25 فبراير، 2025 10:06 ص

قصّة قصيرة

خاص : بقلم – عدة بن عطية الحاج (ابن الريف) :

ذهبت إلى مسجد عتيق لأصلّي رغيبة الفجر، وأنا سعيد مبتهج بأنّني سعيت في الظلام أرسل الخطوات لأنال النّور التّام يوم القيامة، فرحت بأنّني ظفرت بالصّلاة في الصّفّ الأوّل، وبعد انتهاءنا من صلاة الفجر جلست في مكاني أهلّل وأسبّح وأصلّي على النّبي وتلوت بعض السّور من القرآن الكريم، وقفت أنظر إلى المصلّين الذين يعدّون على الأصابع، حتّى إمام المسجد غاب عن الصّلاة ربّما كان على جنابة لم تخطر له على بال، قلت في نفسي: كان عليه أن يتيمّم ويؤدي واجبه الوظيفي أوّلاً ثمّ واجبه الديني ثانيًّا، شعرت بالسّعادة الغامرة لأنّني سأصلّي في جنح اللّيل والنّاس نيام، وسأدخل جنّة ربّي بسلام، أنا من أهل الجنّة هكذا صحت وأنا خارج من المسجد حافي القدمين ولم أنتبه إلى حذائي الذي تركته في مدخل باب المسجد، وما إن وصلت إلى منزلي حتّى صاحت زوجتي: أين حذاؤك ؟ قلت لها: تركته في المسجد، إنّه حذاء عتيق خصّصته لحضور الصّلوات في المساجد ولحضور الجنائز في المناسبات الكبيرة، لقد كثر سارقو الأحذية في هذا الزّمن ولابدّ من أخذ الحيطة والحذر، إنّه حذاء قديم ولا أظنّ أحدًا من المصلّين سيرغب فيه؛ إنّه مثل العجوز الشّمطاء التّي لا يرغب في صحبتها خلاّنها الأوفياء، قالت لي زوجتي: كان عليك أن تحتاط، إنّه حذاء عتيق ولكنّه تحفة فنيّة نادرة، إنّه حذاء نابليون بونابرت وجدته مدفونًا في بيوت أحد المعمّرين الذي كان مولعًا بإقتناء ملابس ومقتنيات نابليون بونابرت، لا أظنّ هذا الحذاء سيرغب فيه النّاس لأنّه حذاء تافه ساذج كسذاجة نابليون الذي أراد أن يؤسّس إمبراطورية برتقالية في فرنسا وما جاورها من الأمم والدّول المتاخمة لها.

بعد أن انتبهت وأدركت بأنّ حذائي العتيق تركته في ذلك المسجد العتيق، قرّرت أن أعود مسرعًا إلى المسجد العتيق لعلّي أسترجع حذائي الذي تركته هناك، فكّرت مليًا ثمّ قلت في نجواي: سأجد المسجد مغلقًا، عليّ أن أنتظر حتّى صلاة الظّهر لكي أسترجع حذائي العتيق، قرّرت الذّهاب إلى المسجد وقت صلاة الظّهر ولبست حذاءً عتيقًا آخر إنّه حذاء شارل ديغول، وهو حذاء طويل كأنفه الطّويل، وجدته مدفونًا في بيت معمّر يهودي كان مولعًا بإقتناء مقتنيات شارل ديغول النّادرة، قلت وأنا ألبس حذاء ديغول العتيق، تبًّا لك يا ديغول،منحتنا الإستقلال وتركت لنا حذاءك القذر مدسوسًا في أراضينا الطّاهرة، يا لك من داهية، منحتنا استقلالاً صوريًّا وتركتنا نموج في بحار الإضطرابات السّياسية التّي دخلت علينا من كلّ باب، حذاؤك النّتن فضح ألاعيبك ومكرك الخبيث، سأرمي حذاءك النّتن في مزبلة التّاريخ، قرّرت أن أذهب حافي القدمين إلى المسجد بعد أن قرّرت التّخلّص من حذاء ديغول النّتن، أنا أريد أن أسترجع حذائي الأوّل العتيق حذاء نابليون وسأتخلّص منه وأرميه في مزبلة التّاريخ، يقولون عنك بأنّك ساهمت في نهضة الأمّة العربية من كبوتها وساهمت في رقيّها الحضاري، ولكنّك خبيث وماكر كديغول تركت أحذيتك القذرة مدسوسة في رمال كلّ بقعة من بقاع أممنا العربية، يا نابليون، أنت قزم من أقزام التّاريخ، حاولت بتهورك السّيطرة على كلّ ثروات أمّتنا العربية، زرعت العملاء في كلّ مكان فصاروا كأنّهم أحذية تنتعلها وقت ما تشاء، دفنت أحذيتك النّتنة في أرض عروبتنا الطّاهرة لتبقى ذرّيّتك تراقبنا في كلّ زمان وفي كلّ مكان.

