في 31 مارس 1980 ، جرى في الكرملين إحتفال باذخ ومهيب ، تم خلاله تقديم جائزة لينين في الأدب لعام 1979 إلى زعيم الحزب الشيوعي السوفيتي ، ورئيس الدولة ليونيد بريجنيف ، بوصفه مؤلفا للثلاثية الشهيرة ” الأرض الصغيرة ” و” النهضة ” و” الأراضي البكر” .
قابل الشعب السوفيتي منح جائزة أدبية رفيعة إلى بريجنيف بعاصفة من التعليقات الساخرة والنكات. فقد كان بريجنيف في ذلك الحين عجوزاً أنهكه المرض ، وإستنزف قواه ، بعد أصابته بعدة نوبات قلبية ، شديدة الوطأة ، ويجد صعوبة حتى في إلقاء كلمة قصيرة في مناسبة ما .
لم يكن بريجنيف ( 1906 – 1982 ) ، حتى قبل مرضه ، خطيبا مفوها ، كما كان اسلافه ( لينين ، ستالين ، خروشوف ) .وكان يقرأ خطاباته (المعدة من قبل بعض الصحفيين المقربين ) بتأن وتمهل ، كلمة فكلمة ويتلعثم كثيرا . ولم يكتب طوال حياته سوى الأوامر الحزبية والحكومية ، لذا كانت مفاجأة كبرى عندما نشرت مجلة ” نوفي مير” الأدبية المرموقة في عام 1978 مذكرات بتوقيع ( ليونيد ايليتش برجينيف ) ،عن اسهامه في معارك الحرب الألمانية – الروسية ، وبأسلوب أدبي رصين . ثم ظهرت تلك المذكرات بعد فترة قصيرة على نحو أكثر تفصيلا في كتاب تحت عنوان ” الأرض الصغيرة ” يسرد فيه بريجنيف مذكراته عن تلك الحرب ، حيث كان مسؤولاً عن التوجيه المعنوي لأحدى الفرق المقاتلة في الخطوط الأمانية . ثم صدر تباعا الجزء الثاني من تلك المذكرات تحت عنوان ” النهضة ” عن اسهامه في اصلاح البنية التحتية وتطوير الاقتصاد في السنوات اللاحقة للحرب . ثمّ الجزء الثالث ” الأراضي البكر ” عن اشرافه العام على اعمال استصلاح الأراضي في جمهورية كازاخستان الاشتراكية .
استغرب الناس من المستوى الأدبي الرفيع وأسلوب السرد الجميل للثلاثية . ولم يصدق أحد بطبيعة الحال ان ليونيد برجنيف هو الذي كتب هذه الثلاثية فعلاً . ورغم ذلك ، صدر كل جزء منها بخمس عشرة مليون نسخة . وترجمت الى العديد من اللغات الأجنبية ومنها اللغة العربية ، من قبل دار نشر ” بروغريس ” الحكومية ، ودخلت الى المناهج الدراسية في المدارس الثانوية والمعاهد ، وحولت الى افلام سينمائية .وكان الممثل السينمائي الشهير فياتشيسلاف تيخونوف يفرأ فقرات طويلة منها يوميا في التلفزيون المركزي . وأضحت الثلاثية من أشهر الكتب في العهد السوفيتي على الاطلاق .
حكاية الثلاثية
اقترح كونستانتين تشيرنينكو( مساعد السكرتير العام للحزب الشيوعي )على بريجنيف ، بوصفه زعيم الحزب ورئيس الدولة كتابة مذكراته عن جبهات القتال والاعمار. لم يتقبل برجنيف هذه الفكرة في البداية قائلا : ” لست كاتباً ؟ .وكيف اجد الوقت اللازم لكتابتها . غير ان تشيرنينكو قال له :” ان لكل من لينين و ستالين ، مؤلفات كثيرة ، وحتى خروتشوف نشرمذكراته ، فالأجدر باالأمين العام الحالي للحزب ورئيس الدولة ، أن يكتب عن حياته وانجازاته ، تعزيزاً لهيبته ومكانته ، ولوعلى شكل رؤوس اقلام ، ثم يقوم كتّاب آخرون بأضافة التفاصيل الضرورية وإعادة صياغتها بأسلوب أدبي .
وقد وافق بريجنيف على اقتراح تشيرنينكو على مضض ، وكتب مذكراته في صفحات محدودة . ثمًّ طلب تشيرنينكو من ليونيد زامياتين ، المدير العام لوكالة أنباء ( تاس ) تكليف من يراه مناسبا من صحفي الوكالة لإنجاز هذه المهمة ، ومتابعة أعمالهم ، وأن يظل هذا الأمر في طي الكتمان الشديد. وقد إختار زامياتين ثلاثة صحفيين نابهين هم :
اناتولي اغرنوفسكي ، ، الكساندر مورزين ، اركادي ساخنين ، لصياغة مذكرات بريجنيف التفصيلية بأسلوب ادبي مشرق
وكان اغرنوفسكي قد اعد سابقا العديد من خطب بريجنيف على نحو حازعلى إعجابه . كان على المؤلفين الثلاثة السفرعبرأماكن المجد العسكري والبناء الإشتراكي للزعيم السوفيتي. وهناك التقوا بشهود عيان على الأحداث الموصوفة وجلسوا ليكتبوا الجزء الاول من الثلاثية ” الأرض الصغيرة ” خلال مدة لا تتجاوز الشهرين .
كان الزعيم غارقا حتى اذنيه في أدارة شؤون الامبراطورية السوفيتية ، ولكنه وافق على القاء نظرة على المخطوطة عشية إرسالها للطباعة ، وصحح فيها بعض الوقائع . وشطب العديد من الفقرات التي لم تعجبه. ، وصدرت المذكرات في كتاب فاخر الطباعة عام 1979 تحت عنوان ” الأرض الصغيرة ” . وتبع ذلك صدور كتابين آخرين بإسم بريجنيف ، وهما ” النهضة ” , ” الأراضي البكر ” .
وبعد صدور اثلاثية اقترح الشاعر والناقد الأدبي الكسي سوركوف ( 1899- 1983) – الذي كان رئيسا لأتحاد الكتّاب السوفيت . وفي الوقت نفسه رئيساً للجنة تحكيم جائزة لينين في الأدب – منح الجائزة لعام 1979 إلى ليونيد بريجنيف .
وقد اثار فوز بريجنيف بهذه الجائزة الأدبية الرفيعة – كما ذكر آنفاً – سخرية الناس السوفيت ، وحتى زوجة بريجنيف التي قالت له : ” وهل أنت كاتب ؟ ” . لم يكن بريجنيف متحمسا لنشر الثلاثية بإسمه ، ولكن تشيرنينكو ، وليونيد زامياتين استطاعا اقناعه بان يضع اسمه على الكتب الثلاثة .
وبطبيعة الحال تلقى المؤلفون الأشباح مكافآت سخية ، لم يكونوا يحلمون بها . وظلت اسماؤهم لغزا لا يعرفها حتى معظم أعضاء المكتب السياسي للحزب ، ما عدا المنخرطين في هذه العملية .
ثمة عرف شائع في العالم الغربي هو أن يتولى الكتّاب الأشباح كتابة او صياغة مذكرات المشاهير بحرفية تتسم بالسلاسة والجمال ، استنادا الى مذكراتتهم الشفاهية او المدونة .غيران أحدا من هؤلاء المشاهير لم يفز في يوم من الأيام بجائزة أدبية ، مهما كانت متواضعة الأهمية ، ناهيك عن جائزة مرموقة مثل جائزة لينين .
في عام 1987 ، تم سحب كتب بريجنيف من جميع متاجر الكتب والمكتبات العامة واستخدام مئات الأطنان منها كمادة خام في معامل انتاج الورق . حاول مؤلفو االثلاثية النأي بأنفسهم عن هذه العملية . فعلى سبيل المثال ، نفى ساخنين بشدة المعلومات المتعلقة باسهامه في تأليف الثلاثية ووعد بمقاضاة الصحف والمجلات التي نوهت باسمه كمؤلف لكتاب ” النهضة ” ،
ولكن بعد إلغاء الرقابة على المطبوعات في أواخر عهد البريسترويكا ، تم نشر كم هائل من الوثائق السرية ، وكشف النقاب عن اسرار كثيرة ، ومنها كيفية ظهور الثلاثية الى الوجود .
قال الصحفي ألكسندر مورزين (الذي كان يعمل في صحيفة “برافدا” سابقا في مقابلة صحفية أن كتاب ” الاراضي البكر” لم يجلب له ” أموالاً مجنونة “. بل حصل – مع زميليه اغرنوفسكي وساخنين – على وسام الصداقة بين الشعوب . ونفى الشائعات ، التي تقول ، أنه إلى جانب الجائزة ، حصل المؤلفون الثلاثة على شقق في العاصمة موسكو ، وعلى سيارات فولغا.
وأضاف مورزين ، ان الكتاب الذي الفه للزعيم لم يجلب له سوى الكثير من المتاعب خلال فترة البيريسترويكا ، حيث اتهم بالإشادة بفترة الركود وبالمراوغة.
ولا أدري لماذا يتنصل المؤلفون الثلاثة من عمل أدبي رفيع المستوى ؟ .