18 ديسمبر، 2024 8:34 م

عندما يُعزَل القانون عن منصبه

عندما يُعزَل القانون عن منصبه

كثيرًا ما يتملكنا الضيق عندما لا نستطيع رد إهانات الآخرين أو الاعتداءات الغير مبررة. وقد يجنح البعض إلى إعادة الموقف في ذهنه مرات عدة مرددًا “يا ليتني قلت كذا” أو “تصرفت هكذا”. وغالبًا، ما ينسى الفرد السويّ أو المتسامح الإهانة أو الاعتداء، لكن هناك آخرون يعتبرون آية إساءة – حتى ولو كانت طفيفة –اعتداء سافر، ومن الواجب رد الصاع صاعين؛ لإخماد نيران الشعور بالعار الذي لحق بنفس المعتدى عليه.
ولقد قام فريق من الباحثين السويسريين بإجراء تجربة لمعرفة ما يحدث بالدماغ عندما ينتقم أحدهم ممن ظلمه أو اعتدى عليه. ففحصوا أدمغة أشخاص تو تعرضهم للظلم في أحد الألعاب التي أقيمت بالمختبر في إطار التجربة، وحين أعطوهم الفرصة للانتقام ممن ظلمهم. وفي أثناء ذلك، قاموا بفحص دماغ المظلوم أثناء تصوُّره طريقة تنفيذ الانتقام، وأثناء التنفيذ. والمفاجأة، ملاحظة حدوث نشاط بالنواة المذنَّبَة Caudate Neuclus، التي تتحكم في الجزء من الدماغ المسئول عن المكافآت، أي أن تنفيذ الانتقام كان بمثابة المكافأة التي تسبب السعادة والحبور. الانتقام كما وصفه الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون Francis Bacon (1561- 1626) هو: “أنه ضربًا من ضروب “العدالة الجامحة” التي تعزل القانون من منصبه”.
ولم يكن فرانسيس بيكون من مؤيدي فكرة الانتقام التي تحقق التشفِّي من الظالم عندما يراه المظلوم يعاني كما فعل به، وأكد على ذلك بقوله: “من يدبِّر للانتقام سوف تظل جراحه حديثة مفتوحة، والتي لولا ذلك لكانت التأمت”. ففي بداية الأمر، يصير الانتقام بمثابة التحرر العاطفي من تجربة قاسية؛ لأنه وسيلة تحقيق العدالة، مما يجعل المرء يشعر بالتحسن– كما تلح على ذلك الأفلام. وبالرغم من ذلك، للانتقام تأثير معاكس. فلقد وجد علماء النفس أن الشعور بالرضا فور تنفيذ الانتقام لا يدوم سوى للحظات قصيرة؛ لأنه لا يخمد نيران الظلم في نفس المظلوم، بل يزيد من عدم الشعور بالرضا إزاء ما ارتُكِب في حقه من جُرْم، مما يعطي الفرصة لخلق سلسلة لا نهائية للانتقام من المُعتدِي، وقد يزداد الأمر سوءًا عندما يتبادل الطرفين الانتقام من بعضهما البعض، حيث يتحول الأمر إلى كارثة جميع أطرافها خاسرون. ولقد صورت فكرة الانتقام رواية “الكونت دي مونت كريستو”، للكاتب الفرنسي الشهير “ألكسندر دوما” Alexandre Dumas (1802-1870). وتعتبر الرواية واحدة من أهم الأعمال الأدبية التي توضح فكرة التلذذ بتنفيذ الانتقام بدم بارد، بناء على خطة محكمة تستغرق سنوات طويلة من التفكر والتدبر؛ لنسج خيوط الانتقام، وإحكام السيطرة على الظالم. وبالفعل، تثمر الخطة في نهاية المطاف، ويحظى المكلوم بنصر مكين.
وقد يظن البعض أن الانتقام بهذه الطريقة لا يسير إلا في أُطُر الروايات والأفلام، لكن بالنظر عن كثب يلاحظ أنه أشد وطأة وأكثر عنفًا على أرض الواقع، وأن الانتقام لا يسري بين الأفراد أو العائلات فقط، بل أيضًا بين الحكومات والدول. وذاك الأمر قد صار نهجًا على مر العصور، ولا يستثنى من ذلك العصر الحديث.
قديمًا شاع المثل القائل: “الانتقام وجبة من الأفضل تناولها باردة”، ولقد تناولتها الصين “باردة”، وتتلذذ بطعمها حاليًا. فمنذ الهزيمة النكراء التي لحقت بها على أيدي البريطانيين 1840-1842 فيما يُعرف باسم حرب الأفيون، أخذت المملكة الصينية تتهاوى من جراء سلسلة من الحروب التي تم شنها ضدها من قبل أطراف عدة.
فلقد كانت الصين إمبراطورية عظيمة وشديدة الثراء، وكانت منتجاتها من البهارات والحرير والخزف تتهافت عليها الدول، وينفقون أموال طائلة للحصول عليها؛ لما لها من سوق رائج وسمعة طيبة. أما إمبراطورية بريطانيا العظمى التي لا تغيب عنها الشمس، راعها كثيرًا أن تجد نفسها لأول مرة أسيرة الشراء لمنتجات استهلاكية تستوردها من إحدى الدول. ولم يقف الأمر عند ذالك فحسب، فحين تنبهت وجدت نفسها تنفق من مخزون الذهب والفضة لديها لتعطيه لدولة أسيوية بدائية، لا تستورد منها أي شيء على الإطلاق، وغير راغبة في شراء أيِّ من منتجاتها البراقة التي يتهافت عليها جميع دول العالم. ولما استعصى على بريطانيا فتح أسواق الصين لمنتجاتها – حتى لا تدخل المزيد من الأموال الإنجليزية في جيوب الصينيين – قررت إجبار الصين على الشراء بقوة شن الحرب عليها. ولما تصدت لها الجيوش الصينية الباسلة وطردتها، قررت تدمير الشعب الصيني بأكمله، ونهب أمواله قسرًا عن طريق شن ما يسمى بحرب الأفيون الأولى والثانية، والتي جرت في أذيالها سلاسل من الحروب قضت على الإمبراطورية الصينية، وجعلت شعبها الهائل العدد لا يجد قوته، وغارقًا في المجاعات؛ لدرجة أنه لم يكن يتوافر لديه المياه اللازمة لزراعة الأرز؛ حتى يسد جوعه، بعد ما كان يرفُل في الحرير والذهب والفضة. ومنذ ذاك الحين، تعود الصينيون على أكل كل ما يتوافر أمامهم، حتى ولو كان “جيفة”. وفي نفس الوقت، أقسم الصينيون أنهم لسوف يستعيدون شرفهم وينتقمون من أعداءهم بعد قرن من الزمان، وأطلقوا على هذه الحقبة “المائة عام من الذل”.
وبعد مرور سنوات طوال، سنحت الفرصة للصينيين لتنفيذ خطة الانتقام، وكانت شرارة البدء الزيارة الودية للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون Richard Nixon للصين في منتصف السبعينات؛ لمد جسور العلاقات بين البلدين في إطار الجهود الأمريكية للقضاء على الفكر الشيوعي المناهض للرأسمالية؛ لأن الصين ذات الفكر الشيوعي كانت من أنصار الاتحاد السوفياتي المناهض لأمريكا، وأمريكا في نفس الوقت راغبة في تقويض حلفاء الاتحاد السوفياتي وضمهم إليها، وذلك من أهم ركائزها في الحرب الباردة بينهما. ومن ثم، اعتقد الأمريكيون أن بدخولهم الصين وعمل مشروعات استثمارية، لسوف يغيِّر ذلك من الفكر الصيني ويجعله يتجه للرأسمالية العالمية. وسارت الخطة كما رغبها الجانب الأمريكي تمامًا، وأخذت الصين في الانفتاح أكثر على أمريكا إلى أن “التهمت” استثماراتها، واستنزفت أموالها واقتصادها وتكنولوجياتها. وفي تلك الأثناء، انفتحت على أوروبا، وصارت أكبر موِّرد لها، بل وصارت منتجاتها الأكثر رواجًا. وبالتأكيد، لم يكن من الصعب عليها الانفتاح على الشرق الأوسط. حاليًا، صارت مقاليد الاقتصاد في أيدي الصين؛ فهي مصنع العالم الذي لا يمكن الاستغناء عنه، والجهة التي تلوِّح بمنتجاتها للعالم، فيهرول صوبها؛ للحصول عليها.
لقد استعادت الصين امبراطوريتها القديمة ومجدها السابق كدولة مصدرة “فقط” لمنتجات لا مثيل لها، بل وجعلت شعوب العالم، وخاصة العالم الغربي، “يدمن” المنتجات الصينية التي صارت بمثابة “أفيون” من نوع جديد. فهل سيقف سيف الانتقام عند ذاك الحد؟