25 فبراير، 2025 11:14 ص

سحر خاص في شعر “محمد ود عزوز”

سحر خاص في شعر “محمد ود عزوز”

 

كتب: صلاح محمد الحسن القويضي- السودان

ما الذي يجعل لقصيدة النثر عند محمد ود عزوز ذلك السحر الخاص الذي يجعل أناسًا مختلفي المشارب والاهتمامات والخلفيات الثقافية والأعمار ينجذبون إليها؟

ما الذي يجعل الصديقة سلمى سلومه، رغم تحفظها على بعض (مفردات) ود عزوز تتابع قصائده بذلك الاهتمام؟

ما الذي يجعل (سرادًا) قلما يحفل بالشعر كالصديق Osman Shinger، يهتم ذلك الاهتمام بنصوص ود عزوز؟

وما الذي يجعل شاعرًا صارم الالتزام بالقافية والوزن، مثل الصديق ياسر عبد القادر، يهتم ويعجب بنصوص ود عزوز المتحررة تمامًا من قيود القافية والوزن؟

ثم ما الذي يجعلني، أنا المهووس لحدٍ ما بصِحة اللغة، وبالنصوص بالغة القِصَر، أنجذب لنصوصه الطويلة المحتشدة بأخطاء (الكيبورد)؟

لا أريد أن أجيب بالنيابة عمن ذكرت. وأتمنى أن يعقبوا على قولي هذا فيما يخصهم.

أقرأ نص ود عزوز مرتين … مرةً لاستمتع به، ومرةً لأصحح أخطاء (الكيبورد) التي يحتشد بها.

وتلك القراءة الثانية بالتحديد هي التي تتيح لي أن أكتشف ما (أظنه) سحر النص عند محمد ود عزوز.

في الحقيقة أنني بحثت عن صيغة الجمع لكلمة (سحر) فلم أقع على (يقين) لها، فاكتفيت باستخدامها بصيغة المفرد. ذلك أن في نصوص محمد عزوز أكثر من سحرٍ واحد.

أول ما يشدني كمتلقيٍ لنص ود عزوز (وحدة الفكرة).

فكل نص من نصوص ود عزوز، رغم طولها، تتمحور حول فكرةٍ واحدة، تتمدد في النص من بدايته حتى النهاية.

ولعل تلك قد كانت من أهم مميزات القصيدة العمودية العربية الكلاسيكية، التي حافظت نصوص ود عزوز عليها، وهي تتمرد على الأوزان والقوافي.

والفكرة عند ود عزوز، في كل النصوص تقريبًا، فكرة بسيطة عادية. لكن شاعرنا (يزيحها) ويجردها من (بساطتها) و(عاديتها) من خلال الاستخدام المتقن لأدواته اللغوية والجمالية.

بساطة الفكرة وعاديتها تجعل كل متلقيٍ يُحس بأنها (فكرته) فيمضي في القراءة لاكتشاف (الفروق) والازاحات التي اضفاها الشاعر على الفكرة فجعلها بتلك الشعرية المدهشة.

أول الأدوات الجمالية لود عزوز ذلك (القاموس) المتفرد الغني الذي يجعلك تتعرف على نصه لأول نظرة، ولو بين ألف نص ونص.

وأداة ود عزوز الثانية هي (الهندسة النصية) أو نسق (تجاور المفردات) و(تحاورها). وهو في ذلك يلجأ لحيل ذكية (عفوية)، فمحمد ود عزوز يكتب الشعر(كما يتنفس).

لا أزعم أنني أعرفه معرفة لصيقة. لكني اعرف ان (النص) (يدهم) محمد عزوز، فلا يفيق من (سُكْرَة الكتابةِ) إلا أن يكتمل النص.

ومن هنا السحر الثاني في نصوص ود عزوز. فنصه الشعري يتميز (بعفوية) و(انسياب) و(تدفق)، ينعكس على متلقيه إحساسًا عفويًا منسابًا مع (تدفق) النص.

أزعم – واثقًا – أن ود عزوز يجيد كتابة الشعر الموزون المقفى. فقد قرأت وسمعت له قصائد بالعامية سليمة الوزن صحيحة القافية.

