عشت وسط الثلوج وفوق القمم الجبلية وعلى سفحها لخمس سنين متتالية وأعلم يقينا ما يعنيه البرد القارس بوجود الثلج الموحش برغم بياضه وانخفاض درجات الحرارة مادون الصفر بكثير وذلك بغياب كل وسائل الراحة والتدفئة والنقل”القديمة منها والحديثة” ذاك أن العيش في منطقة باردة ومثلجة بوجود الطعام والشراب الساخن والسكن الآمن المريح والمكيف، مع سخان الماء ، والانارة ، والنفط والغاز والمرافق الصحية النظيفة ، اضافة الى توفر الغطاء والفراش الجاف الدافئ والملابس الدافئة غير الرطبة شيء ، وبين أن تعيش في خيمة أو في خندق أو مغارة أو كوخ او كهف بغياب كل الوسائل الانسانية الانفة شيء آخر تماما ..في الاجواء الثانية والنائية انت لن تلهو بكرات الثلج وتقضي وقتا ممتعا كما في افلام رأس السنة وليس لديك متسع من الوقت لمثل هذا الترف ، هناك لن تسعد باللعب مع الرجل الثلجي المؤنس ..هناك الثلح الموحش هو من سيلعب بك تماما وقد يقضي عليك او يقطع اطرافك في حال اصابتك بـ لسعة برد حادة !
لقد كنا نصحوا أياما لنجد أن البغال – البغل حيوان هجين ثمرة تزاوج فرس مع ذكر حمار- قد ماتت من شدة البرد ليلا، وكان يتوجب علينا ارسال ارقامها الى الخلفيات – لكل بغل جبلي عسكري رقم خاص كرقم السيارة مكتوب أعلى لثته – ، كانت العاصفة الثلجية الهوجاء حين تدهمنا فجأة ومن دون سابق انذار تقطع علينا كل السبل ولأيام عدة من دون طعام ولا شراب ولا وقود ولا اتصال حتى ، من يمرض منا او يصاب بالزحار فعليه ان يصبر ويتصابر مع ترديد الشهادتين بإستمرار حيث لاطبيب يداوي ولا دواء …كل شيء كان رطبا ويقطر ماءا بما فيها الاغطية والفرش والسقف والجدران والملابس وكأننا نعيش داخل مجمدة ، كنت كرجال الاسكيمو ألبس – نصف كنتور – من الملابس الجوخ الشتوية الثقيلة مع تغطية كامل الرأس والوجه والكفين وما ازال اشعر بالبرد ، ولا ادري كيف كنت اتحرك أو اتنفس يومئذ ، حتى – تراب التيمم -كان رطبا في حال انعدام الماء ، لأن الثلج وبغياب الخشب اللازم لإشعال النيران لن يتحول الى ماء لغرض الغسل أو الوضوء ..ولو سخنت ماء الثلج لغرض الطبخ أو الشرب فتسجد فيه من الشوائب ما يجعلك تنفر منه …!
ذات يوم وبعد ان اجهد شح الماء النظيف كل من كان بمعيتي فقد تطوعت للذهاب منفردا الى مسافة طويلة من قمة الجبل تجاه الوادي لجلب المياه وسط عاصفة ثلجية لاتكاد تتوقف منذ ثلاثة ايام طاوعني خلالها – الكديش وهو ابن انثى الحمير وفحل الخيول – والذي كان يسير امامي بكل ادب ووقار طيلة فترة الذهاب ولم اكن أعلم ماكان يضمره لي في قرارة نفسه بعد ان ضربه في اليوم السابق وبقسوة احد – الادميين الكدش من فاقدي الضمير – ، كنا نشق الطريق المغطى بالثلوج سوية وبصعوبة بالغة وكانت اقدامنا تغوص في الثلج مع كل خطوة الى عمق يعيق حركتنا ويشلها تماما ، ساعتها حاولت تقليد بعض الافلام السينمائية – الثلجية – التي اعشقها وتقمصت شخصية – بطل الفيلم – وصرت اسأل نفسي لماذا تدريبنا كله كان صحراويا من الفه الى يائه حيث الشمس اللاهبة ، والجفاف ، والعطش ، والحر الشديد ، والمسيرات الطويلة الراجلة وسط الاشواك والعاقول والكثبان الرملية ، في حين أن خدمتنا جلها كانت ثلجية جبلية لم نر فيها اثرا للرمال ولا للشمس طويلا ، ولعل هذه واحدة من عيوب المدارس والمناهج العسكرية التي تدرب عناصرها على – نصف مناخ، وربع طبوغرافيا ، وثلث جغرافيا – ويفوتها تدريب طواقمها على كل الاجواء والمناخات وجميع الطبوغرافيات والجغرافيات تحسبا لكل الاحتمالات ..وما ان وصلنا الى النهر شبه المنجمد عند الوادي وبينما كنت اسحب – الكديش – بحبل متدل من رقبته واذا به يجرني بقوة ويسقطني في المياه المتجمدة وسط العاصفة الثلجية وامامي طريق اياب لايقل عن ساعتين مشيا على الاقدام وسط الثلوج بملابس مبللة بالكامل ، فقلت في نفسي – خلاص – انتهى كل شيء وهذا هو آخر يوم لي حيا على سطح هذا الكوكب الذي يعج بالدخان ..دخان الحروب العبثية البشرية المصطنعة ، دخان المصانع ، دخان المركبات ..دخان السجائر ….شكرا للكديش الحيواني الذي وسط المياه المتجمدة وعلى حين غرة انتقاما من الذي ظلمه بالامس ..رماني ..شكرا لكل نظير بشري له تركني بمعية اصحابي ومن دون طعام ولا شراب ولا دواء ولا اتصال هاهنا نسيهم ونساني ، القاهم لمصيرهم وألقاني …!
