25 فبراير، 2025 11:13 ص

هل ينجح الإعلام والإعلان في غسل مخ الشعوب ؟ .. دراسات جديدة تُحاول الإجابة عن السؤال !

هل ينجح الإعلام والإعلان في غسل مخ الشعوب ؟ .. دراسات جديدة تُحاول الإجابة عن السؤال !

خاص : بقلم – إبراهيم فتحي :

لم يختلف أحد على أن وسائط الاتصال من تليفزيون وسينما وإذاعة وفيديو وصحافة حديثة ودور نشر وإنترنت هي تجليات لثورة تكنولوجية شديدة الأهمية. فهي تخلق من حيث الإمكان في رأي الجميع دون أن تخلق من حيث الواقع إلا في رأي قلة محدودة قفزة ضخمة في سيطرة الإنسان على العالم. فهل نجحت تلك الثورة في تحطيم الحواجز بين الثقافات، وفي نشر المعلومات والمعارف، وفي تعميق وعي الإنسانية المتحرر من ضيق الأفق الإقليمي. وفي إبراز ما يُسمى بالمشترك الإنساني بين القوميات متجسدًا في فن عالمي وثقافة عالمية ؟

إحتكار أميركي

وقد رد كثير من مفكري الدراسات الثقافية على المتفائلين أو المتوائمين؛ بأن ثورة الاتصال ليست ملكًا مشاعًا للجميع على مستوى العالم. فحفنة صغيرة من الشركات الغربية، وعلى رأسها الشركات الأميركية؛ تحتكر معظم وسائل الاتصال ومنتجاتها ووسائل تسويقها إلى حد أن أصبح لصناعة المرئيات والصوتيات في الكثير من البلاد المتقدمة وزن كبير بين سلع التصدير. وبطبيعة الحال فإن هدف هذه الشركات الحد الأقصى من الربح في المحل الأول؛ لا نشر الوعي النقدي المعمق بالواقع. بل هي على العكس من ذلك تحول الإعلام إلى مشروع تجاري ضخم يُنتج سلعًا استهلاكية ويعمل كما قيل على تكاثر قبيلة كوكبية من المستهلكين عبر الإعلان الجذاب عن حشد هائل من كل أنواع البضائع، وعن أساليب حياة مغرية وعن أدوار شخصية مصطنعة. وبدلاً من قيم ثقافية عالمية بحق خلقت الصناعة الإعلامية الإعلانية ذوقًا مشتركًا عابرًا للقوميات يتطلع إلى موديلات سيارات وملابس ومساكن وأدوات تجميل تنشر القيم اللازمة لنجاح التسويق في عالم وهمي حافل باللذات، حيث تبدو صور الإعلانات واقعية في إمبراطورية السلبية الحديثة، بل تبدو خلاصة عامة لمنطق النظام.

وقد قال النقاد إن الإعلان هو فولكلور العصر الحديث، لأنه يبث تخيلات أسطورية عن الذات وعن العالم وعن الأشياء في صور نمطية وانطباعات معممة؛ وهو يشترك مع الإعلام في بث أخلاقيات لذية عن الإشباع الخالص توهم المتلقى بأنه حر يعيش لنفسه ويُحقق ذاته، ويتقلص ذلك واقعيًا في أنه حر (أو عبد)؛ لكي يُجسد رغبات أثيرت داخله وأسقطت عليه بواسطة المعروضات من السلع، وأدعى النقاد أن المتلقي الذي لا يرونه إلا سلبيًا يقتنع بأنه لا يزيد عن مجموعـة من الدوافع والرغبات والأمنيات المباشرة التي لن يُحقق ذاته، إلا بإشباعها عن طريق الحصول على نقود لشرائها. فالسلع تصور له على إنهـا رموز المكانة أو الأناقة أو الفحولة؛ (أو الجاذبية الجنسية عند المرأة)، أو الشباب.

وفي العلم الاستعراضي؛ (أو الكابوسي الذي تصوره النظريات الثقافية النقدية)، تتخلل الصور ورسائلها كل شيء، الطعام والشراب والثياب والبيوت والأثاث والسيارات وتتكامل معًا في عملية نكوصية عن الهناء والأمان في تلك الأنواع من السلع والخـدمـات وقوالب الأفكار والاستجابات الجاهزة.

إطلاق الخيال

وعند النقاد يعتمد إقناع المتلقين في الصور البصرية والسمعية واللغوية للمسلسلات والأفلام والأغاني ونشرات الأخبار على إطلاق سراح قوى الخيال اللاشعورية تحت عتبة الوعي لا على القدرات العقلانية؛ فالصور والكليشيهات هالات من الإيحاءات الخفية تُحيط بالسلع والسياسات ورجال ونساء الفن والمجال العام والرياضة لتجعل من كل ذلك مكونات ضرورية لطريقة حياة سعيدة ناجحة في مجتمع متآلف ولبناء شخصية ذائية متحققة بعيدًا عن كل ما يحفل به الواقع من تناقضات وتعاسة.

وقد ذهب فلاسفة مشاهير إلى أن الإعلام الإعلاني أو صناعة الثقافة؛ (الترفيه وقماماته)، يخلق على نحو مصطنع الاحتياجات التي ينبغي تلبيتها، وهي في معظم الأحوال احتياجات زائفة، كما يخلق أذواقـًا ورغبات جديدة فهو يستهدف تحويل الواقع الإنساني والشخصية الإنسانية إلى ظاهر جميل ملون، إلى سطح يُخفي العمليات الحقيقية العميقة في الواقع واتجاه حركتها. ومن الممكن للصور السياسية في تعاقبها المطبوخ؛ (مثل الحرب على العراق وقيم الديمقراطية ونشرها في الشرق العربي وتصوير إسرائيل على أنها ضحية الإرهاب)، والإيهام بأنها الواقع الكلي إن تحول الحاضر إلى أكذوبة عن طريق حذف أشياء وتضخيم أشياء وإفتعال معنى زائف للاستمرار. وكل ذلك لابد أن يزور الواقع ويُعيد تعريفه لحساب قلة مُسيطرة، وتبدو تلك القلة مطلقة القدرة فعالة لما تُريد حقًا إنها تفرض بإنتاج الصور والكليشيهات الجاهزة على العيون رؤيتها جزئيًا على الأقل، كما تحشد لبعض الوقت العقول والقلوب بقوالب إدراك وانفعال تفكر للناس وتدفعهم إلى أنماط معينة من السلوك، بل يذهب مفكر ما بعد الحداثة الشهير؛ “جان بودريار”، إلى أنه لا مهرب من مجتمع الاستعراض؛ وأن الصور هي كل ما هناك، فلا أصل لها، فالفرد يتوهم عن طريق امتصاص الرسائل الخفية أنه يتخذ قراره بنفسه ويشعر أنه يُحقق ذاته عندما يُلبي الاحتياجات المفروضة عليه، فلا يوجد أساس للتفرقة بين احتياجات زائفة وحقيقية، أو بين الصور والواقع، فلا توجد احتياجات حقيقية للعمل المنتج أو المشاركة الإبداعية الفعالة أو الثراء الوجداني؛ فكلها عند “بودریار” رواسب مفاهيم يوتوبية ونزعة إنسانية عتيقة الطراز.

الاتجاه المعاكس

وفي مقابل ذلك الاتجاه في الدراسات الثقافية؛ بزغ اتجاه معاكس عند أساتذة من أمثال: “أمبرتو إكو” و”ستيورات هول” و”جون فيسك”؛ يفرقون بين الثقافة التي يجرى تصنيعها بالجملة لاستهلاك الجموع الغفيرة وبين كيفية تلقي تلك الجموع لها، والإنتقاء منها وتفسيرها واستعمالها وإساءة استعمالها وتقويض المعاني المفروضة عليها أو المقصودة بها، المتلقون يخلقون ثقافة شعبية تستفيد من المتاح والمعروض، فالاحتواء والإخضاع والإدماج من جانب القوى المُسيطرة جزئي فقط في الحقيقة؛ وهي ليست ناجحة على نحو مطلق، فالناس يتعلمون من خبراتهم الذاتية تناقضات الواقع الرسمي ونواحي، فشله وما يُسببه من آلام. ولا داعي لإغفال تعقيد وضعهم وإبداعيتهم في تعاملهم مع النظام السلعي وإيديولوجيته في حياتهم اليومية.

ويتكلم “أمبرتو إكو” عن حرب عصابات حول المعاني (سميوطيقية)؛ كمفتاح لفهم الثقافة الشعبية، وقدرتها على مقاومة الإيديولوجية السائدة؛ حقًا هناك إستراتيجية وخطة بعيدة المدى للأقوياء وهم ينشرون قواتهم الضخمة جيدة التنظيم، ولكن هناك أيضًا ـ في تعارض معها – تكتيكات متنوعة متحركة من جانب المحكومين تكتشف النقاط الضعيفة في الأقوياء. وتُغير عليهم كأنهم يشبهون مقاتلي حرب عصابات يُهاجمون الجيش النظامي الإعلامي المُغير.