لذلك فإن تمرده (الواعي) على الوزن والتقفية يخلف في نصه (جرسًا) داخليًا، (يحسه) المتلقي ولا (يراه)، إلا في قراءة ثانية أو ثالثة.

النص الذي نشره اليوم – ككل نصوصه – فكرته من لحمة وسداة. اللحمة رفض (الواقع) المرير على المستوى الفردي والعام. والسداة أمل في (العودة).

لكن الأمر ليس بهذه البساطة. فود عزوز في هذا النص يأمل في (العودة) لشخص لم (يكنه) قط في يوم من الأيام. إنها عودة (لمستقبل) مامول عصيٍ على التحقق إلا في المجاز وبالتخييل، وذلك سحر آخر من (أسحار) محمد ود عزوز، يستمتع به في عزلته الصحراوية، ويفجره نصوصًا، تُمتِعُنا، وتغوينا، وتدهشنا، وتحلق بنا … ثم تقول دواخلنا.

وما الشعر إن لم يكن الإدهاش، والإمتاع، والتحليق، والغواية، والغوص في أغوار المتلقي ليقول عنه ما لا يستطيع أن يقوله.

أخيرا عثرت على جمع لكلمة (سحر).

النص..

محمد ود عزوز

(كيف أشرح لليل أنني لا أصلح لجلسات التعذيب

ولاقتناص الاعترافات،

أنا مُتآكل

وجُثتي بعثرتها الأرجل الراكضة في هتوف الهرب،

وامامي وابل من الأطفال

والبنات اللواتي خُتنت أثداءهن بالشفاه العسكرية،

والمارشات

تتنزه في صدري

وتُصيبني بالخوف،

 

القلب في فِراش الحبيبة، والعيون عالقة في الكوة السرية للباب،

كل هذه المسافات

ولا زلت استيقظ مفزوعاً على جُثتي،

كل هذه المسافة

ونشيج الموتى يبلل وسادتي بالوصايا الأخيرة،

أمام جوع الأريكة للجسد المُعين

ليدها التي تزور لي مُدنًا ، وقصائدَ ، وأنصاف مشاوير .

اتعبتني المراكب التي خلعت أحذيتها

وركضت نحو الغابات.

أتعبتني

المُدن غير السعيدة،

في مدى التنقل بين الحانات، أاتعبتني اللافتات التي اجدني فيها مشدوداً بحبال،

نحو سُرة أفلتها في الدموع الاخيرة للباب …

يا الله …

أريدك أن تعيدني كما كنت،

رجل لم يخض حرباً،

ولم يخسر يدًا في عراك ضد الجوع اللئيم،

وفي صفرة المقصلات النيئة،

أعد لي كل تلك الأيادي التي، خمشت أوطانًا من طاولات الغير، فحُكمت بالصلب،

المسامير الصدئة تُسمم الالتقاط،

الجالسون في المقهى المُسن، يتبادلون النكات حول البقال،

لا يأبهون بجسدي الذي يتساقط كمنزل طيني،

أمام تماسكهم الطويل،

يوجه الميتات المعلبة في شريط الأخبار …

هذه المُدن الجائعة للفوضى

وللأبطال الذين حملوا جنازاتهم،

وفرو من الصفحات الأولى للتاريخ،

للجواز الذي نشهره في وجه الأشياء،

كأننا موصومون بالسفر،

للنساء الصافيات كحُزن الواحدة ليلًا،

للنساء الحارات كساعي بريد لا يملك عائلة،

للنساء الحقيقيات كالموت على حب،

أريد أن أعود إلى الرصاصة …

كل هذا الحنين ولا زلت ارتجف،

كل هذه النار التي يضرمها الوقت،

ثأراً من أحذية أكلت جواربها، لتمحوا ذاكرة المشاوير القديمة …

اريد أن اعود،

لابتلع خزينة ثيابها ، وصوتها ، وأطفالنا الذين اطلقنا عليهم الاسماء،

ثم نسيناهم في الواقي الذكري،

اريد أن ازرعها في الصدر مُنتحراً بها ،

كما تغرز السماء أقدارها،

كما تغرز الأسئلة الحامضة الاستفهام عن القتلة،

كما تغرز الحقيبة المكدسة بالمحطات،

المناديل التي تنسى أذرعها وتلوح بالدمع …)

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة