لم تعد البداوة نتاج الصحراء الممتدة بين المحيط والخليج، والتي تشكل أكثر من ثلثي خارطة البلاد العربية الطبيعية، وإنما هي طباع اجتماعية أصبحت ملازمة لسكاني هذه البلاد المترامية الأطراف، والتي توصف بنمط من الانتاج الأفروآسيوي، للبلدان المستعمَرة لعقود، والتابعة للرأسمالية في أعلى مراحلها لحد اليوم!
وإذا أردنا أن نقف على جوهر البداوة وسماتها، فنجد خاصية “الاستحواذ” التي لا تعترف بالدولة وإن اعترفت فسيكون الاعتراف اضطراراً لا قناعة ومن ثم لاتعترف بالقوانين وإن اعترفت فهي مضطرة تتحين الفرص للتجاوز على القوانين واتخاذ قوانينها غير المكتوبة بديلاً وعرفاً سائداً، ومن هنا يبرز دور القيم البدوية وأكثرها تجسيدا في الأعراف العشائرية السائدة اليوم والتي تتحكم في مفاصل الحياة الاجتماعية! ولا تقتصر البداوة في جوهرها الرئيس على العرب وحدهم بل كل من عاش في ظهرانيهم من أثنيات وأقليات عرقية!
ما هو جوهر البداوة؟ ورد في القرآن، سورة التوبة: لْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 97)
ويورد ابن كثير في تفسيره للآية أعلاه؛ أنْ جلس إعرابي لأحد الموعظين (زيد بن صوحان) وكان من مقاتلي نهاوند ، فقام له أعرابي قائلاً: والله إن حديثك ليعجبني، وإن يدك لتُريبني، فقال زيد: وما يريبك من يدي؟ إنها الشمال، فقال الأعرابي: والله لا أدري، اليمين يقطعون أم الشمال؟ عندها قال زيد: صدق الله، الأعراب أشد كفراً ونفاقاً….
وأحسب أن البداوة التي توصف بالكرم وغوث المستجير هي نفسها التي تمارس قطع الطريق أو الغزو وحيث أن غزوة الضحى هي نعمة من الله يرجعون الى خيامهم بما كسبوا أو غنموا أوسلبوا للصلاة وشكر الله! ولست أعني بالتأكيد كل البدو. ومن أسباب هذا السلوك هو النفور من العمل في الصحراء إيٍّ كان العمل حتى الزراعة بل تجد أن هناك بعض المحاصيل لا تزرع كالخضروات والطماطة التي لوقت قريب كانت لا تزرع، بل وجدتُ أن صناعة الحلويات في بلد مثل الجزائر تعتبر معيبة ولكونها معيبة ترى كل صُنّاعها وباعتها من دول الجوار! وفي العراق الحياكة والكناسة وتصليح الأحذية ونزح المجاري .. وغيرها محتقرة!! بل تجد أن تسمية المهنة جاءت من الامتهان! ويذكر الدكتور زكي نجيب محمود أنه كُلّف في الكتابة عن أسلوب أحد الأدباء ففكر بكلمة الأسلوب وراح يبحث في المعاجم عن جذر سلب الذي يعني نهب أو سرق.. ليكتشف أن الأسلوب ما يسلبه الكاتب من داخله ويحوله الى كتابة على الورق!! وبهذا يكون لكل كاتب أسلوبه الخاص المحكوم بذاته!
ولكن قبسات من البداوة وسلوكها تُلمَس لدى الحضر حتى وإن وصلوا الى مراتب في التمدن أو الدراسة أو السياسة، وهي ما تفسر النفاق الاجتماعي والظهور بمظهر التدين، والتدين سلوك التظاهر بالدين ولا يدل بالضرورة على صدق الالتزام في الدين بل لاتجد كلمة “تدين” في القرآن ولا في الحديث ولا في التراث الإسلامي، لأنها ليست من جوهر الدين، فهي شكل من الرياء والنفاق.. المتدينون يسبّون الغرب الكافر عديم الأخلاق من على المنابر ويستعملون كل ما أنتجه الغرب، ويعتبرون طعام الغرب الكافر وشرابه حرام ولكنه يطلبون اللجوء ويقطعو البراري والبحار ليلجؤوا اليه بشتى الذرائع الكاذبه وليعيشوا في كنفه ويعيشوا في خيراته ويخرقوا قوانينه!!
ومن يجدني مبالغا أو متجنياً فلينظر الى جلسة البرلمان لانتخاب رئيسه يوم الأحد الماضي فهي تجسيد حي للبداوة والنفاق والتحايل.. كتيبة من أعضاء وعضوات التيار الصدري ب”يونيفورم” أبيض من الأكفان تلفعوا بها دلالة الانخراط والتطوع في جيش المهدي عجل الله فرجه، هكذا خط على الظهور .. فهم فدائيون ليوم تشخص فيه الأبصار! ليملأوا الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت جوراً وظلماً!! وقد رأينا وزراءهم كيف ملأوا وزراتهم نزاهة وعدلاً وإخلاصا لايبتغون سوى مرضاة الله وخرجوا منها كما دخلوها أول مرة فقراء زاهدين!!
أما المسرحية في الجلسة ذاتها التي كان بطلها الدكتور محمود المشهداني رئيس البرلمان السابق، والذي نيّف على السبعين وزاد بثلاثة أعوام وكان عضو برلمان السن، فهي مسرحية سمجة لتعطيل عمل البرلمان لكسب الوقت، فأي نزاهة ترتجى! لرجل تجد على جبهته “طُرّة” من أثر السجود!!
ولله في خلقه شؤون!
12/ 01/ 2022