25 نوفمبر، 2024 11:30 م
Search
Close this search box.

وجوه ساخرة…

وجوه ساخرة…

مهرج حتى في حياته اليومية فهو لم يعتد ان يكون حزينا الا حين يسكن الى وحدته القاتمة المظلمة، لقد مال على تبديد حزنه وانتقاداته للمجتمع من خلال عرضه الذي يؤديه على المسرح، هذه حياته مذ كان يافعا، مهمته اضحاك الناس حتى ولو كان حزينا، كان قد قدم عرضه في أحد الايام بالذات يوم وفاة والده، فأخذ برسم وجها باسما على وجهه بالألوان، لكن قلبه يبكي والده الذي تعلم الصنعة على يديه، لم يرتدي سوى تلك الفيونكة السوداء دلالة على حزنه، كثيرا ما اضحك الناس وأنتقد المسؤولين على تقاعسهم، على الإهمال في واجباتهم نحو المجتمع والمدينة والبلد، أو كما يسميه هو بلد الشيش بيش … فأغلب الاحيان يوبخ من قبل المخرج او صاحب الادارة لخروجه عن النص، كان العرض جميلا وساخرا، بل ممتعا نظرا لما يؤديه والممثلين كُلٍ في دوره الشخصيات مترابطة ومتفاعلة مع الحدث، فتراهم لا يفارقون سطح المسرح الا لتغيير الملابس …أما شخصية المهرج فهي من أهم ركائز العرض المسرحي، فكل ما هو ساخر وبه انتقاد كانت الشخصيات تقول هو المهرج الذي قال ذلك وليس نحن ….
 وفي يوم من الايام حدثت كارثة في ذلك البلد…انقلاب على السلطة الحاكمة، تبددت كوابيس الكثير من الناس، والبعض تلبستهم الكوابيس لأنهم من اصحاب المصالح المشتركة، هللت الناس، فرحت لقد جاءت الحرية والقيد انكسر، فلا حاجة للمهرج بعد الان، لقد سمح للفنان والصحفي  بالانتقاد علنا بحكم حرية الاعلام والتمثيل، وهم يمثلون ركائز استبيان للحالات السلبية في الواقع الجديد، كما تسمى الصحافة السلطة الرابعة فالتمثيل هو من الاساسيات في حق النقد البناء والسخرية من الواقع دون الخدش  والتجريح، أستمر العرض المسرحي بعد أن تغير شكل المهرج، فهو الان بلا قناع، انما يرمز لشخصيته من خلال الملابس التي يرتديها واضافوا على النص بعض التغيرات، جاءت الحرية في التعبير عن معاناة الناس وما سيتغير….. مرت الشهور بعدها السنة الاولى والثانية… التغير بدا ملموسا للبعض، وللبعض الاخر كان بل واصبح وهما، فكل الاحلام تحطمت على اعتاب الوضع الجديد، ارتحل من أرتحل، واغتيل من اغتيل، سواء  كان سياسيا او استاذا او دكتورا او.. او… او  رحلت كل العقول، بدت الساحة خالية الا من رموز كانت مخبأة في صفحات الزمن الغابر البعيد، وبدأت مرحلة جديدة، مرحلة الاستيطان، لكأنك ليس في بلدك، بل انت الغريب والدخلاء هم اسياد البلد ومن تبعهم، وممن باع ليقبض الثمن بمعاناة الناس وجراحاتهم، جَسَّد ما يراه في حياته على ذلك المسرح ولكن …. المهرج حزين لم يقتنع بما يصنع .. لم يؤدي ما يشعر به فقد تضاربت عنده المشاعر والاحاسيس، في نفسه وجع .. يقول له … على من أضحك؟ على نفسي أم على ابناء بلدي وأصدقائي، تراهم كلهم بلا استثناء غير سعيدين بما يقدمون، لقد كثرت حالات الانتقاد وأصبح التمثيل مهنة اصعب من مهنة السياسي او الوزير، فالوزير لديه من يدافع عنه ويحميه ولكن هذا المسكين والذي يكسب قوته من معاناته والاخرين معرض للقتل، او الاغتيال في اي لحظة ومن يتذكره؟؟ هل يخسره اهله ام الدولة او المجتمع؟ لا … لا يخسر سوى نفسه طوى نفسه في ظلمة سوداء واسدل كل هموم الاوجاع على جفنيه حتى هملت دمعا أسود لا أمل فيه. هكذا ظل لعدة أيام.. بل أسابيع لم يكترث لنفسه ولا حتى لطعامه، يكفيه ما يأخذه من اكل لسد حاجة اسمها عصرة جوع، ادمن التدخين حتى قُلِبت أحواله وتغيرت كل تلك الابتسامات الساخرة الموجعة على كل ما يراه، فقد الابتسامة التي كانت قد فارقته الا من خلال وجه المهرج، لكنه الآن خلع ذلك القناع .. ظن ان الحياة الجديدة لن يحتاج ان يرتدي قناعا حتي يؤدي دوره في الحياة او على المسرح … فتح نافذة غرفته… تطلع الى السماء نعم هناك نجوم وهناك قمر، ونظر الى الشوارع والى منطقته وقال: ولكن ليس هناك بشر، انها كوابيس الليل واشباح الخراب، ترتمي على اطلال باتت منسيه من أهلها، اين من جاء وغير وقلب الموازين واطلق الحرية على بلد مزقت الحرية القديمة كل اوردته ورمته بقايا انسان في غياهب المعتقلات والسجون؟ تذكر والده حين كان معه على المسرح منتقدا السلطة … كان ذلك الانتقاد الأخير بالنسبة لوالده وبالنسبة له، لم يره بعد تلك الليلة، فرض عليهم ان يقدموا العرض بدون ان يتوقفوا لحداد او حتى عزاء، سلخت تلك الذكرى كل الصور الممتلئة اشمئزازا من الحياة، ألتحف دخان سجائره، طوى نفسه على تلك الوسادة عازما على أمر، جاء الصباح مثل كل يوم فإذا به ينهض من مكانه، لبس لبس المسرح وضع الألوان على وجهه مرتديا قناع المهرج وذلك الذقن الطويل، وما أن خرج حتى أخذت الناس بالضحك على منظره، فقد اعتاد من كان يرتاد المسرح من جيرانه يعرفه حين يراه بذلك الزي، اما الاخرين ربما قد شاهدوا  مثل شخصيته في التلفاز حين تواجد التيار الكهربائي، سار في الطريق واخذ ينادي ثم ينتقد ويقول: اني سأحقق لكم كل مطالبيكم، أننا كسلطة نشعر بمعاناتكم، لقد خضنا مرحلة النضال ضد الدكتاتورية المقيتة وسيتغير كل شيء الان، سنقوم بإعطاء المواطن حق الاختيار، حق الانتخاب، حق التصويت ونصيبا كاملا من ثروات البلد، ان بلدنا غني ويجب على الجميع حمايته وصون كرامته من المخربين… وفجأة تغير اسلوب حديثة وانقلب يقول: لا يمكن ان يتحقق شيء في ظل المحتل، ان الاحتلال جاء ليسرق، لينهب، ليدمر، ليزرع الفتنة بين الاهل والاقارب وبين الطوائف، لا.. لابد من المقاومة … ماذا تقول .. رد على نفسه اي مقاومة؟! انها إرهاب، انك تقتل من هو أبن بلدك وابن عمك لا .. لا .. يجب ان تتوقف كل اعمال العنف .. كانت الناس في بادئ الامر تقترب منه وتضحك، ومنهم من يعلق, ومنهم من طلب منه ان يعيد ما قاله, والكثير أخذوا بالابتعاد عنه …. فبعضهم قال.. الله يستر، ربما هذا مدسوس وغيره قال: مجنون والذي يعرفه قال .. لا أنه فلان، الفنان الممثل المسرحي، لابد أنه جَن، وغيره يكذبه قائلا.. ان شكله غير ذاك الممثل فهذا على هيئة قذرة وذو ذقن طويل، لا يمكن ان يكون هو .. لم يعر الاهتمام لأحد، ظل سائرا ويعلق على سلبيات السلطة، ردد شعار نعم يجب محاكمة السراق والقضاء على الفساد الاداري، يجب حماية المواطن وحماية مصالحه وتقديم الخدمات، لكن الارهاب هو الذي قيد ايدينا فلم نستطع العمل في ظل هذه الظروف، فنحن نقاتل على جميع الجهات من الداخل ومن الخارج، الكل ضدنا … ونحن جئنا لنغير ولكن … صاح بعد ان ضحك باستهزاء.. لفت نظر الناس اليه يا أخوان لم يتغير شيء، أي شيء إلا هم، لقد اتخمت بطونهم وارصدتهم في الخارج، أما عوائلهم فمساكين يعانون مثلي ومثلك مؤشرا الى الكل ليس لديهم كهرباء، ينتظر اولادهم التعيين ببلاش وبلا ورق أخضر، لانهم لا يملكونه، لا يعرفون شكله، انه أمريكي جاء به المحتل ثم  صاح
بعد ان ألتف بشكل جذب النظر اليه… ولكن لا يهم، البركة بأحزابنا الاسلامية واللي صارت اكثر من أشكال الخضروات .. ها ..ها.. أما الأمن فقد توفر، الكل يمكنه الخروج بحرية والسفر دون حدود من الشمال الى الجنوب، الجيش والشرطة حماة العراق  وليس كلهم موالون للإرهاب، ليس كلهم موالون للأحزاب، وليس كلهم فاسدين، هناك شرفاء، هناك من يحبون البلد … والبلد ليس بلد شيش بيش بل بلد (كلشي وكلاشي ) الذي يدفع فيه أمره ماشي … لم ينتبه الى نفسه بعد أن توسط ميدان السيارات متوجها دون شعور الى حيث لا يدري، كما لا زال الناس بعضهم متجمهر، والبعض الاخر خائف، فهم لم يعتادوا مثل هذا المنظر في الشارع  .. كثر استهجان الناس لما قاله، والكثير منهم مؤيدين.. تمتم في نفسه نعم الوضع لم يتغير، الحال يسير نحو الأسوأ…. والبعض الاخر  سار وراءه وقام  بترديد كلامه، ومنهم من نظم كلاما وأطلقه، الأخرين يرددونه حتى تجمعت الناس، صارت مظاهرة كبيرة، هاج فيها الهرج والمرج، فلكل واحد حكاية والكل يريد ان يعبر عما في داخله انقلابا على الواقع والوضع الذي يعيش ……….. اغلقت الشوارع فجأة، قامت الشرطة والجيش بمحاصرة الطريق، لكن التدافع الجماهيري كان أقوى انقلب الوضع الى مواجهة بين الناس وقوى الأمن، كان الناس يحملون ذلك المهرج على الاكتاف وهو فرح منتشيا بما حقق لقد حصل ما كان يرمي اليه، فهم الناس، لقد بدأوا الفهم أنه يجب التغيير لا يمكن السكوت على ما نحن فيه، صارت الناس تتلاطم كموجة بحر عالية لا يمكن درأها، ولكن… جاء الأمر! بدأت الاطلاقات النارية في الهواء تفرق الجمع الكثير الذي لم يبالي، كما أن الكثير الأخر تراشق بالحجر مع الشرطة والجيش، ازداد الوضع توترا، لقد انقلب الامر الى ثورة، الى هياج عارم من اجل الحرية، من اجل الذات، من اجل الحياة، ومن اجل المستقبل، رميت قنابل مسيلة للدموع لتفريق الناس لم يعرفوا من هو وراء هذه التظاهرة، ولم هي!؟ من منظمها؟! فهي بلا شعارات، بلا لافتات، بلا رموز، إلا أن ذلك المهرج الذي حمل على الأكتاف يبدو إنه من نظم، هو من قاد هذه التظاهرة ولإخمادها يجب ازالته، فثارت طلقة مجهولة أسقطت ذلك المهرج من على الأكتاف، ذعر الناس، تفرقت… وبقي هو مسجى على الأرض بدمه وتلك الابتسامة على وجهه، هازئا بكل مقاييس الإنسانية على الواقع الجديد …. وفي اليوم الثاني كتب في الصحف… قتل ارهابي متنكر بزي مهرج بعد محاولته تفجير نفسه لقتل الأبرياء.

أحدث المقالات

أحدث المقالات