الذكر والتسبيح والدعاء كان – السخان – الرباني الطبيعي الوحيد الذي منحني من الدفء والعزيمة والثقة بالنفس وقتها مالم اشعر به من قبل في مكان كل ما فيه منجمد ومتجلد وتحت الصفر بما في ذلك العقل والضمير الانساني !
كدت أن افقد من شدة الانجماد اصابعي السفلية ..وقد اصبت لفترة ما بالعمى الليلي من شدة بياض الثلج الذي يعكس اشعة الشمس حين تشرق كمرأة عاكسة في عينيك ولفترة طويلة …وقد خرجت في عاصفة ثلجية لاحقة ليلا انا وصديقي الحبيب البصراوي – كم أحب أهل البصرة – فضعنا وسط العاصفة ولم نعثر على – خندقنا – في تلكم الليلة بعد أن غطى الثلج كل شيء حتى الشجيرات التي كنا نستدل بها على مكاننا فأوينا من شدة التعب وبعد طول بحث وعناء غير مجد الى مغارة لاندري ما بداخلها لأننا وببساطة لم نر شيئا بداخلها من شدة الظلام .وعلى خلفية إصابتنا بالعشو الليلي .وفي فجر اليوم التالي حاولنا ان نلبس – بساطيلنا – فلم نتمكن لأنها كانت متجمدة بالكامل ولاتقبل الطي ولا اللبس فسرنا وسط الثلج ونحن نلبس نصف بسطال لأن نصفه الباقي خارج نطاق التغطية …
في عاصفة أخرى نمت 10 أيام في نصف مغارة لا ادري ان كانت جحرا سابقا لذئب رمادي او غيره من الحيوانات المفترسة …وسادتي كانت عبارة عن صخرة صماء ..كنت انتظر بديلي حسن المفقود منذ هبوب العاصفة الثلجية ولاادري ما مصيره ..وحين صحوت في اليوم العاشر والاخير في هذا المكان حاولت ان اصلي في مكان جاف فلم اجد فصليت على الثلج مباشرة واذا بي اسمع من بعيد …يا الله …يا الله …لاحول ولاقوة الا بالله ..واذا بجثمان جندي عراقي مسجى فوق بطانية معفنة يسحبها ثلة من رفاقه المرهقين والجائعين سحلا فوق الثلج من شدة التعب والاجهاد ، لقد قضى نحبه المسكين من – شدة البرد – وحيدا غريبا في الليلة الماضية وقد كان مريضا قبلها لعدة ايام ومن دون علاج ولا دواء ..حملوه على ظهر احد البغال وهي ليست بأفضل حال منا نحن البشر، ليمضي به البغل بغيدا الى حيث ستصيح النوائح على فقده ألما وتبكيه البواكي حزنا ولاعزاء ، قبل ان يوارى جثمانه الثرى ويكتب على شاهد قبره – هنا يرقد العراقي المظلوم جبر ، من بطن امه الى الحروب العبثية التي لاتنتهي في الارض النفطية – اللفطية – الى القبر – ..هناك في أية مدينة عراقية أو ناحية أو قضاء كلها تتشح بالسواد حيث حرب تنكح اخرى ..وضياع يتناسل من هباء !
اليوم وكلما وقع بصري على صور مدرسة ” منة المنان ” في ذي قار حيث التلاميذ يدرسون في العراء وفي عز الشتاء بمدرسة كرفانية ، كذلك صورالنازحين والمشردين واللاجئين المساكين ممن يلتحفون الارض ويفترشون السماء حيث لاماء ولا غذاء ولانفط ولا دواء في الفيافي المقفرة الموحشة وسط الثلوج التي لاترحم ..استدعيت الى الذاكرة الحبلى كما هائلا من المقاطع والصور الذهنية المستنسخة وكل ما فيها اسود فاحم برغم بياض الثلوج التي تغطيها …لم يتغير شيء ..فقر ..حرب ..بؤس ، دموع ، جوع ..وجع ، عويل وبكاء ودماء ، وشعب يائس ينتظر نحبه وهو يصفق ويمزح ويرقص طربا كالطير المذبوح من شدة الالم بين جهل جهول ، وحقد حقود وحسد حسود ، وعواصف تترا من دخان أو ثلوج أو غبار !!
حقا وصدقا انه وعلى قول المصريين ” يضع سره في أضعف خلقه اذ ان خلاصة تجربة ابو فلة هي،إن”الميدان والقدوة في العمل الخيري والانساني خير من التنظير المكتبي المكيف واللغوة “.
وأقول ليوتيوبرية العراق والوطن العربي والعالم الاسلامي فضلا عن منظريهم ومتحزبيهم ومتحجريهم وجامديهم ومائعيهم وطائفييهم ومتشدديهم ، جملة ومفرد ،جمع وكسر، تعلموا من ابي فلة الذي وبرغم صغر سنه وافتقاره لأبسط مقومات الوسامة والثقافة والكاريزما ولايجيد أية نظرية من نظريات المنظرين ، ولا يحفظ ولو بالحد الادنى أيا من أدبيات الاحزاب ولا سطرا واحدا من ايدولوجياتها ، ولم يحضر يوما اجتماعا من اجتماعاتها، ولا مؤتمرا من مؤتمراتها ، ولا ندوة من ندواتها ، ولامهرجانا من مهرجاناتها ، ولا وليمة من ولائمها ، ولم يقرأ كراسا واحدا من كراساتها ، ولم يشارك يوما في انتخاب أمين عام لحزب أو جماعة أو تيار – لاصق بكرسي الحزب وامانته العامة ولايسمح لأي مخلوق كان بزحزحته من منصبه ومنذ عقود ليفوز في كل انتخابات حزبية بنسبة 99% في ذات الوقت الذي يطالب فيه بالتبادل السلمي للسلطة والكف عن ظاهرة التصاق الحكام بالكراسي وازاحة المنافسين واقصاؤهم والفوز بنتيجة 99% !!- ولن يفعل ،ولم ينظم في حق سياسي قصائد مديح لايستحقها بتاتا ، الا أنه نجح برغم ذلك نجاحا باهرا تفوق فيه على كل الاحزاب والجماعات والاتحادات والنقابات والمنظمات والتحالفات والتيارات برمتها ، بجمع 11 مليون دولار خلال 11 يوما فقط لاغير بدءا من 8 كانون الثاني وحتى 19 كانون الثاني لمساعدة 100 الف أسرة لاجئة من برد الشتاء القارس …!
راح دكلي اشو تحجي على اليوتيوبرية، ليش مو على السياسيين ؟ راح اكلك ، سؤالك جدا جميل وشاعري ، وجوابه ” لأن السياسيين غاسل ايدي منهم للكراعين !” …ها اشو خنطلت ..لازم سياسي جنابك ومسوي نفسك مواطن عادي …؟!
انها رسالة ربانية صريحة وواضحة تخبرك ، بأن ” الله تعالى يضع سره في أضعف خلقه اذ لاشيء في ابي فلة هذا لا مظهرا ولا وسامة ولا ثقافة ولا شجاعة ولا براعة ولا حسبا ولانسبا يمكن ان يعزى اليه سر نجاحه في جمع التبرعات لإنقاذ 100 الف مشرد ولاجئء ماخلا التوفيق الالهي تحت شعار ” لنجعل شتاءهم أدفأ ” .
ولمن لايعرف من يكون ابو فلة هذا احيلك الى سيرته ” هو حسن سليمان المعروف بـ«أبو فلة» وهو يوتيوبر كويتي، من مواليد 1998 يبلغ من العمر 23 سنة، عدد المشتركين في قناته يربو حاليا على 20.6 مليون مشترك .. بنى مسجدا في أفريقيا من خلال جمع التبرعات احتفاءًا بوصوله الى مليون متابع، اعقبتها حملة بعنوان ” بئر أبو فلة ومتابعيه”لسقيا الماء في المناطق التي يشح فيها ، فضلا عن حملة ” دفي قلوبهم” جمع خلالها مليون دولار لمساعدة 5 الاف عائلة سورية نازحة ..سبقتها حملة لكفالة الأيتام، وبناء 57 بيتاً للاجئين، إضافة الى إجراء عمليات جراحية لـ 1000مصاب بماء العين ، لتأتي حملته الاخيرة فجمع من خلالها 11مليون دولار لمساعدة اللاجئين ..ابو فلة لم ينسب نفسه لتيار او حزب او جماعة ، لم يقل انا قوميتي كذا ، أنا عشيرتي كذا ، أنا طائفتي كذا ، لم يقل انا من جماعة علان ولا من ربع فلان ، وهذا واحد من أسرار نجاحه الساحق الماحق ..فلو أنه انتسب الى اي مما ذكرت لشنت عليه حملات تسقيط وحملات وحملات لإفشاله في مهده …!أودعناكم أغاتي