جاء وقت صلاة الظّهر فيمّمت شطر المسجد العتيق الرّابض عند أطراف المدينة وأنا حافي القدمين، لم أكن أفكّر في أداء الصّلاة بل كنت أفكّر في استرجاع حذائي العتيق حذاء نابليون، بحثت عنه في كلّ مكان فلم أجده ولم أعثر له على مكان، دخلت المسجد وأنا حافي القدمين أتفرّس في وجوه المصلّين لعلّي أعثر على ضالتي المنشودة المتمثلة في حذائي العتيق الذي طال انتظاري له، ولكن هيهات هيهات أن أعثر له على أثر، لقد آثر الرّكون إلى رجل آخر، وبينما أنا واقف أمام مدخل المسجد جاء رجل إفريقي يطلب منّي صدقة لوجه الله قائلا لي: صدكة، صدكة، ويحمل مصحفًا أوراقه تكاد تتطاير من شدّة قراءته للقرآن ويضع في عنقه سبحة حبّاتها مصنوعة من شجر الأبنوس يريد أن يخبرني بل يريد أن يوهمني بأنّه مسلم والواجب عليّ أنا كمسلم أن أمنحه بعض المال لوجه الله تعالى.

ـ قلت له: من أيّ بلد أنت ؟

ـ قال لي: أنا من المالي.

ـ قلت له: هل تعرف عبدالقادر المالي ؟

ـ قال لي: لا أعرفه.

ـ قلت له: هو زعيمنا كان يقيم عندكم في المالي أيّام الثّورة المباركة ثورة نوفمبر العظيم، نشكر مساندتكم لنا أيّام الثّورة.

ـ قال لي: أنا لا أعرفه، وأنا أيّام ثورتكم المباركة لم أكن قد ولدت بعد، هيّا امنحني بعض المال: صدكة، صدكة، صدكة لوجه الله.

ـ قلت له: عد إلى بلادك، أجئت لتزاحمنا حتّى في التّسوّل ؟ هيّا اذهب في حال سبيلك وإلاّ سأضطرّ إلى ضربك بحذائك هذا الذي ترتديه، وانتبهت فجأة فرأيت حذائي العتيق حذاء نابليون يرتديه هذا الأحمق الحقير، فقلت له: مكانك، أيّها القذر، أنت من سرق حذائي العتيق، إنّه حذاء نابليون وهو تحفة فنيّة كان عليك أن تحملها إلى بلادك هناك وتبيعها في المزاد العلني بثمن باهض، أغرب عن وجهي لقد تنازلت لك عن هذا الحذاء خذه إلى بلادك إنّه يليق بك وبأمثالك الذين تركوا بلادهم وجاءوا لكي يتسولوا في بلاد النّاس.

قفلت راجعًا إلى منزلي، وأنا أكاد أطير من الفرح لأنّني تخلّصت من ذلك الحذاء القذر، حذاء نابليون، أحسست كأنّني أحرزت نصرًا مظفّرًا على تركة فرنسا اللّعينة، لا نريد أحذيتكم القذرة في بلادنا، احملوها مع مؤخراتكم وأذهبوا بعيدًا عنّا، تبًّا لكم ولأحذيتكم القذرة.

من الآن فصاعدًا، سأصلّي في منزلي، وسأكثر من النّوافل وسأقوم اللّيل إلى أن ينفجر الفجر، وسأصوم الأيّام البيض وسأفعل كلّ سُبل الخير حتّى أدخل الجنّة الموعودة، كم هي متعبة هذه الجنّة، ولكن سلعة الله غالية، فهل من مشمّر ؟ حرمت نفسي في هذه الدّنيا من الخمر ومن النّساء، كم كنت أشتهي أن أشرب الخمر وأسكر حتّى أنسى همومي، أريد من الكأس ألاّ يفارق يدي، وكم كنت أشتهي النّساء وأنام بين أحضانهنّ في اللّيالي الحمراء الصّاخبة، ولكنّني أنا أريد الجنّة الموعودة وأريد الدّخول إليها يوم القيامة، وكم فرحت عندما علمت بأنّ جنّتنا الموعودة يوجد فيها نهر من الخمر هو ألذّ من خمر هذه الدّنيا، ويوجد فيها الحور العين وهنّ أجمل من نساء هذه الدّنيا، آه من الموت ومن لعنته الأبدية، لو أنّني الآن ميّت سألج هذه الجنّة وسأتلذّذ بالكؤوس المترعة بالخمر وسأستمتع بنهود وفروج حوريات الجنّة، آه كم أشتاق إلى هذه الجنّة.

تمت

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة