23 نوفمبر، 2024 1:05 ص
Search
Close this search box.

في الذكرى الحادية بعد المائة لتأسيسه…. الجيش العراقي تحت مطرقة الميليشيات

في الذكرى الحادية بعد المائة لتأسيسه…. الجيش العراقي تحت مطرقة الميليشيات

 

إن هاجس الخوف من الجيوش يلازم الحكومات باستمرار و خصوصا تلك الحكومات الدكتاتورية و العسكرية التي تستحوذ على السلطة بالانقلاب العسكري أو السياسي, فهي تحاول باستمرار إضعاف الجيش بأي وسيلة كانت لتؤمن ديمومتها, ومن الجيوش التي عانت من سطوة الحكومات المتعاقبة هو الجيش العراقي, ورغم أنه من أقدم الجيوش النظامية في المنطقة و تأسس على يد أمهر القادة العسكريين وأكثرهم حنكة و تجربة في ميادين المعارك إلا أنه ومنذ تأسيسه كان رهينة للتقلبات السياسية التي انعكست بشكل مباشر على قوته وهيبته و تسببت بحصد رقاب خيرة قادته بدأ من حركة بكر صدقي عام 1936 والتي راح ضحيتها أشهر ضابط عسكري و مؤسس الجيش العراقي الفريق جعفر العسكري وزير الدفاع آنذاك و بعدها بأشهر قليلة وكنتيجة لتلك الحادثة دفع الفريق بكر صدقي الثمن حياته بأغتياله بتحريض من الانكليز ثم تلتها حركة مايس عام 1941 سقط فيها أكبر أربعة قادة في الجيش العراقية برتبة عقيد عرفوا تاريخيا بالعقداء الاربعة وهم العقيد كامل شبيب والعقيد محمود سلمان والعقيد فهمي سعيد والعقيد صلاح الدين الصباغ ثم جاءت ثورة تموز والتي خلفت مجزرة راح ضحيتها الملك وعائلته و أشهر ضابط و سياسي عراقي في تاريخ العراق الحديث وهو الباشا نوري سعيد صبيحة الرابع عشر من تموز عام 1958 و على يد العسكر بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم الذي تم إعدامه بانقلاب عسكري حزبي قاده رفيقه اللواء عبد السلام عارف في 8 شباط 1963 رغم إن التخطيط كان تخطيطا حزبيا بعثيا إلا إن الحال لم يكن كذلك لو لم يستعن حزب البعث الفتي بأفراده من العسكر الذين تم كسبهم داخل ثكنات الجيش و خصوصا في سلاح المدرعات و القوة الجوية اللتان سهلتا سقوط قاسم في ساعات رغم الحشد الجماهيري الذي التف حوله.
لقد كان قياديو حزب البعث على يقين بأن الجيش سوف يبقى قادرا على القيام بانقلابات أخرى قد تطيح برؤوسهم كما أطاحت بقاسم والملك وغيره إن لم يجدوا حلا مناسبا لتصفية قادته و بأيادي مدنية مسلحة تُمنَح الشرعية و المسميات التي تعطيها دعما و زخما جماهيريا وبدوافع شتى, قومية كما في مليشيا الحرس القومي التي تأسست في شباط 1963 أو عقائدية حزبية كما في ميليشيا الجيش الشعبي التي أسسها حزب البعث بعد انقلاب تموز 1968 وتعزز دورها في الحرب العراقية الإيرانية لتكون عينا على قادة الجيش النظامي أو عسكرية كما في ميليشيا فدائيو صدام وجيش القدس اللتان أسسهما عدي صدام حسين منتصف تسعينات القرن الماضي و إستعان بإدارتهما بقادة الجيش النظامي.
وكما هو واضح تاريخيا فإن كل الحكومات التي حكمت العراق أسست جيشا موازيا لقوة الجيش الحكومي والأجهزة الأمنية وأبرزهما من حيث الدور الذي لعبته والفضائع التي ارتكبتها على أرض الواقع هما الحرس القومي عام 1963 و الحشد الشعبي عام 2014, لقد تأسس الحرس القومي بقرار رقم 35 في 28/2/1963 ونص القرار على ((أن الغاية من تشكيله هي اعداد قوة من الشباب القومي تتدرب على استعمال السلاح لغرض معاونة القوات المسلحة للدفاع عن الوطن وصيانة الأمن الداخلي بموجب تعليمات خاصة تصدرها وزارة الدفاع وترتبط برئاسة أركان الجيش وتفصيل واجباتها هي التعاون مع الجيش في صيانة الأمن الداخلي وحماية المنشآت الحيوية وتعقب المجرمين والمعادين للدولة)) .
تشكلت القيادة العامة لقوات الحرس القومي في حينها من العقيد الركن المظلي عبد الكريم نصرت رئيسا والذي تم عزله مباشرة بسبب اصطدامه ببعض أعضاء قيادة الحرس القومي وتم استبداله ب مقدم الجو منذر الونداوي, أما عن مكتب التحقيق فتكون من مجموعة من المدنيين المشهود بدمويتهم وهم عمار علوش و ناظم كزار و عبد الكريم الشيخلي و (صدام التكريتي ) وغيرهم وكانت من بين واجباتهم إضافة إلى تلك التي ذكرتها أعلاه هو مكافحة الدعايات المغرضة وتوجيه أبناء الشعب إلى مبادئ الثورة فضلا عن مهمات الدفاع المدني ومكافحة الحرائق وغيرها , ولم تمض أسابيع حتى صار ت مؤسسة الحرس القومي في بغداد جيشا يضاهي عدده جميع القوات العسكرية الموجودة في معسكرات العاصمة وقام بارتكاب مجازر ضد أفراد الشعب من المدنيين والعسكريين ومن الرجال والنساء على حد سواء فقتل الآلاف واغتصبت مئات النساء وتحول المشهد إلى مشهد دموي قاتم لم يسلم منه حتى من لم تكن له علاقة بالسياسة إنما تم قتله لأسباب أخرى كالثأر و لصق تهم سياسية باطلة للتعتيم عن الأفعال الجرمية.
وكما أسلفت سابقا بأن هاجس الخوف من الجيش ظل ملازما لقتلة عبد الكريم قاسم فلم يكتفوا بتصفية كبار الضباط المناهضين لحزب البعث والأكثر من ذلك وللسيطرة التامة على الوضع وتهميش الجيش وجعله قوة تفوق عددا وعدة وتدريبا من الجيش النظامي و الوقوف بوجه الجيش وتحجيمه اقترح القيادي البعثي محسن الشيخ راضي برنامجا لتدريب أعضائه على استخدام الدبابات والأسلحة الثقيلة ونفذ المقترح وتخرجت دفعات قتالية كثيرة وبسبب غياب الانضباط وغياب الواجبات المحددة بقوانين عسكرية صارمة وعدم توفر الوعي العسكري وسيادة الفكر الحزبي شاع التسيب و تحول جهاز الحرس القومي بسرعة إلى مجاميع إجرامية لا تربطها رابطة مركزية مسؤولة و تحولت تدريجيا من حماية الأمن السياسي والاجتماعي إلى قوة رعب وإرهاب للناس والتدخل المباشر في شؤونهم وفي شؤون الإدارة والتسيير الحكومي حتى إنهم ضربوا الأعراف الدبلوماسية عرض الحائط وتعرضوا لهيئات دبلوماسية واخضعوا السفراء للتفتيش و غيرها من الفضائع حتى ضاق بهم عبد السلام عارف ذرعا وأيقن خطورة الموقف وهو عسكري محنك فأنقلب بعد عدة أشهر من نفس العام على رفاق 8 شباط 1963 و نصب نفسه رئيسا للجمهورية وقائدا عاما للقوات المسلحة و قام بحل مليشيا الحرس القومي و زج بقادتها ومجرميها في السجون لتنطوي صفحتها السوداء للأبد.

بعد سقوط نظام صدام عام 2003, نحى الساسة الطائفيون نفس المنحى وسلكوا نفس السلوك الذي سلكه البعثيون عام 1963 لكنه كان أوسع وأشنع بكثير, فأسسوا مليشيات طائفية ((شيعية و سنية)) لعبت أدوارا قذرة في ظل الفوضى العارمة التي خلفها غياب الجيش و السلطة مثل ميليشيا جيش المهدي و فيلق بدر و حزب الله العراقي و العصائب وغيرها العشرات (شيعية) و جيش المقاومة الإسلامية والقاعدة وغيرها (سنية) والتي تورطت جميعها بعمليات إجرامية راح ضحيتها آلاف المدنيين الأبرياء الذين قتلوا على الهوية حتى جاءت فتوى مرجعية النجف الشيعية بتأسيس الحشد الشعبي الذي سرعان ما تحول إلى ميليشيا إيرانية بأمتياز انضوت تحت لوائه عشرات الميليشيات التي وجدت فرصتها في تقنين وجودها و شرعنة أفعالها.
إن أكبر نكسة مر بها الجيش العراقي في تاريخه على مدى قرن من الزمن هي عندما تم حله في العام 2003 على يد القوات الأمريكية بقرار من الحاكم العسكري الأمريكي السيئ الصيت بريمر وبدفع من الحركات السياسية والطائفية التي جاءت على الدبابات الأمريكية من كردها الى عربها, شيعتها وسنتها , علمانييها و معمميها ولم يكتفوا بذلك بل حلوا جميع الأجهزة الأمنية الساندة, هذا من جهة, ومن جهة أخرى قام الامريكان بزج كبار قادته في السجون وتركهم يموتون الواحد تلو الآخر وتركوا المجال بشكل متعمد للمليشيات المدعومة من إيران وعلى رأسها فيلق بدر لتصفية معظم قادة الجيش العراقي والطيارين, فاغتالت الآلاف منهم وفر من أستطاع الفرار الى خارج العراق لينجو بجلده ليتحول المشهد الى فوضى عارمة كانت نتائجها تفشي القتل و انتشار المجازر وحمامات الدم والسلب والنهب وانتهاك الحرمات على أيدي العصابات الإجرامية التي تدعمها الميليشيات المسلحة, ثم أعيد هيكلة الجيش العراقي بمن تبقى من القادة الفاشلين وذوي السوابق و المطرودين من الجيش العراقي في فترة حكم صدام حسين إضافة لمن تم دمجهم من قادة الميليشيات القادمين من إيران ومنحهم رتبا عالية وصلاحيات مطلقة حتى وصل الحال أن يقف أكبر القادة في الصف بالاستعداد وأداء التحية العسكرية لمعمم يقود كبرى الميليشيات و تقبيل يد معمم أخر من قبل كبار قادة الجيش الجديد طمعا في المناصب وكسب ود قادة الميليشيات .
إن مفهوم الميليشيات أصبح لا يحتاج إلى تعريف في العراق لأنها عرفت عن نفسها على أرض الواقع سواء أكانت ميليشيا الحرس القومي عام 1963 أو الجيش الشعبي الذي انتهى دوره مع نهاية الحرب العراقية الإيرانية عام 1988 او فدائيو صدام أو الميليشيات التي ظهرت بعد العام 2003 وصولا للحشد الشعبي الذي ضم معظم ميليشيات ما بعد العام 2003 تحت لوائه ضمن فتوى الجهاد الكفائي.
لم تكن المليشيات التي تأسست لاحقا في الفترة مابين 1968 حتى 2003 (الجيش الشعبي, فدائيو صدام…الخ) بقوة و دموية الحرس القومي الذي تحدثنا عنه سابقا في هذا المقال و لا بدموية وبشاعة أفعال الحشد الشعبي وهي الميليشيا الأكثر إثارة للجدل والتي تأسست بفتوى دينية لمساعدة الجيش و القوات الأمنية في دحر داعش بعد أن احتل ثلث أراضي العراق و وصل إلى تخوم العاصمة بغداد ورغم الدور الذي لعبه الحشد في الحد من تمدد داعش وتحرير المدن التي احتلها و القضاء على فلوله بمساعدة دولية أمريكية إلا انه سرعان ما تم تسييسه وتحويله إلى ميليشيا قاتلة تأتمر بأمر الحرس الثوري الإيراني يقودها ويوجهها فعليا الجنرال قاسم سليماني قائد الحرس الثوري الإيراني نفسه و الذي اغتالته القوات الامريكية بغارة جوية على طريق مطار بغداد فجر الثالث من كانون الثاني عام 2020 مع أشهر قائد لميليشا الحشد الشعبي وهو المدعو ابو مهدي المهندس ومجموعة من مساعديهم.
لقد كان تأسيس الحشد الشعبي فرصة لأضعاف الجيش وتحجيم دوره من جهة وإستقطاب الشباب العاطل عن العمل والمشحون طائفيا وتغطية الفكرة بغطاء ديني وعاطفي لتشجعيهم على الانضمام لهذه الميليشيا وبإغراءات كثيرة منها منحهم رواتب وفرص عمل و رتب عسكرية تتناسب مع عمر المقاتل المنتمي للميليشيا مع اشتراط منحهم تلك الرتب العسكرية (رتبة ضابط) بكسب المزيد من الشباب من معارفهم لتكوين مجاميع أخرى و تشكيل فصائل و سرايا ليستحق الرتبة و يتمتع بامتيازات الضابط النظامي من حيث الترقية والرواتب والصلاحيات المفتوحة التي تجاوزت صلاحيات الرتبة العسكرية النظامية وتم تسليمهم أنواع السلاح و إرسالهم إلى ساحات القتال تحت مسميات دينية و رمزية (فصيل أبا الفضل, وسرية الحسين و قوات الزهراء و زينب …الخ) وتنمية الشحن الطائفي الذي دفعهم للقيام بنفس الممارسات الدموية التعسفية التي مارسها الحرس القومي مع الفارق إن الدافع كان طائفيا بدلا من كونه حزبيا و قوميا, فكانت النتيجة أن سقط ألاف المدنيين الأبرياء الذين حوصروا في منازلهم بسبب الحرب بين الحشد و داعش و سوء استخدام السلاح لعدم خبرة أفراد الحشد بالقتال إضافة لتفشي روح الانتقام نتيجة الشحن الطائفي الذي حملوه وإعدام وتهجير الآف المدنيين الأبرياء من مدنهم والاستيلاء على ممتلكاتهم وعدم الامتثال لأوامر الدولة حتى صارت الفتوى هي المحرك والمبرر الأول و الأخير لتلك الأفعال الإجرامية والأسوأ من ذلك إن الكتل الطائفية الكبرى التي تقود البرلمان شرعت قوانين بضم ودمج أفراد وقادة ميليشيا الحشد الشعبي مع القوات العسكرية النظامية (الجيش العراقي) مع رتبها وامتيازاتها وبدافع الخبث في إنهاء دور الجيش العراقي وتهميش قادته بشكل كامل, فصارت واقعا لا تستطيع قوة رفض أوامرها و حلها أو تفكيكها بما فيها المرجعية العليا التي أفتت بتأسيسها بعد أن استفحلت قوتها وصارت تمتلك العدد والعدة ناهيك عن الدعم الإيراني المباشر لتعيد العراق مرة أخرى لحمامات الدم و لنفس لمصير الذي تركه الحرس القومي قبل ستة عقود وكأن الوضع لم يتغير عن الأمس مع الفارق إن الحرس القومي نشأ بدافع قومي حزبي وإنتهى بعد أشهر من تأسيسه إلا الحشد الشعبي أصبح هو الجيش الفعلي وهو صاحب القرار الطائفي و المسؤول عن إشاعة الفرقة الطائفية بين أفراد الوطن الواحد ((باستثناء أؤلئك الذين أنظموا له بروح وطنية خالصة من اجل الدفاع عن البلد وشعبه و مقدساته و الذين سقطوا بين شهيد وجريح و مازال الآخرون يرابطون على السواتر تصطادهم خلايا داعش المتفرقة من حين لأخر ليصبحوا خبرا لكان في الوقت الذي ينعم فيه قادة الميليشيات بالمليارات التي خصصتها الدولة لهم)).

أحدث المقالات

أحدث المقالات