للمكانة المرموقة التي حظي بها بجوار الرئيس؛ “جمال عبدالناصر”، الشخصية العربية الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين، حسب رأي عدد كبير من الأكاديميين، وأهلت تلك المكانة؛ “هيكل”، للعب أدوار سياسية في عهده وعهد خلفه الرئيس؛ “السادات”، كما كفلت له شهرة عالمية باعتباره موضع الثقة والناطق الرسمي باسم “عبدالناصر”، وهي الشهرة التي دعمها باتصالاته الواسعة مع نجوم الصحافة ووسائل الإعلام العالمية، وهو أيضًا الكاتب الأكثر إثارة للجدل في تلك السنوات وحتى الآن.

*****

تقسيمة الدراسة :

ينقسم الكتاب لمقدمة وأربعة فصول وخاتمة..

في الفصل الأول: يتحدث فيه عن نشأة “هيكل” وكتاباته من البداية وحتى الوفاة، وهو فصل عرج فيه على أهم محطاته، وسأتجاوزه للوقوف فيما هو أهم.

في الفصل الثاني: خصصه المؤلف للموضوعية في كتابات “هيكل”، وهو ما أثبت فيه بشكل قاطع عدم موضوعية الرجل !.

ورغم نفي “هيكل” عن نفسه صفة المؤرخ، فهو يُحاول على حد وصف المؤرخ الراحل؛ “رءوف عباس”: يُحاول أن يُحرر نفسه من عدة أشياء، منها التخلص من أسلوب الإنتقاء عند بناء روايته للحدث، فيغفل أشياء أو يُسدل عليها أستارًا من الظلال، بينما يُلقي أضواءً ساطعة على غيرها من الأشياء، فهذا لا يُقبل من المؤرخ، لكنه من سمات أصحاب الشهادات التاريخية وأصحاب المذكرات.

ويؤكد المؤلف على أن هناك حدٍ أدنى من الشروط يجب توفرها لتتسم الدراسات التاريخية بالموضوعية، أولها عدم اتخاذ المواقف المسبقة بكل ما يترتب على مثل تلك المواقف من دفاع أو هجوم عن جماعة سياسية دونما سند أو مبرر. كما يجب أن يكون أمينًا في التعامل مع الحقائق، فلا يُخفي حقيقة لأنها تُناسب هواه أو وجهة نظره، ولا يُعطي حقيقة أخرى حجمًا أكبر من حجمها لأنها تُقدم عكس الحقيقة الأخرى، فالموضوعية في العلوم الاجتماعية تتمثل في القدرة على تجاوز الأحكام المسبقة.

كما أن محددات الدراسة الموضوعية؛ كما يشرح المؤلف هي :

أ – الإحاطة بمعظم وقائع الموضوع التاريخي ودقائقه، وهذه أول أسس الموضوعية التاريخية، وكل مؤرخ أو كاتب في التاريخ مضطر للقيام بعملية فرز واختيار لما سيُقدمه للقاريء، وإذا أسقطنا هذا الشرط مع كتابات “هيكل” سنجد أن كتاباته تغُرق القاريء في مئات التفاصيل، التي توجهه لمسار مختار بعناية نحو صورة انطباعية عن عصر ما؛ دون أن يترك للقاريء فرصة لأن يُحيط بالصورة الكلية لهذا العصر.

وضرب المؤلف بعض أمثلة مثل: من يقرأ عن الخديوي “إسماعيل”؛ في كتابات “هيكل”، لن يحصل إلا على صورة انطباعية عن السفه غير المحدود وعن تبديد الموارد والجيوش دون طائل، ولن يحصل أبدًا على الجانب الآخر من الصورة؛ حيث المنشآت الحضارية والعمرانية وغيرها. كما أن يحصل القاريء كذلك على صورة للملك “فاروق”، إلا الملك الغارق في ملذاته وفساده المالي. وكذلك عن صورة شديدة السلبية لزعيم الوفد “مصطفى النحاس”؛ الضعيف أمام زوجته الشابة، والخانع لسلطة الملك والمستسلم لسيطرة الإقطاعيين على الوفد، ولن يرى أبدًا شيئًا عن جهاده وجهاد (الوفد) في التمسك بالدستور ومقاومة استبداد القصر؛ وفي قضية الاستقلال ووحدة وادي النيل وغيرها..

ب – الدقة في إيراد الوقائع التاريخية والتحقق من المصادر:

ويؤكد المؤلف هنا أن كتابات “هيكل” تتصف في العموم بالدقة والاهتمام بإيراد التواريخ والشخصيات التاريخية والملابسات، لكنه أيضًا يحيد أحيانًا عن الدقة لخلق روابط تاريخية معينة لأسباب سياسية، وضرب مثلاً بحديثه في قناة (الجزيرة) على أن الشيوعية العربية نشأت في أواسط الأربعينيات على يد يهود غامضي العلاقات، مثل “هنري كورييل” في “مصر”، وهذا دفع عدد من مؤرخي الحركات الشيوعية لرفضه ووصفه بعدم الدقة، فنشأة الأحزاب والحركات الشيوعية في “مصر” تعود لنصف قرن سابق للتاريخ الذي حدده، إذ تعود لنهايات القرن التاسع عشر، ويُفسر موقف “هيكل” لرغبته في الربط بين الشيوعيين ومؤسسين يهود مُثيرين للجدل.

ومن الأمثلة الأخرى: تعبير “هيكل” عن التفاوت الطبقي لعصر ما قبل ثورة يوليو، حيث ذكر أن: 5% من عدد السكان يحصلون على نصف الدخل القومي؛ (مقال بتاريخ: 1-6-1962)، لكنه في مقال آخر بتاريخ: (18-8-1961)، ذكر أن: 1% من عدد السكان كانوا يحصلون على نصف الدخل القومي، ثم عاد في مرة أخرى في مقال بتاريخ: (1-2-1963)، لتستقر النسبة إلى نصف بالمئة لتوافق الخطاب الناصري في هذا التوقيت !

وفي نموذج آخر لعدم الدقة؛ يورد المؤلف واقعة غريبة ليُثبت منها “هيكل” عبثية وسفه الخديوي “إسماعيل”، حيث ذكر “هيكل” أن الخديوي أرسل حملة لمساعدة قوات إمبراطور “فرنسا” في “المكسيك”؛ مات فيها عشرات الآلاف من المصريين؛ (كتاب سقوط نظام ص 95)، بينما الحقيقة أن حملة “المكسيك” تلك كان الوالي “سعيد باشا”، وليس الخديوي “إسماعيل”، من أرسلها، وكانت مكونة من أورطة واحدة من مئات الجنود وعدد محدود من الضباط، وقد عاد منهم ثلاثمائة !

كما يورد المؤلف بعض الأمثلة الأخرى نكتفي منهم بواقعة ذكر “هيكل” لمسألة اعتقالات سبتمبر 1981، بأنها شملت ثلاثة آلاف شخص، يحتوي هذا العدد على مئات الأساقفة والرهبان؛ (كتاب خريف الغضب ص 394- 405 -407)، بينما كان العدد: 1536 شخصًا، وعدد المسيحيين المعتقلين بالكامل: 152، كان من بينهم شخصيات سياسية يسارية !

ثم يعرج المؤلف لموضوع الوثائق، وهو أشهر ما يُميز كتب الأستاذ “هيكل”، وفي ذلك يؤكد أنصار “هيكل” أن كتاباته عالية التوثيق لهذا السبب.

لكن المؤلف هنا يرفض هذا القول بشكل كبير..

ففي كتاب (ملفات السويس)، الذي اشتمل على ملحق وثائقي من: 247 صفحة، هناك الكثير من المعلومات المهمة لم توثق ولم يذكر مصدرها مطلقًا، ومنها أن الملك “فاروق” ناشد الإنكليز التدخل لإنقاذ عرشه (ص 173)، ومنها أن قوات من الجيش قد أرسلت يوم 23 تموز/يوليو لقطع الطريق على القوات الإنكليزية؛ إذا تقدمت من القناة نحو القاهرة (ص 173)، وغيرها من الأمثلة.

ومن أسباب تضعيف المؤلف لمصداقية التوثيق في كتب “هيكل”، يورد أن الأستاذ “هيكل” ما يُحيل على مصادر مجهلة، مثل: مصدر أوروبي وثيق الإطلاع؛ (حديث المبادرة ص 167)، ومثل: طريقة “هيكل” في تجهيل المصدر بطريقة النقل غير المباشر، فبدلًا من النقل عن الوثائق وتحديد رقم الوثيقة وتاريخها ومصدرها، فإنه ينقل عن مرجع يُشير إجمالًا إلى كلمة الوثائق مع تجهيل المعلومات الخاصة بها، فعلى سبيل المثال ذكر قصص مؤداها أن الملكة “فريدة” أقامت علاقة غير شرعية مع رسام إنكليزي، وعلاقة مماثلة مع أحد النبلاء المصريين في ذلك الوقت، ونقل “هيكل” هذا عن مذكرات صحافية إنكليزية تروي ذكرياتها عن “مصر”.

ومثال آخر للقصص مجهلة المصدر، هو ما يرويه طاعنًا في نزاهة “النحاس باشا” الأخلاقية، بإقامته علاقة بصحافية إيطالية اسمها: “فيرا”؛ (سقوط نظام ص 52-53)، فأحال هذه القصة إلى مصادر مجهلة مثل: “السجلات”، “الروايات الموثقة”.

ثم يُضيف المؤلف سببًا آخر لضعف التوثيق عند “هيكل”، في كثرة الإحالة على الأموات أو الغائبين، وهي أمثلة بالعشرات، وهي من أشهر المثالب التي يُشير إليها خصومه منذ زمن، ويستعجب المؤلف حسب قوله: ويُلاحظ في كثير من كتابات “هيكل” أن هؤلاء الأموات أو الغائبين يفتحون صدورهم وأسرارهم له بلا حساب وبلا تحرز وهم يعلمون أنه صحافي مهمته النشر وليس كاتم أسرار مهمته الكتمان !

ففي كتابه (مبارك وزمانه، من المنصة إلى الميدان)، “ص 114″، يروي “هيكل” حوارًا جرى بينه وبين “الملك حسين” يزدري فيه الأخير الرئيس “مبارك” ويسخر منه. وهي رواية بلا شهود أحياء، فالملك “حسين” الشاهد الوحيد توفاه الله قبلها بسنوات، وقد كان معروفًا عنه – حسب كلام المؤلف – الدبلوماسية الشديدة، فيُستبعد أن يسخر الملك بهذه الطريقة من الرئيس المصري أمام “هيكل”.

ويعود المؤلف في حديثه لمدى موثوقية وأهمية الوثائق التي نشرها في ملاحق سبعة كتب، حيث يُشير المؤلف أنه قام برصد جميع المعلومات التي وردت فيها، وما إذا كانت تلك المعلومات مقرونة بمراجع مذكورة، أو بشهود أحياء، وجاءت النتيجة أن الوثائق مرتفعة ومتوسطة الأهمية أقل بكثير من نسبة الوثائق منخفضة وسلبية الأهمية !

ويدل ذلك كما يؤكد المؤلف، على تعمد تضخيم ملاحق الوثائق للتأثير الإيحائي على القاريء !. فكون إفراد ربع وأحيانًا ثُلث الكتاب كملحق وثائقي كفيل بإعطاء إيحاء وتصور على توثيق كل واقعة وكل حدث !

ففي حين يكون الملحق الوثائقي متضخمًا بلا مبرر توثيقي حقيقي لكثرة ما فيه من وثائق منخفضة الأهمية، يكون المتن نفسه في تلك الكتب بها الكثير من المعلومات غير الموثقة !

في الفصل الثالث: أفرده المؤلف عن الحديث في المصداقية في كتاب “هيكل”..

والمصداقية حسب توصيفه: هي روح الكتابة التاريخية، وإحدى خصائص الموضوعية، وهي أهم خصائصها وأكثرها حسمًا، فكل نص مفتقد للمصداقية مفتقد للموضوعية وليس بالضرورة العكس.

وحاول المؤلف هنا في إيراده لأمثلة إفتقاد “هيكل” للمصداقية أن يكون فيها “هيكل” شاهدًا مباشرًا أو مطلعًا مباشرًا وليس ناقلًا، كذلك لم يعتمد على شهادات الخصوم له كمدرسة (أخبار اليوم)؛ بقيادة “مصطفى أمين” و”موسى صبري” مثلاً..

والأمثلة في هذا الفصل تجاوز المئة مثال، وهو رقم ضخم إذا عرفنا أيضًا أن المؤلف؛ حسب قوله، قد انتقاهم بالشروط التي ذكرناها، وإلا لأصبح العدد مضاعف !