هم لا يستطيعون تحدي الأقوياء في حرب مفتوحة، لأن معنى ذلك الهزيمة، ولكنهم يضعون معارضتهم من خلال – وبين أطواء ـ النظام في إبراز تضارب المصالح والمفاهيم. إنهـم ليسوا كتلة خانعة تتألف من تكدس من الذرات الفردية المنفصلة عن موقعها في الهيكل الاجتماعي، المعزولة غير الواعية بانتماءاتها الاجتماعية والثقافية المتنوعة، ومن ثم عاجزة مجردة من أي فاعلية، فالثقافة الشعبية أي طريقة فهم الجماهير وتفسيرها واستجاباتها وتحويراتها للمنتجات الإعلامية، هي تقدمية إمكانًا وفعلاً دون أن تكون راديكالية، وهي تجد في حيوية الشعب شاهدًا على إمكان التغيير وعلى الدافع لتحريكه؛ فمصالح الشعب ليست مصالح أصحاب السلطان الاقتصادي والسياسي والفكري. ومـا أكـثـر الأفـلام والشرائط والشعارات والسياسات والبرامج والجرائد التي أفلسها الإعراض الشعبي، فالثقافة الشعبية في جانب منها هي العملية النشيطة لتوليد المعاني والإشباعات، ولأنها فاعلة حيوية لن يمكن تطويرها إلا من داخلها فحسب، ولن يمكن فرضها من الخارج أو من أعلى.

حاجات الشعب

ولم تُثبت صحة مخاوف مفکري صناعة الثقافة في التطبيق، فإن ثقافة متجانسة يجري تصنيعها لبيعها جاهزة لن تهضمها “الكتل” الجماهيرية. فهي ليست أكوامًا من الأشخاص المغتربة أحادية البُعد زائفة الوعي بالكامل وليست علاقتها الوحيدة بالنظام؛ الذي يستعبدها، هي علاقة الأدوات الساذجة الغارقة في الغفلة. وكل ما تستطيعه صناعة الثقافة هو إنتاج رصيد أو مخزون من المواد أو الموارد الثقافية لكي يستعملها المتلقون باعتبارهم فاعلين نشطاء في كثير من الأحيان لا مجرد رعايا خاضعين، ولكن الولاءات الشعبية قد تكون مراوغة تناقضية صعبة التعميم، لأن صُناعها يوجدون في سياقات نوعية مختلفة وفي أوقات نوعية مختلفة، هي مسألة ممارسة لا مسألة بنية مستقرة.

كما تتم صناعة الثقافة الشعبية عند السطح البيني أو الفاصل، أي عند الحدود المشتركة، عند نقطة تفاعل منتجات صناعة الثقافة مع الحياة اليومية. هي فن تدبر الأمور بما هو مُتاح يقدمه النظام. إنهم ـ أي جمهور التليفزيون مثلاً – يُديرون ويحركون ويتداولون المعاني التي يتلقونها من البرامج في ثقافة الحياة اليومية التي تكمن في الاستعمال الإبداعي الذي يفرض التمايز للمواد التي يتلقونها، حقًا إن كل السلع الثقافية تحمل القوى التي تفرض المركزية والانضباط الآلي والهيمنة والتسليع، ولكن في مناهضة تلك القوى هناك الحاجات الثقافية للشعب التي تقاوم أحيانًا الجهود الانضباطية في صراع على معاني التجربة الاجتماعية والسياسية ومعاني الشخصية الإنسانية وعلاقتها بنصوص وسلع النظام الاجتماعي السائد.

إن الإعلان يُحاول أن يتحكم في المعاني الثقافية. وهناك الكثير جدًا من الإعلانات لأنها لا تستطيع أن تنجح نجاحًا حاسمًا في هدف احتواء التنوع الاجتماعي داخل حـاجـات الرأسمالية، أي في أن يتحكم لا في أي السلع يشتريها الجمهور فحسب، بل في الاستعمالات الثقافية التي يخضعها لها الجمهور أيضًا.

وتدل الإحصاءات في تقرير (كوليت)؛ لـ”هيئة الإذاعة المستقلة”، في “لندن”؛ أن الشيء النموذجي هو مغادرة اهتمام المتلقي للشاشة بمجرد ظهور الإعلان، ويُقلب الأطفال إيقاع وسجعة الإعلان إلى عبارات ساخرة. وتوجه إلى العائلة الأسترالية 1100 إعلان في كل يوم لا يتذكر منها أحد إلا ثلاثة أو أربعة. كما أن اختبارًا أجري على 300 سيدة بين العشرين والثلاثين عن ذكر اسم المنتج مع الشعار الإعلاني؛ فكان أعلى معدل 14% والمتوسط 6% ففاعلية الإعلان محل شك؛ وهو يتعرض للمقاومة والتعليقات الساخرة مثل النكت الموجهة إلى الكليشيهات السياسية وإدعاءات الحكام؛ فالقراءات التي نقرأها للنصوص الإعلامية هي ملكنا وحـدنا ننتقي من المسلسل ما نشاء وننسى الباقي، ويطلق الشباب التعليقات الفكاهية على المذيعين والمذيعات المرفوضين وعلى السياسيين؛ (مخ الرئيس بوش مصنوع من الجبنة السويسري)، ويقوم المتلقون بتكييف وتحرير وملاءمة ما يتعرضون له من إعلام يلتفون حوله متلاعبين به، في المحاكاة الساخرة للأغاني والشعارات والشخصيات، لمداورة ما يرفضونه وتحسس الثغرات المفتوحة للهجوم، في فن استخدام ما هو معروض.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة