امنحوا أولادكم التفويض بالوكالة
شهرزاد : فلنسلم بما وصلنا اليه في الحديث السابق وبأن ” الحتميتين الوراثية و النفسية تصنعان مزيدا من التطابق الخَلقي والأخلاقي لكنهما لا تكونان أبدا سببا في تطابق الأحلام والتجارب والطموح ، لكن ماالذي يمنع الوالدين من الوصول الى مايدور في أذهان أبنائهم وبناتهم ؟ ، وحينها سيكون سهلا ، على ما أعتقد ، أن يمنحوهم فرصة تحقيق الذات بعيدا عن تجارب وأحلام الأباء والأمهات !.
شهريار : إنه خلل عميق بالثقة بين الوالدين وأولادهم، هل تذكرين ياشهرزاد حين تحدثنا عن الإنصات ؟ ، وقلنا : إن “أعظم أبواب الثقة الى النفس البشرية أن نحقق للمتحدث عن همومه ومشاكله فرصة التعبير بلا مقاطعة ، وهو مايسمى (الهواء النفسي) الذي يشعره بأهمية مايقول وبوجود من يستمع أليه من أجل أن يفهمه لا من أجل أن يرد عليه ، أو أن يبدي له النصائح ، الأنصات بصيغة (التقمص العاطفي) لايعني التعاطف مع صاحب الشكوى فإن التعاطف يعني الإتفاق ، بينما نحن نحاول أن نفهم حقيقة الأمر لنكون طرفا أصيلا في حل المشكلة”.
إن النَزْر القليل من الناس عبر الأزمنة البعيدة والقريبة ،وحتى يومنا هذا ، هم من يجيدون الإنصات بصغية التقمص العاطفي ، واذا تمكن الناس من خلع قبعة الخبير بنية الإصغاء لصاحب الهم او الشكوى ، لكنهم لا يستطيعون فعل ذلك اذا كان المتحدث أحد ابنائهم أو بناتهم ، كيف لهم أن يتخلّوا عن هذه الصفة وهم يعيشون دور المسؤول والرقيب ؟ .
وعلى كل واحد منهم أن يجيب نفسه بالقول : اذا كنتُ لا اصغي لولدي المراهق او ابنتي الصغيرة وهما يحاولان مد جسور الثقة معي ، فكيف لهما أن يقبلان مني قولا او نصحا؟ .
إنَ للثقة المتبادلة أشد الفعل في العلاقة مابين الآباء والأبناء ، وإن الطريق الأمثل لمد جسورها أن نكون مبادرين بالإستماع الى هموم أولادنا ومشاكلهم ، وتقمص شخصياتهم ، وهم يحلمون بتحقيق ذواتهم ، وخوض تجاربهم الخاصة بما يتناسب مع تطلعاتهم ، علينا نحن الآباء والأمهات أنْ لا نلتفت الى ماضينا العتيد، وأن ننظر الى مستقبلهم بأعينهم هم، لا بعيون أحلامنا وتجاربنا القديمة .
شهرزاد : وماذا إنْ استطاع أحدنا أن يتجاوز (قبعة الخبير) وينصت بتقمص عاطفي، ويمد جسور الثقة مع أولاده؟ .
شهريار : ذلك مفتاح المحبة ، في تلك اللحظات تتجسد أعظم عاطفة بين الطرفين ، ويصير الوالدان مشكاة تنير دروب المستقبل ،نحن نمنح أولادنا الثقة لندخل قلوبهم، فإن دخلناها منحناهم مفاتيح الأبواب المغلقة لتحقيق ذواتهم وطموحاتهم من خلال تجاربهم الخاصة .
شهرزاد : لكن ألا ترى أن الثقة المطلقة مع قلة الخبرة قد تكون سببا في إخفاقات عظيمة ، وربما يلوم الوالدان نفسيهما على عدم الإرشاد والتصويب ، ويندمان على تجاهل الخبرة المتراكمة ؟ .
شهرزاد : ذلك يعتمد على التفويض الذي نمنحه لهم ، ويقول أهل التنمية البشرية : إن التفويض نوعان الأول ما يسمى بالتفويض الساعي، وهذا ما يسير عليه معظم الأباء والأمهات بوصفهم مسؤولين على كل صغيرة وكبيرة ، وعلى قاعدة ( أفعل ولا تفعل ) ، وفي هذه الحالة سيفرضون تجاربهم وأحلامهم على مستقبل أولادهم شاءوا أم أبوا ، أنصتوا أم لم ينصتوا ، وفي ذلك مهلكة للجيل الجديد ، وضياع للثقة ، وتلاشٍ للمحبة ، نحن بهذا التفويض نبعث برسالة دائمة مفادها: (أنتم بحاجة إلينا دائما ، لا يمكنكم النجاح بدوننا ).
وعلى هذا الأساس ستتشتت طموحات أولادنا فينشأوا مبعثرين ما بين أحلامنا وأحلامهم ، مابين ما نرسمه لهم وما يطمحون إليه ، وثقتهم بأنفسهم مهزوزة بقدر هوانها نحونا .
ولو منحناهم النوع الثاني من التفويض ( التفويض بالوكالة ) الذي يعتمد على النتائج وليس على المنهاج الذي نفرضه نحن، فسنهبهم القوة لإكتشاف مواهبهم وقدراتهم على النجاح ، فكما يعتقد الآباء والأمهات أنهم أصحاب خبرة ونجاح،فإن عليهم أن يمنحوا أولادهم أسباب القدرة على النجاح بالإعتماد على ذواتهم في خوض تجاربهم الخاصة .
الآن أستطيع أن إجيبك عن سؤالك بوضوح: إن التفويض بالوكالة بحاجة الى صبر على تنمية مهارات الجيل الجديد ، على أن تكون الثقة حاضرة بين الطرفين من خلال ماذكرنا آنفا ،علينا أن نعلمهم القواعد العامة لكل تجربة ، وننبه الى المخاطر المحيطة بها ، ونبدي إستعدادنا للمساعدة إنْ طلبوها ، ونترك لهم حرية المنهج والتنفيذ .
كأننا نقف معهم في قاعة واسعة ، لها عدد كبير من الأبواب ،فننبهم الى أبواب الشر ،ونشير الى أبواب الخير ، ثم نسلمهم كل المفاتيح ليختاروا ،بملء إرادتهم، الباب الذي سيعبرون منه .
ولنأخذ مثلا بسيطا من الواقع : إبني ( محمد ) مولع بالكهرباء وأسلاكها ونقاط توصيلها منذ سن المراهقة ، وبطبيعة الحال كنت أخشى عليه من التعرض لصدمة كهربائية قد تنهي حياته ، وأزجره كلما اقترب من ذلك الخطر ، وعلى هذا الأساس أصابته رهبة ، ولم يعد يهتم بهذا العالم .
حينما بلغ السابعة عشرة كنت أطلب منه المساعدة ، أحيانا ، وأنا أقوم بإصلاح عطل كهربائي ، لكن تلك الرهبة مازالت تلازمه ،وكان يتحجج بانشغاله بالدراسة او أي شأن آخر .
أدركت خطأي ،وسعيت جاهدا لمنحه الثقة بقدرته على إنجاز المهمات المقبلة فأعطال الكهرباء لا تنتهي في منزلنا .
بدأت بتشجيعه وذكرته بقدرته على التعلم ، ثم طلبت منه مراقبتي وأنا أشرح له في كل مرة شأن من شؤون هذه المهمات الخطرة، وعلى مدى أشهر تمنيت أعطالا أخرى قبل أن ينخفض حماس ابني .
ومرةً بعد أخرى صار يجادلني في طرق إصلاح العطل ، وحين أمسك بمفاتيح (اللعبة ) ، منحته التفويض بالوكالة ، وعرضت عليه المساعدة إنْ إحتاج إليها .
لم يطل بنا المقام حتى ظهرت لنا مشكلة جديدة في أنارة إحدى الغرف ، وكان الأمر يتطلب تغيير مكونات ما في السقف الثانوي لتعود الإنارة ، وأكذب عليك ياشهرزاد إن قلت أنني كنت أعرف طريقة إصلاح ذلك العطل ، لقد أدهشني محمد وهو يشرح لي كيف أن العطل لم يكن في المصباح ، وإنما في قاطع الدورة الذي يمر عبره التيار الى المصباح .
اليوم وبعد أن أصبح شابا قويا لبس قبعة الخبير ، ولم يعد يطلب مساعدتي في إصلاح أي عطل كهربائي ، لكنه يجاملني أحيانا ويذكّرني (بأسرار المهنة ) التي تعلمها مني ، وكأنه يشكرني على ثقتي به بشكل غير مباشر .
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة
للتواصل مع الكاتب : [email protected]