لم تحتفظ ذاكرتي بشيء عن ايام طفولتي غير انها زاخرة بالرفاهة والترف والأشياء الجميلة والمفرحة. إلا ان الصور الانسانية الحزينة لأبناء جنسنا الذين تعتريهم موجات الحزن أعمق تأثيراً من هزات الفرح، انها تحفر أماكنها عميقاً في الذاكرة، فما زلت احتفظ بصورة ذهنية عن مدينة شرق القناة إبّان المرحلة الابتدائية قبل انتقالنا منها، كتصميم المدينة التي تعم فيها البيوت العتيقة واطئة الاسقف، ذات الشكل التقليدي بأبوابها الحديدية الصغيرة التي تحكي لناظرها قصة تعب وألم وحزن من يقطن فيها.تلك المدينة التي بنيت كل لبنة فيها بجهد وتعب وهم.
كان بيتنا من العلامات الدالة في شارع السفارة لتميز مساحته وارتفاعه، وكنت احرص على أداء الصلاة في جامع ابو الفضل العباس ع، حيث باب الدار يقابل باب الجامع مباشرةً في الضفة الأخرى من الشارع. وكنت أمرق كالسهم الى المسجد فارّاً من قفصي كونه المكان الوحيد الذي يسمح لي والديّ الذهاب اليه.
وذات يوم بعد صلاة العشائين وانا اروم الخروج من الحرم الى باحة المسجد شاهدت (ابو جواد) متولي المسجد خارجاً عن طوره الهادئ يقبض على عنق صبي يرتدي ثوباً متسخاً، ممزق تمزيقاً قوياً تحت الإبطين وينتعل حذاء يكبر قدميه بثلاثة اصابع، وهو يزأر بوجه الصبي (ليش تبوگ القندره)، هرع المصلون الى اماكن احذيتهم ومن ثم تحشدوا حول الصبي، واخذوا يمطرونه بوابل من الأسئلة التي مثلوها على صيغة عتب ابرزها (انت منين)، ارتجف الصبي المسكين والقى نظرات زائغة الى وجوه واحذية الجميع ولكن لم يتصد لنجدته احد، وقد استولى عليه حزن شديد، واخذت الدموع تملأ عينيه، وهو ينادي بصوت مخنوق (آني سامي ابن حمود.. هاي قندرتي تسوه المحافظ) عندها فك (ابو جواد) عنق الصبي بعد ان وجد جميع الموجودين احذيتهم.
بعد هذه الحادثة بأيام وعلى حين فجأة التقيت سامي في فناء المدرسة وتبين انه احد تلاميذ مدرستي الابتدائية، رمقت قدميه بنظرة خاطفة فوجدته ينتعل حذاء مطاطي (بلاستك) ابيض اللون اكبر من قياسه ايضاً. وخلال مدة سنوات الابتدائية ولحين تخرجي كنت التقي بسامي بين الفينة والأخرى ولم اشاهده يرتدي حذاء على مقاسه ابداً.
قبل أيام كنت في متجر بيع الملابس، دخل علينا شاب وسيم اربعيني، يرتدي ملابس انيقة وشعره طويل مصفف بكثير من الاتقان، مزهو بنفسه، يثني ركبتيه حين المشي على نحو خاص، وهو يرشقني بنظرات كانت مبهمة لي، ثم دنا نحوي ومكث بجانبي محدقاً الي بهيئة تبلغ من الغرابة انني لم البث ان خجلت من هذه النظرات وقال (انت انت ممتغير، لك آني سامي حمود)، تعانقنا طويلاً وتبادلنا اطراف الحديث، وطلب لنا صاحب المتجر (شاي) وانا ارتشف الشاي اطلت النظر الى حذائه الانيق ذو الجلد اللامع، ورفعت نظري مترجياً الاجابة عن سؤال (لماذا كنت تنتعل “قندره” اكبر من مقاسك؟ ولماذاقيمتها “تسوه المحافظ؟)
تنهد حسرة وتأوه ألماً وأجاب: كانت امنية صباي ان ارتدي حذاء على مقاسي، وانت تعلم حالنا تلك الأيام الغبر وفقرها المدقع، وكان ابي يشتري لي ملابس المدرسة ويختارها اكبر من مقاسي على امل ان تبقى للسنوات المقبلة. اما (لماذا المحافظ) كان ابي يشاهد حدة الحنق في وجهي عند شراء الحذاء وسخطي واعتراضي على مقاسها الكبير ويحاول ان يقنعني بها بقوله (بويه هاي تسوه المحافظ)، كما انه كان يعتقد ان عدم تعبيد المسافة الواقعة امام بيتنا الى الشارع العام البالغة 500 متر هي مسؤولية المحافظ ولذلك كان متذمراً منه بقوله (قندرتك تسوه المحافظ).
وهنا شرد ذهني وفقدت الاحساس بالزمان والمكان، افقت على صراخ سامي (ها، ها وين وصلت) كنت سرحان بتثمين وتقييم قندرتك بهذا الزمان (هسه شگد تسوه؟؟).