22 ديسمبر، 2024 2:26 م

الهروب إلى الأمام

الهروب إلى الأمام

ليست المرة الأولى وبالطبع لن تكون الأخيرة في مسلسل الصراعات العبثية التي لا معنى لها ولا طائل منها سوى الفرقعات الإعلامية وإثارة الجدل بشكلٍ رخيص وهي كما يبدو وصفةٌ ناجحة في دولنا العربية، وتعطي كل فئةٍ على اختلاف انتمائاتها شعوراً بالزهو و(الإنتصار) حسب وجهة نظرها من خلال احتدام النقاش حول ظاهرة ٍ بعينها أو قضية رأي ٍ عام أو عملٍ فني (أو مايقدم على أنه كذلك)، فيدلي كلٌ بدلوه وهذا حقه لكنه من حيث لا يدري يساهم في الترويج للتفاهات ولتلك الظواهر فقط اشباعاً لرغبته في مواكبة كل جديد والاشتراك في (حديث الساعة) كي لا يفوته شيء، وكأنه يعيش نوعاً من التغييب أو البرمجة أو (الهروب إلى الأمام)..

فمؤخراً وكما جرت العادة يخرج عملٌ ما من وقتٍ لآخر كلما ركدت الأجواء تحت مسمى ً فني ويحدث (جدلاً واسعاً) وقدراً من البلبلة المفتعلة التي تصاحبه بشكل ٍ طبيعي لأنه من الأساس عملٌ مفتعل، ويصاحبه (توضيح محضر له سلفاً) بعد فترة قصيرة من الصمت للإستفادة من الضجة كشكلٍ من أشكال التسويق والدعاية، وترك الفئات المختلفة في حالة من الإستنفار بين من يعتبر هذا العمل نوعاً من (الحرية والجرأة والتطور) مع كيل المديح لصناعه و(شجاعتهم الأدبية) في (كسر المحظورات) و(كشف المستور) والتي تستحق الإشادة والإحتفاء والدعم، وبين فئات محافظة تهاجم هذه الأعمال لأنها (خطر على قيم المجتمع) ويجب أن تمنع من العرض والتداول، مما يزيد في تناقل اسمها وتحقيق المزيد من الشهرة لها وهو هدف أصحابه وما أفعل الآن عكسه بتجاهل ذكر هذه الظواهر بالإسم، والتي يتضح أنها افرازٌ طبيعي لحالة الفشل الحالية على أكثر من مستوى وفي العديد من المجالات، وتعكس شكلاً من أشكال الخواء والسطحية والعجز واليأس في طريقة تفكير باتت تحكم مجتمعاتنا..

لكن إذا توقفنا للحظة وتسائلنا عن هذه الأعمال وعن مضمونها ومحتواها سنجد أنها تذاع على منصات بإشتراك مدفوع ولا تقدم سوى هذا النوع من الأفكار في محتواها الذي تستميت في الترويج له، وتلقى رواجاً كبيراً في مجتمعاتنا ويعتبرها البعض بمثابة حلم أو اعتراف بالوصول إلى (العالمية)، مع أنه يوجد نسخة مشابهة ومعدة من نفس المنصة لكل مجموعة بلدان حول العالم وليس فقط منطقتنا، والتي يوجد بها محتوىً خاص تقدمه عبر شبكتها لمشاهديها في دولة الإحتلال الصهيوني بشكل ٍ منفرد فيما لا نزال نعيش في وهم أن العالم الغربي ينتظر (أعمالنا) بشوق، وهي التي بات أغلبها (دون تعميم) خاصةً في السنوات العشر الأخيرة عبارة عن استنساخ كامل لأعمال غربية وتخلو من أي ابداع أو ابتكار ولا شيء يدعوا فيها إلى الإنبهار، ولم يشرح المبهورون (بالعمق) في هذه الأعمال مالذي قد يجعلها مميزة ونحن نرى قصصاً منقولة بشكل ٍ كامل وغير احترافي من الأعمال الأصلية في الغرب، بنفس الإضاءة والديكورات والإيقاع وحركة الكاميرا والزوايا وطريقة الأداء وبنفس الحوار، ودون أدنى جهد في القيام بمعالجة تقدم الفكرة (إن وجدت) بطريقة تشبه واقعنا المتشابك، فمالذي يجعله (مميزاً) أو (عالمياً) وهو عمل منقول بالكامل حتى وصولاً إلى الملصقات الدعائية الخاصة به، ومالذي يجعله مختلفاً عن أفلام مشابهة في كوريا الجنوبية أو الكاميرون أو جورجيا والتي يتم تمويل أعمال مشابهة لها في مختلف الدول ولا يتعاطى معها أحد كما تتعاطى مجتمعاتنا التي تعتقد أن المحافل الدولية بإنتظار نسختنا الخاصة، فيتم المبالغة في تغطيتها إعلامياً مع الكثير من المعلومات الخاطئة وهي في أحسن الأحوال مجرد رقم في سلسلة أعمال عابرة ومتشابهة تحاكي الغرب الذي يقوم بتمويلها وتعرض من مختلف أنحاء العالم، بينما يتم إيهام المشاهد العربي أن هذه الأعمال وصلت إلى الغرب وهذا غير صحيح، بل وصلت إلى فئات محدودة جداً أو إلى فروعها التي تحمل اسمها ومخصصة للمشاهدة فقط ضمن منطقتنا..

حيث لا يدري الأمريكيون والأوربيون ب(إنجازاتنا وفتوحاتنا وكسرنا الهزلي للمحظورات)، والذي أستغرب إطلاق هذه المواصفات على عمل بعينه فيما أصبحت مختلف الإنتاجات الفنية في معظم الدول العربية لا تقدم سوى الموضوعات المتصلة بالجنس والخيانة وتفرعاتها وبشكل مكرر ومستهلك وصل إلى حد الملل والذي لم يعد يثير فضول أحد، فيما لا يزال هناك من يرى أنها (شجاعة) في تناول وطرح القضايا (الواقعية) والتي يجب أن تمر عبر ثالوث الجنس والدين والسياسة والتي يتم فيها استثناء العنصر السياسي من مفهوم الجرأة كما عودنا (الجريئون والجريئات) والذين نرى أصواتهم تغيب إلى جانب (المحافظين والمتدينين) في أي قضية وطنية هامة أو استحقاق ليحدثونا عن أمور سخيفة، وما الأحداث التي تشهدها بلادنا جميعاً ولا يلقي لها (كاسروا المحظورات) بالاً أو حتى يتحدثون عنها بشكل ٍ عابر إلا دليل على ما أقول..

فالحرية والتطور أو مفهوم الأخلاق لا يمر بفلسطين أو مخيمات اللاجئين السوريين الذين يتجمدون من البرد ولا يمر بالسودان أو أي شأن انساني بما أننا (غزيروا العواطف)، وستمر هذه الأعمال ليأتي غيرها بعد مدة وجيزة ولن يذكر أحد هذه (المحظورات أو الصراعات أو التنوير) بل ولن يذكر أحد هذا العمل أو ذاك بعد عام واحد، فيما لا تزال أعمال مستنا جميعاً حاضرة بيننا رغم مرور أكثر من نصف قرن على صدورها لسببٍ بسيط هو أنها أعمال حقيقية تشبه حياتنا ويشبه أبطالها شعوبنا وليست مصطنعة أو مصنعة رغبةً في لفت الأنظار والوصول إلى الغرب وهو مالن يحدث، خاصةً أنه من يضع القواعد ولن يلتفت إلى مجرد نسخ مشوهة وخاوية لم تفلح في أن تصنع لنفسها هويةً خاصة تشبه شعبها، ولم تفلح أيضاً في أن تكون صورةً عن الغرب كما أرادت، وستظل مجتمعاتنا شكلية تعيش في الأوهام ولكلٍ وهمه الذي يؤمن به ولن يحل له أزماته، وسنظل نشكو من حالنا وسنظل نمارس الهروب إلى الأمام كما اعتدنا على الهروب دائما ً..