الفريق الركن عبد الكريم قاسم؛(1914-1963), هو أسوأ من تولّى حكم العراق بين 1921- 2003, ولكنه بالمقارنة مع الحثالات التي جلبها الاحتلال الأمريكي بعد 2003, فالفارق كبير جدا. أنا لم أعشّ زمن قاسم, فقد جئت للدنيا في أواخر عهده, ولكني قرأت واطلعت على كثير مما نُشر عنه, وعن تاريخ العراق بشكل عام, من كتب ودراسات وبرامج, منذ عام 1980 ولحد الآن. وما أذكره الآن, هو حصيلة لتلك القراءات والمشاهدات, أو جزء منها.
أكبر خطاياه التي جلبت الويلات والنكبات على هذا البلد, هو انقلابه على حكم دستوري شرعي, وحنث باليمين, وفتحه باب الفوضى والذي لم ينغلق منذ ذلك الحين. الحكم الملكي فيه ما فيه, ولكنه أفضل من كل العهود الجمهورية التي تلته. و(الظلم)؛ الذي قيل إنهم جاءوا ليُزيلوه, زاد أضعافاً مضاعفة بعد 14 تموز 1958. وكلُّ من شارك في ذلك الانقلاب من العسكريين, حنث باليمين الذي أقسم به يوم تخرجه في الكلية العسكرية.
والحنث باليمين يودي بصاحبه الى التهلكة, وهو من الكبائر, ومصير الضباط الحانثين باليمين, دليل على ذلك. فقد تآمروا بعضهم على بعض, وتقاتلوا فيما بينهم على السلطة, وأوصلوا البلاد الى هذا الدرك. وأنا لا أشكّك في وطنيتهم, فهم اجتهدوا فأخطأوا, ولكنهم كالذي أراد أن يكحّل عينه, فأعماها !!.
هو ليس بذلك الشخص الاسطورة والداهية الذي لايتكرّر, كما حاول البعض تصويره لنا, بدوافع مختلفة, بعضها من باب النكاية والمناكفة لآخرين, ولا أريد الخوض فيها. معظم مريديه من الناس السذّج والبسطاء, والذين يحكمون على الظاهر والمظاهر, ولا يغوصون في العمق, فرفعوه فوق منزلة البشر, وتخيّلوا صورته على وجه القمر!!.
قيل فيه؛ إن العراق لم ينجب قائداً مثله !!!. وفي ذلك غمط كبير, لقادة تعاقبوا على حكم العراق؛ قديماً وحديثاً, وكانوا أفضل منه بكثير. وهو أول من أدخل (عبادة الفرد) من حكام العراق الحديث, فملأت صوره وتماثيله مدن العراق, وأُطلق اسمه على أحياء وشوارع ومدارس,…الخ, وتبارى الشعراء والكتّاب والمغنّون في تمجيده, كذباً وتزلفاً ورياءاً. والذين يعيبون على صدام حسين, هذه الأشياء, يتعامون عن حقيقة صارخة؛ إن قاسم قد سبقه إليها بأكثر من عشرين سنة, رغم فترة حكمه القصيرة, وإنجازاته الفقيرة, مقارنة بفترة حكم صدام حسين, وإنجازاته. والإعلام الشيوعي؛ نفخ فيه كثيراً, وأعطاه أكبر من حجمه, وقد أحصى الباحث؛ ليث الزبيدي في كتابه؛(ثورة 14 تموز 1958 في العراق)؛ 55 لقباً لقاسم, خلعها عليه ذلك الإعلام الكاذب!!.
أما خصومه؛ فقد قالوا فيه؛(ما لم يقله مالك في الخمر)!!, بسبب أجواء الصراع السياسي العنيف والدموي بين الأحزاب, والذي خيّم على فترة حكمه, وسعي كل طرف, لشيطنة الطرف المقابل, والرموز التي يمثلها. وكما إنه ليس بتلك المنزلة العالية, فهو أيضاً, ليس بهذه الدرجة من السوء.
مجزرتا؛الموصل وكركوك سنة 1959, واعدامه الطبقجلي ورفعت الحاج سرّي ورفاقهما, من جرائمه التي لا تغتفر. وهو (عرّاب المحاكم الخاصة), حيث أوجد ما يسمى بـ(المحكمة العسكرية العليا الخاصة), ووضع على رأسها ابن خالته؛عقيد الاحتياط فاضل عباس المهداوي, واشتهرت المحكمة باسمه؛(محكمة المهداوي), وكانت مهزلة بكل معنى الكلمة, وأقرب إلى التهريج, وتعتبر سبّة في تاريخ القضاء العراقي. كما إنه يُعدّ؛(الأب الروحي)للميليشيات. فهو مؤسّس؛(المقاومة الشعبية),التي عاثت في أرض العراق فساداً, في بداية عهده.
من أخطائه الكارثية الأخرى, إنشاء (ضاحية الثورة ), شرق بغداد لإسكان أهل الصرائف, بدلاً من إعادتهم الى المناطق التي نزحوا منها. فخرّبوا هوية بغداد الحضارية والمدنية. وفي زمنه, تراجع الانتاج الزراعي كثيراً, بسبب الهجرة الكثيفة من الريف للمدن. وصار العراق مستورداً للغذاء, بعد أن كان مُصدّراً له. وكذلك الحال بالنسبة للصناعة, بسبب تحوّله للتقنية الروسية المتخلِّفة, قياساً بمثيلاتها الغربية التي كان يعتمدها العراق, وحتى المشاريع التي افتتحت في عهده, فقد كان معظمها من انجازات؛(مجلس الأعمار) في العهد الملكي, والذي ألغاه قاسم.
حفل عهده القصير, بالتخبّط والفوضى والصراعات السياسية والحزبية, وشيوع لغة الانتقام والثأر, والشعارات الدمويّة الصارخة التي تثير الرعب, مثل؛(ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة),و(لا تكول ماعندي وكت..اعدمهم الليلة),و(اعدم..اعدم, جيش وشعب وياك),…ألخ. وحتى الشاعر الانتهازي المتلوّن؛(مهدي الجواهري),انضمَّ الى جوقة القتلة الرعاع, وهو يحثُّ (الزعيم الأوحد)!!, على المزيد من ازهاق الأرواح, بقصيدته التي أحد أبياتها؛(فضيّق الحبل واشدد من خناقهم *** فربما كان في ارخائه ضررُ)!!!.
عبد الكريم قاسم؛ له ما له, وعليه ما عليه.. لديه بعض الإنجازات, ولكن قياساً بإخفاقاته, ليس هناك وجه للمقارنة, ولو وضعنا إنجازاته وإخفاقاته, في كفتي ميزان, لكانت النتيجة في غير صالحه. ولا أقول ذلك عن تحامل, بل بموضوعية أزعمها لنفسي. وهو عسكري محترف, وشخص نزيه, عفيف اليد واللسان, ومخلص لبلده. ولكنه سياسي فاشل ولا يصلح للحكم, بسبب سوء إدارته, وفرديته, وتقلباته. وانتهى نهاية مأساوية, شبيهة بنهاية من سبقه, والتي هو كان المتسبّب فيها. فكما تدين تدان, والجزاء من جنس العمل. ومن جاء بالدم, ينتهي بالدم.