وهو في تقديري أصاب في كثير منها، كما ظهر متحاملًا في بعضها الآخر، وسأذكر أمثلة بعد قليل..

في الفصل الرابع والأخير، وهو بعنوان خصائص أسلوب الكتابة عند “هيكل”..

وهو فصل بديع ومنصف..

فروعة أسلوب ومفردات “هيكل” اللغوية الساحرة أكسبته قراء ليس التاريخ والسياسة من إهتماماتهم !، أو حسب نص كلام المؤلف:

“وقد جمع الأستاذ بين نشاط الصحافي النابه، وذكاء السياسي المتمرس، وحضور الدور التاريخي، وعذوبة وحسن صياغة الأديب البارع، لذلك كانت كتاباته الجاذبية تجتذب حتى قطاعات من القراء بعيدة بطبعها عن الكتابات التاريخية والسياسية، قال عنه الشاعر فاروق جويدة: هو دائمًا يُطارد الكلمة الجميلة، ومن الصعب أن تجد في كتاباته لغة عادية، إنه غواص ماهر يبحث دائمًا عن اللآليء في أعماق البحار، ولا يقبل أن يجلس على رمال الشواطيء”.

ويكفي لتوضيح عبقرية “هيكل” اللغوية المدهشة أن نُشير إلى كون معظم المفردات الخطابية السياسية التي ذاعت منذ سبعين عامًا؛ كانت من مفرداته :

“النكسة، زوار الفجر، لقد صار للوطن درع وسيف، الرئيس الضرورة، دولة المخابرات، مراكز القوى، القوى الناعمة، المجتمع المفتوح، السلطة التي شاخت على مواقعها، بحر السياسة في مصر قد جف..”؛ وغير ذلك الكثير لكن نكتفي بذلك.

وختامًا، يلخص المؤلف بعض استعراض الكثير من نماذج كتابات “هيكل” التأريخية، ثبت له بالقطع وجود نقائص موضوعية حقيقية، فقد وصلت الدراسة إلى نتيجة مؤداها أن كتابات “هيكل” لا تُعد تأريخًا منهجيًا؛ لإفتقارها إلى الأدوات المنهجية حتى في مجال توثيق المعلومات التاريخية.

كما يؤكد المؤلف أن كتابات “هيكل” لا تُعد شهادة تاريخية يُعتد بها؛ بسبب إفتقارها إلى الموضوعية، ولضعف في خاصية المصداقية. لكنه يؤكد كذلك على كونها تظل ذات أهمية كبيرة باعتبارها المرجع الأشهر للقراءة الناصرية للتاريخ، وهي مهمة للتعرف على الفهم والتصور الناصري لتلك المراحل والوقائع.

*****

انتهى تلخيصي للكتاب وأنتقل لذكر إيجابيات الدراسة وسلبياتها..

أولًا: إيجابيات الدراسة:

01 – تتبع واستقصاء دءوب لكتابات “هيكل”، ويكفي لأن تُدرك حجم الجهد، أن نُشير إلى الفترة الضخمة التي تتبع فيها المؤلف كتابات الرجل، فهي تمتد من: سنة 1943، تاريخ نشر أول موضوع صحافي، وحتى وفاته سنة 2016، أي ما يجاوز السبعين عامًا ! في أرشيف الصحف وعدد مقالات يجاوز الألف وأربعمائة، بجوار كتب عديدة له وعنه، خلاف الفحص والتحقيق والمقارنة في كل ما كتب وكتب عنه !

02 – تعتبر الدراسة هي البحث الأول للمؤلف، ويتضح منها فهم وقراءة واضحة للمرحلة موضوع البحث، وهي ميزة غالبًا غير متوفرة وألاحظها في رسائل الباحثين الأولى، حيث يغلب عليهم عدم إلمام كافٍ بموضوعه، مما يضطره عند الكتابة عن نقطة محددة أن يُشير لكل ما كتب عنها، دون معرفة بمرجعية وسبب كل شهادة.. وهذا يُحسب بشدة للباحث.

03 – استطاعت الدراسة بالفعل أن تُثبت القصور الكبير في مصداقية وانعدام موضوعية “هيكل” في كتاباته.

04 – رغم تتبعي واهتمامي الشغوف بـ”هيكل” وبالفترة المصرية الحديثة، إلا أنني أعترف بمفاجأتي في بعض الوقائع الجديدة، كما أنني قد أقتنعت بتغيير بعض القناعات مما قد استقرت في رأسي، مثل مسألة الوثائق وواقعة لقاء “هيكل”؛ بـ”أينشتاين”.

05 – بعض الأمثلة لتناقضات أو لإثبات تحيزات كتابات “هيكل”:

أ. لقاءات “هيكل” بـ”عبدالناصر” قبل الثورة:

في كتاب “فؤاد مطر”: (بصراحة عن عبدالناصر – حوار مع حسنين هيكل)؛ ذكر “هيكل” أنه قابل “عبدالناصر” أثناء “حرب فلسطين”؛ في “عراق المنشية”، ثم قابله مرة أخرى أثناء عودته للمنطقة، وقابله مرة ثالثة بعد الهدنة الأولى، ومرة رابعة زاره مع “صلاح سالم”؛ في (أخبار اليوم) بعد نشر التحقيقات المتعلقة بالانقلابات السورية، وخامسة في (أخبار اليوم) ليطلب منه كتاب (إيران فوق بركان)، والسادسة والأخيرة في منزل “محمد نجيب”؛ قبل الثورة بأيام.

وهو ما أعاد تكراره “هيكل” في أماكن أخرى، مثل حواره مع؛ “يوسف القعيد”: (حسنين هيكل يتذكر – عبدالناصر والمثقفون)، و”عادل حموده”: (هيكل السياسة الحب الحرب)، لكن بذكر عدد أقل، خمسة لقاءات في كتاب “حموده”، وثلاثة مع “القعيد” !

لكن لـ”هيكل” نفسه رواية أقدم من كل هذا في مجلة (آخر ساعة)؛ عدد: 27-8-1952، تحت عنوان: “من هم ضباط قيادة محمد نجيب ؟”،  ذكر فيه عن “جمال عبدالناصر”: “سمعت عنه قبل أن ألقاه، كانوا يتحدثون عنه في الفالوجا المحصورة كما يتحدثون عن الخرافات والجن والعمالقة.. كان جريئًا إلى أبعد حدود الجرأة، وفي الوقت نفسه كان هادئًا إلى أبعد حدود الهدوء.. ثم التقيت به لأول مرة.. وكان اللقاء في بيت اللواء محمد نجيب قبل أربعة أيام من حركة القوات المسلحة.. ثم التقيت به للمرة الثانية من فجر 23 يوليو، وكانت الحركة قد فرغت منذ أقل من دقائق”.

وأضيف أنا: حتى لقاءه الوحيد الثابت في منزل “محمد نجيب”؛ الذي روى فيه “هيكل” تفاصيل حوار طويل مع “عبدالناصر” و”عامر”؛ عن استبعاده لتدخل الإنكليز إن قام الجيش بأي تدخل كما حدث مع “عرابي” قديمًا إلخ، هذا الحديث بهذه الجرأة والصراحة بين قائد تنظيم شديد الحذر والكتمان كـ”عبدالناصر”، وبين صحافي مهمته النشر لا كاتم الأسرار ويعمل في مؤسسة صحافية داعمة للقصر أمر لا يستوعبه عقل من الأساس، وهو ما أميل فيه لقول البعض بأن “هيكل” أراد أن يصنع لنفسه دورًا في الثورة !

ب. قصة “محمد نجيب” والثلاثة ملايين دولار:

أورد “هيكل” في كتابه: (عبدالناصر والعالم)؛ ص71-72، قصة مفادها أن “محمد نجيب” قد تسلم ثلاثة ملايين دولار من المخابرات الأميركية، ولما واجهه “عبدالناصر” بذلك أنكر أنه يعلم أنها من المخابرات الأميركية، وأنه ظنها مرسلة من الرئيس “إيزنهاور”؛ الذي خصص اعتمادات مالية لبعض رؤساء الدول ليتمكنوا من تجاوز مخصصاتهم المقيدة بالميزانية من أجل الدفاع عن أنفسهم وعن بلادهم ضد الشيوعية، وهنا طلب “عبدالناصر” إيداع المبلغ في خزينة إدارة المخابرات، وأمر بعدم صرف أي شيء منه إلا بإذن من مجلس قيادة الثورة.

وقد رد “محمد نجيب” وقتها؛ بعد الإفراج عنه، وكانت أبسط الأشياء لتوضيح بطلان الواقعة، أن “نجيب” لم يكن في الحكم وقتها ومحددًا إقامته !

وهو خطأ لا أعرف كيف وقع فيه كاتب بدقة “هيكل” ؟!

فهو كاتب يزن ويُراجع كل كلمة بميزان صائغ !

ج. لقاء “هيكل” بـ”أينشتاين”:

ذكر “هيكل” تفاصيل هذا اللقاء في كتابه البديع: (زيارة جديدة للتاريخ)؛ ص221-293، ذكر فيها أن حديثهما أمتد لساعات، وأن “أينشتاين” كلفه بحمل رسالة لـ”عبدالناصر”، محاولًا فتح مسار تفاوضي بينه وبين “إسرائيل”..

وترد هذه الرواية رواية أخرى مبكرة كتبها “هيكل” نفسه؛ سنة 1959، ذكر فيها أن اللقاء تم سنة 1951، وليس في فترة حكم “عبدالناصر”، وأن “أينشتاين” سمح له بخمس عشرة دقيقة أثناء ممارسته لرياضة المشي !

د. تأكيد “هيكل” على وضع خطة حرب أكتوبر في عهد “عبدالناصر”:

أكد “هيكل” كثيرًا؛ كما في كتابه: (بين الصحافة والسياسة) و(استئذان في الانصراف)، أن الخطة (جرانيت 1)، وضعت في عهد “عبدالناصر”، وأنه صدّق عليها بإمضاءه، ويذكر من التفاصيل ما يجعلها أقرب ما يكون إلى ما تم تنفيذه فعلاً في الحرب، وهذا الإلحاح في التكرار هدفه تأكيد المعلومة عند القاريء وتشربه لها، وبذلك يُصبح “عبدالناصر” بمثابة الصانع الأول والمشارك الرئيس في نصر أكتوبر !

بل يزيد “هيكل” في ذكر أن الخطة (جرانيت 2) أيضًا التي كانت تستهدف التقدم ناحية المضايق؛ وضعت هي الأخرى في عهد “عبدالناصر”، وأنه صدق عليها شفاهة: (بين الصحافة والسياسة) “ص 323”.

لكن الفريق “سعد الشاذلي” يؤكد خلاف ذلك، وقد أكد أنه عندما تولى رئاسة الأركان لم يكن هناك وجود لأي خطة هجومية، وإنما كانت لدينا خطة دفاعية تُسمى الخطة (200)، وكان هناك أيضًا خطة تعرضية تشمل القيام ببعض الغارات بالقوات على مواقع العدو في “سيناء”، ولكنها لم تكن في المستوى الذي يسمح لنا بأن نُطلق عليها خطة هجومية، وكانت تُسمى (جرانيت)، وهذا ما أكده أيضًا اللواء “جمال حماد”.

تعليق: وغير شهادة الفريق “الشاذلي” الحاسمة؛ والتي تُعد أقوى الشهادات في هذه النقطة بالتحديد، هذا أكده أيضًا اللواء “محمد علي فهمي”؛ قائد قوات الدفاع الجوي في الحرب، في حوار لمجلة (الشباب).

هـ. كثرة الاستشهاد بالموتى !

*****

ما لم يعجبني في الدراسة :

أ. التحامل على “هيكل”، هذا ما شعرت به؛ وإن حاول العكس، وهذا قد يتضح في بعض الأمثلة، مثل إيراده لواقعة رفض “مكرم محمد أحمد” لنشر الست رسائل المفتوحة للرئيس “مبارك”؛ سنة 1982، فقد رجح هنا رواية “مكرم محمد”؛ لأنه فقط قام بالرد على “هيكل”، فاعتبرها رواية مصححة لرواية “هيكل” !

فليس معنى رد “مكرم” ودفاعه عن موقفه المهني؛ أن يكون تصحيحًا لرواية “هيكل”، فالروايات والوقائع التي تُشير لعدم مهنية “مكرم” أكثر أن تُحصى. وفي نفس السياق اعتبر رد “أمين هويدي” على “هيكل”؛ بخصوص ما ذكره “هيكل” عن اجتماع كبار رجال الدولة بعد وفاة “عبدالناصر”، وأن “هيكل” صور الأمر أنه هو الذي سيطر على الاجتماع وأكثر من تكلم؛ وهو الذي استجوب وزير الحربية إلخ.

فلماذا هنا رجح المؤلف رواية “هويدي” النافية لرواية “هيكل”، رغم أنه لم يدعمها بمحضر الاجتماع، في حين أن “هيكل” ذكر في حوار مع جريدة (القبس) ومنشور في كتابه: (أحاديث في العاصفة)؛ “ص42″، بالنص: “بأن كلامه في الاجتماع مسجل وثابت في محاضر اجتماعات مجلس الوزراء” ؟!

ب. واقعة دفاع “هيكل” عن قتلة “السادات”:

يذكر المؤلف هنا تصريحًا لـ”هيكل” منشور في الـ (صنداي تايمز)، امتدح فيه قتلة “السادات”، منسوب فيه تصريح “هيكل”: قتلة “السادات” هم الآن أبطال وطنيون، وأينما ذهبت مع الناس يتحدثون عن “خالد الإسلامبولي” كمُنقذ وطني كبير، وتحولت المحاكمة إلى محاكمة لـ”السادات” وسيكون – وأنا أقول ذلك كمراقب محايد فقط – يوم إعدامهم يومًا حزينًا لـ”مصر” !

وبعيدًا عن غرابة تصديق صدور مثل هذا التصريح على لسان شخص كـ”هيكل”؛ يزن كل كلمة، فقد أغفل المؤلف رد “هيكل” على هذا التصريح أكثر من مرة، منها الرد السريع الذي نشرته (المصور) على مساحة ثمانية صفحات بعدد: 19-3-1982، نفى فيه تمامًا ما نشر، وأنه مُحرف عما صرح به، كما أكد رفضه التام والقاطع للعنف ولمبدأ الاغتيالات !.. يُراجع (أحاديث في العاصفة)، ص: 213 وص243.

ج. رفض المؤلف لبعض الروايات رغم وجود شهود:

يعيب المؤلف على روايات “هيكل” الغير موثقة أو المحالة على أموات وغائبين، وقد ذكر في هذا الباب كثير من الأمثلة الصحيحة، لكنها حوت كذلك بعض الأمثلة التي لها شهود، مثل ما ذكره “هيكل” في كتابه (ملفات السويس)، عن عرض “عبدالناصر” على “أحمد لطفي السيد”؛ رئاسة الجمهورية، الذي رفض العرض.

وهذه الواقعة أعلنتها إذاعة (bbc) البريطانية، وكتب عنها؛ “مصطفى أمين”، في حينها، كذلك فقد أكدها “لطفي واكد”؛ أحد الضباط الأحرار وابن شقيقة؛ “لطفي السيد”، نفسه !

كذلك رفضه لواقعة تقبيل “النحاس باشا” ليد الملك “فاروق”، فرغم كوني لا أرجح صحتها من عدمه، إلا أنه قد تبين لي أن قائد اليخوت الملكية؛ “جلال علوبة”، له شهادة تؤكدها سابقة على رواية “هيكل”.

د. إفلات بعض التدقيق عن الدراسة:

صدقت مقولة (الكمال لله)، فرغم المجهود المذهل في التدقيق، إلا أن بعض الوقائع نقصتها الدقة، فقد سقط كتاب من جدول بيانات كتب “هيكل” المنشورة، وهو كتابه عن “عبدالناصر”؛ الذي ضم المقالات التي كتبها بعد وفاة “ناصر”. كذلك عندما تحدث عن التعذيب في السجون بعد مصرع “شهدي عطية الشافعي”، فقد نقل عن “هيكل” قوله: “أن عبدالناصر غضب بشدة عندما فوجيء بالتعذيب في السجون، الذي أدى لوفاة المناضل اليساري شهدي عطية، وأنه أمر بعقاب مسؤول السجن وتوقف التعذيب من بعدها”.

ولم يذكر المؤلف أين ذكر “هيكل” ذلك، أعتقد في كتابه: (لمصر لا لعبدالناصر)، ثم يرد المؤلف نصًا: “بينما الحقيقة أن التعذيب استمر طوال فترة الستينيات، بل تصاعدت وتيرته شاملة كل من اعتبر النظام الناصري أنهم من خصومه، وشمل ذلك الإخوان حتى وفاة؛ عبدالناصر، وشمل اليساريين حتى خروجهم عام 1964، وممن مات منهم بعد شهدي عطية؛ كان فريد حداد في سجن أبوزعبل، ومحمد عثمان، الذي قتلوه في سجن طنطا ولم تظهر جثته بعد ذلك” !

وهذا للأسف قول غير دقيق أبدًا !..

فشهادات اليساريين هنا تؤكد شبه انعدام سلخانات التعذيب بعد وفاة “شهدي” بالفعل؛ رغم موافقتي على استمراره بدرجة أشد، لكن منذ منتصف الستينيات وليس قبلها..

كما أنه للأسف أيضًا لم يراجع تواريخ وفاة “فريد حداد” و”محمد عثمان”، فهم كانوا قبل “شهدي” وليس العكس !

هـ. تهوين واقعة رسالة “السادات” لـ”كيسنجر” يوم 07 أكتوبر:

وهي الرسالة الشهيرة التي بعث بها “السادات”؛ لـ”الولايات المتحدة”، مفادها أن “مصر” لا تعتزم تعميق الاشتباكات ولا توسيع نطاق الحرب.

وينتقد المؤلف هنا مبالغات “هيكل” الغير منطقية، باتهام الأخير أنه للمرة الأولى في التاريخ يُخبر طرف عدو بنياته، وأنه بهذا العمل أعطى لـ”الولايات المتحدة” ومعها “إسرائيل” القدرة على استعادة زمام المبادرة، ووصفها بأنها طعنة في الظهر !

ويُشير المؤلف هنا على موقف الفريق “الشاذلي”؛ على شدة خصومته لـ”السادات”، رأى أن “هيكل” بالغ كثيرًا في أهمية هذه الرسالة وفي تأويلها..

كما أشار لتعليق “عبدالمنعم سعيد”، أن “هيكل” لم يُشير إلى تعليقات “كيسنجر” على هذه الاتصالات.

ثم أخذ يشرح أسباب وأهداف “السادات” من إرساله للرسالة، وقد فوجئت من هذه الفقرة بالدفاع الكامل عن الموقف دون أي إشارة بخطأ “السادات” من الأمر !.. صحيح أن “هيكل”؛ ومن بعده بعض متعصبي الناصرية، يبالغون كثيرًا في هذه النقطة، إلا أن الإنصاف والتحليل الهاديء يؤكد بخطأ تلك الخطوة، حتى أن “حافظ إسماعيل” نفسه؛ الذي قام بإرسال الرسالة يعترف في أحد حواراته بخطأ “السادات” في هذه النقطة !

و. نفي رواية أن “السادات” لم يكن أول من أذاع بيان مجلس قيادة الثورة..

يرفض المؤلف رواية “هيكل” بأن “السادات” لم يكن أول من أذاع بيان الجيش ليلة الثورة، وبل ونفى أيضًا أن “السادات” قام بإعادة تسجيل البيان بعد وصوله للرئاسة..

وهذه النقطة قد حققها وتقصاها الباحث والصحافي؛ “رشاد كامل”، في كتابيه: (لغز السادات) و(السادات أسطورة لغز)، أثبت بتحقيق وقراءة الشهادات صحة الرواية التي نفاها المؤلف !

ز. كنت أفضل أن يحقق المؤلف كتابات “هيكل” التاريخية فقط، وليس كل ما كتب، فأنا أرى من الغبن أن نُشير لتناقض أو خطأ كاتب في بداياته أو مقالاته القديمة بظروفها المعينة على إثبات تناقضه وغيره !

*****

ختامًا..

الدراسة رائعة وسدت نقصًا كان مهمًا، يحسب لها الكثير من الإيجابيات والقليل من السلبيات.

أعتذر عن الإطالة، فالإختصار كان سيخل بموضوعها بشدة.

كما أعتذر عن أي سهو أو خطأ أو ركاكة في العرض والحديث.

تقييم نهائي: أربعة نجمات من خمس.

ملحوظة أخيرة هامشية: لا أعرف كيف ولماذا أعلن بعض من أشهر ندماء “هيكل” المقربين، وأقصد: “يوسف القعيد وخالد عبدالهادي”، عن إعجابهم الشديد بالدراسة، رغم أنها تنسف فكرة موضوعية ومصداقية “هيكل” ؟!

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة