19 ديسمبر، 2024 7:07 ص

النخبة والأزمة : ظاهرة نكوص الوعي في الوسط الأكاديمي

النخبة والأزمة : ظاهرة نكوص الوعي في الوسط الأكاديمي

تشير معظم الدراسات السوسيولوجية والحفريات الانثروبولوجية والتحليلات السيكولوجية والتأويلات الإيديولوجية، إلى إن معظم شعوب العالم التي يتعرض إيقاعها الوجودي للاختلال ، ويصاب نظامها القيمي بالاعتلال ، ويمنى كبريائها الحضاري بالانخذال ، غالبا”ما تهتزّ صورة الثوابت المعيارية الراسخة في ذهنها عن ذاتها ، ويرتبك نسق الذكريات القارة في وعيها عن تاريخها ، ليس فقط من باب التحرر من غلوّ المسبقات القومية المنسوبة لها ، والانعتاق من تشدّد المسلمات الدينية المفروضة عليها ، والإفلات من تعصّب البديهيات المذهبية المساقة إليها . بل ولربما التخلي عن متطلبات الحصانة الوطنية ، والتراجع عن مقومات الوحدة الاجتماعية ، والتنصل عن مستلزمات الضمانة الأخلاقية ، والتبرؤ من التزامات النزعة العقلانية ، والابتعاد عن موجبات الآصرة الرمزية ، لاسيما في المجتمعات التي خضعت وعانت – لآماد طويلة –  من القمع السياسي والتجويع الاقتصادي والترويع النفسي . ولعل الملمح المتواتر في مثل هذه الحالات ، يفترض إن النخب السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والإيديولوجية – ناهيك بالطبع عن النخبة الأكاديمية مدار هذا الموضوع – في المجتمع المعني ، هي آخر من يلتوي تفكيره وينحرف تصوره وينعطف ولائه ، صوب التخندقات الفرعية والتمترسات الجانبية والاستقطابات التحتية ، قياسا”إلى بقية الشرائح والفئات الأخرى التي يتكون منها ذلك المجتمع ، حيال تلك التصدعات البنيوية والانعطافات التاريخية والانهيارات القيمية والانكسارات النفسية . ليس فقط بواقع إن سيكولوجيا الجمهور غالبا”ما تسيرها العاطفة بدلا”من الحكمة ، وتجيشها الغريزة بدلا”من العقل ، وتستنفرها الفكرة بدلا”من الواقع ، بحيث لا تقدّر جسامة ما تقدم عليه من أفعال طائشة ، ولا تشعر بمخاطر ما تجترحه من مواقف صبيانية فحسب ، وإنما على خلفية إن ما تتمتع به تلك النخب من مستويات علمية رفيعة ، وقدرات تحليلية متقدمة ، وخيارات فكرية متعددة ، وإمكانيات ثقافية متنوعة أيضا”؛ تبعدها عن الشطط في استقراء طبيعة الواقع ، وتقيها الانحراف في تقييم معطياته ، وتجنبها الفشل في معرفة مستوياته ، وتربأ بها عن العجز في استكناه مساراته ، وتحول دونها والإخفاق في استشراف آفاقه ، وبالتالي تعصمها من الانخراط في تلك الضروب من النكوص في الوعي والارتداد في التفكير والانتكاس في السلوك . ونحن إذ نطرح هذا الموضوع للنقاش الموضوعي ، لا نزعم الإيحاء بان هناك (قانون حديدي) يتحكم بآليات هذه الظاهرة ، بحيث لا يتطلب الأمر سوى تشخيص العلة في جانب ، حتى يكون بمقدورنا الاستنتاج بما ستئول إليه أوضاع الجانب الآخر ، ومن ثم التوصل إلى اقتراح الحلول وافتراض المعالجات التي تفضي إلى تسوية الأزمات وفضّ الإشكاليات . وللنأي عن منزلق هذا التصور الاختزالي / التبسيطي ، لابد من الإشارة إلى إن البحث في ميادين الحياة الاجتماعية المتقلبة ، والتنقيب في شعاب تكويناتها المتعرجة ، يستدعي – ابتداء – الانطلاق من حقيقية مؤداها ، انه حتى وان تسلح المرء بالمنهجية الجدلية ، لبيان مستوى التفاعلات وتحديد مراكز الصراعات ومعرفة أنماط العلاقات ، فان الإقرار باستحالة استخلاص ما هو مجهول مما هو معلوم ، واستنتاج ما هو غائب مما هو حاضر ، يغدو مدخلا”معرفيا”لا غنى عنه ومطلبا”منهجيا”لا ينبغي التفريط فيه . ذلك لأن الأمر منوط – أولا”وأخيرا”- بإرادة الإنسان كصانع للتاريخ ومبدع للحضارة ، فضلا”عما يجيش في وعيه من إرهاصات وما يعتمل في وجدانه من نزعات . ولذلك فان احتمالات حدوث العكس في مضمون طرحنا تبدو وجيه إن لم تكن ممكنة ، لماذا ؟ ! . للردّ على مثل هذا الاعتراض نقول ؛ عندما نتحدث عن مظاهر الهيجان النفسي والتحنيط الفكري والتنميط السلوكي ، التي تسم الحشود وتميز الجمهور ، مقارنة بأشكال التحفظ المشوب بالتردد وأنواع الكياسة الممزوجة بالرغبة ، التي تند عن النخب المذكورة حيال هذه القضية أو تلك المسألة لمختلف الدواعي والدوافع ، فإننا لا نحاول بالمطلق أن نبرأها من الوقوع تحت وطأة ظاهرة النكوص في المجالات التي ينبغي إن تكون فيها مضرب المثل في نواحي المواجهات الايجابية ؛ كما في الدفاع عن الهوية الوطنية ، والحضّ على الاستقامة الأخلاقية ، والالتزام في تحمل المسؤولية ، والصمود في وجه الإغراءات المصلحية ، والتسامي عن الاغواءات الفئوية ، أو في أنشطة المواجهات السلبية ؛ كما في البسالة عند مواجهة النزاعات العدوانية ، والصلابة في التصدي للفزعات القبلية ، والمثابرة في مقارعة النعرات العصبوية . بل لا ينبغي إن نسقط من حسابنا توقعات ، إن العكس قد يحصل في بعض الحالات الشاذّة والظروف الاستثنائية ، التي تبدأ فيها حالة التداعي من قمة الهرم وليس من قواعده ، بحيث إن سرعة تساقط الأولى يقلص آماد تصدع الثانية . وهو ما دفع بالمفكر (برهان غليون) للبرهنة عليه ضمن كتابه (مجتمع النخبة) حين اعتبر إن ((المسؤول عن الإخفاق الاجتماعي والقومي ليس ما يعتقد بأنه محافظة فكرية دينية للجماهير الشعبية ، وهذه بذاتها نظرة فاشية تعتبر الشعب بطبيعته محافظا”، وهو على العكس من ذلك ، القوة الأكثر اندفاعا”وشوقا”للتغيير المادي ، ولكن البلادة والجبن والتفكك العقلي للنخبة القائدة للمجتمع . إن المسؤول هو الإيديولوجية القائدة ، إيديولوجية الفئة الاجتماعية القائدة ، التي لم تستطع أن تكتسب العلم الغربي وتتمثله ، أو تستوعب وتدمج وتثوّر الإيديولوجية التقليدية الخاضعة ، المسحوقة في أغلب الأحيان . وأن الهزيمة الفكرية ، لم تكن هزيمة دين البسطاء الإيماني العفوي والفقير ، وإنما دين الساسة (العلماني) الذي لم يكن فيه من العلمانية إلاّ عقلنة كل ما هو عشائري ودنيوي ، وأناني ووضيع)) . ونحن وان كنا لا نمحض تأييدنا المجاني لكل ما رود في هذا المقطع من تحليل قطعي واستنتاج أحادي، فانه لا بأس من الاستئناس بمضمون فكرته الرامية إلى إدانة النخبة ونقد استخذائها إزاء التحديات المصيرية ، التي تحيط بالكيان السياسي العربي لتشل إرادته وتغل تفكيره . الشيء الذي نحاول هنا أن نقيم الدليل عليه بالاعتماد على معطيات النموذج العراقي ، الذي لا شك في كونه سيغدو معيارا”للمقايسة والمقارنة في التجارب المماثلة إن حصلت في المستقبل . وللوقوف على خلفيات انتعاش هذه الظاهرة لدى معظم مكونات المجتمع العراقي بشكل عام ، وإماطة اللثام عن محفزات انتشارها في الأوساط الأكاديمية بنحو خاص ، لا بد لنا من مراجعة خاطفة وقراءة سريعة لطبيعة الأوضاع السياسية وخاصية الظروف الاجتماعية ، ونمط الملابسات التاريخية ، التي رزحت تحت وطأتها وارتشفت رحيق علقمها ، مختلف شرائح الشعب العراقي وفئاته طيلة تلك العقود العجاف ؛ حيث أطرت وعيها وعلبت تفكيرها ونمذجت سلوكها وقننت علاقاتها ، مما استتبع ضمور ثوابتها الوطنية ، واضمحلال مرجعياتها الرمزية ، وتلاشي روابطها المصيرية . ولعل هناك من يعترض علينا – وهو محق- بسؤال لا يخلو من وجاهة مفاده ؛ لماذا يا ترى إن الذي حصل هنا لم يتمخض عن ذات النتائج المروعة لدى مجتمعات أخرى هناك ، تعرضت لمثل ما تعرضنا له من غزو واحتلال ، ولحق بها مثلما لحق بنا من دمار وخراب ، وأصابها مثلما أصابنا من نوازل وزلازل ، واكتوت مثلما اكتوينا بانحطاط النفوس وفساد الضمائر؟! . ولكي لا تبدو الفكرة التي ندافع عنها هنا كما لو أنها تناقض مضمونها ، حين نضع أوزار ما أصاب العراق كوطن وتاريخ وحضارة ، على عاتق مجمل مكونات شعبه (أفراد وجماعات ، خاصة وعامة ، حكّام ومحكومين) ، بحيث يبدو وكأنه الوحيد في مضمار الإساءة لذاته ، والمتفرد في مجال الطعن لكيانه ، هذا في حين لم نتوانى في التحذير من مغبة الانجرار خلف تبسيط المعقد من الظواهر واختزال المركب من القضايا . فإننا نسارع للقول ؛ انه لا يوجد هناك عاصم أو مانع يحول دون انفراط عقد الاجتماع السياسي والمدني لشعب من الشعوب ، بحيث يتصرف على ذات النحو الذي أظهره الشعب العراقي حين داهمته العواصف واجتذبته الأعاصير، فيما لو جرت عليه نفس السيناريوهات التي خضع لمختلف أشكالها وضروب أنواعها هذا الأخير ؛ طغيان سياسي مزمن ، وحرمان اقتصادي متوطن ، وامتهان اجتماعي معتق ، وارتهان إيديولوجي متطاول . بحيث تغدو جميع التصرفات مباحة رغم مجافاتها للواقع ، وكل المواقف مشروعة برغم مخالفتها للمنطق . ولما كان متعذرا”- على الصعيد الاجتماعي – تكرار التجارب بكل تفاصيلها واستنساخ الممارسات بكامل خطواتها ، فان رصد خصائص التجربة العراقية من هذا المنطلق ، وتشخيص المميزات النوعية التي انطوت عليها ، يغدو مشروعا”من الناحية النظرية ولا غبار عليه من وجهة النظر الواقعية . علاوة على ذلك ، فانه إذا كان للتجربة الأوروبية من معنى في هذا الباب ، خصوصا”لجهة المواقف الفكرية والممارسات النقدية التي اجترحتها النخب الأكاديمية وغير الأكاديمية ، حيال ما تمخضت عنه وترتبت عليه حقبة الصراعات الدينية / الطائفية والحروب السياسية / القومية ، التي عصفت بالمجتمعات الغربية طيلة القرون الممتدة من السادس عشر وحتى منتصف العشرين . فإننا سوف نلمس سعة البون وبعد الشقّة بين خصائص وكيفيات هذه الأخيرة ، مقارنة بنظيرتها العراقية التي واجهت نسبيا”ظروفا”مشابهة وأوضاع متقاربة ، لاسيما ردة الفعل إزاء مظاهر التهويم السياسي والتلغيم التاريخي والتقسيم الجغرافي والتأثيم القومي والتحريم الديني والتجريم الطائفي . ففيما شرعت النخب الغربية بإخضاع كل القيم الاجتماعية والمعتقدات الدينية والتصورات الفلسفية ، لنقد عقلاني صارم لم يقتصر فقط  على الظاهر من السياسة ، والمباشر من الاقتصاد ، والملموس من الاجتماع ، وإنما طال المخفي من التاريخ ، والمغيب من الوعي ، والمطمور من الثقافة ، والمحظور من الدين ، والمستور من المخيال . لا لكي تعيد سيرتها الأولى في مضمار الحاضر لاستثمار مخزونها وتوظيف طاقتها في أتون التخندقات والصراعات ، بغية جني المكاسب الشخصية والظفر بالامتيازات الفئوية . وإنما لأجل أن تكشف النقاب عن أساطيرها ، وتميط اللثام عن خرافاتها ، وتزيح الستار عن أوهامها ، وترفع الغطاء عن أباطيلها ، ليصار لاحقا”إلى استئصالها من الأذهان واجتثاثها من الذاكرة ، وهو الأمر الذي حصل بالفعل . هذا في حين استأنفت نخبنا الأكاديمية ، بعد فترة سبات وترقب ، نشاطها لا لكي تربأ بذاتها عن مظاهر التكالب السياسي والتغالب الحزبي والتجاذب القبلي والتصالب الاثني ، وتدرء بالتالي ظواهر التصدع الاجتماعي والتعصب القومي والتكفير الديني والعنف الطائفي . وإنما لتزاحم السياسيين في ركوب الموجة ، وتنافس المتدينين في اعتلاء المنابر ، وتزاحم المضاربين في توزيع المناصب ، وتساوم المفسدين في تقاسم الأسلاب . والآن لماذا يتساقط ثلة من نخبنا الأكاديمية ورموزنا الثقافية الواحد تلو الآخر ، مفضلين الانخراط في لعبة المحاصصات القبلية بدلا”من واجبات المسؤولية الوطنية ، والاندساس في أتون  التكتلات الطائفية بدلا”من نشاطات التوعية الثقافية ، والانضواء تحت لواء الدكاكين الحزبية بدلا”من الاحتماء خلف عرين المؤسسات العلمية ، خلافا”لكل ما هو متوقع منها ومعول عليها في مثل هذه الأحوال والمناسبات ؟! . الواقع إن لهذه الظاهرة أسبابها الوجيه ودوافعها المبررة ؛ لا بالمعايير الأخلاقية والمعرفية ، وإنما بالمعايير السوسيولوجية الانثروبولوجية ، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار إن الطبقة الوسطى هي البيئة المناسبة والمحيط الملائم لإنتاج النخب وتنمية أصنافها وتناسل أنواعها ، كائن ما كان المجتمع المعني من حيث طبيعة عناصره وماهية مكوناته ، أو من حيث نمط حراكه ومستوى تطوره . قد تولد بعض أشكال النخب خارج إطار هذه البيئة النموذجية ، كما هو حاصل في أغلب بلدان العالم المتخلف ، نتيجة لمتطلبات ما تسميه ادعاءا”نموها الاقتصادي ، وما تزعمه افتراءا”نهوضها الحضاري ، وما تفتريه باطلا”تقدمها العلمي وتطورها التكنولوجي ، لمجرد أنها احتكت بمؤثرات العالم المتقدم وتعرضت لوابل قيمه ورشقات أفكاره . إلاّ أنها تبقى – برغم ذلك – رخوة في وعيها ولدنة في مواقفها وضعيفة في إرادتها ومتقلبة في خياراتها ، وهو ما يجعلها لا تنتج الأفكار بقدر ما تستهلكها معلبة ، ولا تبدع النظريات بقدر ما تتبناها جاهزة . ذلك لأنها نبتت على ضفاف المجتمع لا في رحمه وترعرعت عند تخوم الواقع لا في صلبه ، بحيث أنها نمت كما ينمو نبات الفطر بين الأحراش وتحت الأشجار، تمتح – كما الطفيلي – نسغ وجودها من جذور هذه وأصول تلك ، وهذا ما يفسر لنا جزئيا”انتشار ظواهر ترييف السياسة وتطييف المجتمع  . والجدير بالملاحظة إننا هنا لا نستعرض أفراد معينين بقدر ما نحلل ظاهرة يشكل استشرائها في المجتمع العراقي وباءا”مميتا”، يتهدد الكيان الوطني مثلما يتهدد الوجود الاجتماعي حاضرا”ومستقبلا”، وهو ما نأمل أن يدرك القارئ مغزاه ويتفهم دوافعه ، لاسيما ونحن نحاول تسليط الضوء – بالدرجة الأساس – على الأسباب الموضوعية دون الخوض في البواعث الذاتية ، التي وان كانت قوية الحضور وشديدة التأثير في هذه المسألة ، إلاّ أنها لا تشكل هاجس موضوعنا الراهن ، بقدر ما تعتبر دعامة لإسناد فكرته ودعم طروحاته . ومن هذا المنطلق نستطيع القول إن الطابع الاستبدادي/ الدكتاتوري لأنظمة الحكم في مجتمعات بلدان العالم الثالث ، كانت المسؤول الأول والمباشر عن تردي أحوال النخب وما آلت إليه أوضاعها ، من شحة في العطاء وندرة في النبوغ وهزال في المعارف وتذرر في المواقف ، إدراكا”منها لأهمية دورها وخطورة وظيفتها ، سواء فيما يتعلق بتنمية الوعي الاجتماعي ، عبر تطهيره من الخرافات العنصرية والأوهام الطائفية والأصنام القبلية ، أو فيما يتصل بتعزيز أواصر الوحدة الوطنية ، من خلال التأكيد على مشروعية ؛ التغاير في الأقوام ، والتنوع في الثقافات ، والاختلاف في الأديان ، والتباين في المذاهب ، والتعدد في اللغات . وهكذا فقد أجهزت تلك الحكومات المتخلفة بوحشية لا تحسد عليها ، على حواضن طبقاتها الوسطى لوئد أجنتها واستئصال براعمها ، دون أن تتوانى عن تقويض كل من شأنه تسهيل نموها وتعجيل تطورها ، حارمة بذلك مجتمعاتها البائسة بمختلف فئاتها وقطاعاتها من أكثر عناصر بنيتها الفوقية جدوى وفاعلية . إذ كان من الممكن أن تسهم – هذه النخب – في حل أزماتها المستعصية وتسوية مشاكلها المزمنة من جهة ، وتساعد ، من جهة أخرى ، على استقرار نظامها السياسي ،  وتقدم نشاطها الاقتصادي ، وتطور وعيها الاجتماعي ، ورقيّ مستواها العلمي ، ونهوض صرحها الحضاري . وقياسا”على ذلك فقد استطاع نظام الحكم السابق ، التغلب على جميع الأنظمة التي على شاكلته ، من حيث تجفيف بؤر الوعي ومحق مراكز الثقافة ، كما ويبزّ كل الحكومات التي على طرازه ، من حيث العمران المادي للمجتمع (مصانع وطرق وجسور وأبنية) ، وتقوية سلطان الدولة (عسكرة جميع المرافق والقطاعات) ، دون الاهتمام بالبناء الروحي للإنسان (تسطيح وعيه ومسخ شخصيته ونسخ ثوابته وتحريف ثقافته) ، وما قد يتمخض عن ذلك الإهمال من عواقب ليس أقلها فقدان المعيارية الوطنية ، وتفكك الضوابط القيمية ، وتصدع القواعد الإنسانية ، وهي من جملة المعالم والملامح التي باتت تدلل على طبيعة المجتمع العراقي بعد أحداث السقوط . ولهذا فليس من الغريب أن نفاجئ بحالات من الانعطاف الفكري والتحول السياسي بلغت عند بعض عناصر النخبة المعنية (180) درجة ، لاسيما أولئك الذين كان يظن بأن درجاتهم العلمية وخلفياتهم الفلسفية وقناعاتهم المبدئية ، كافية لكي تعصمهم من الانحراف وتحميهم من الانجراف . ولذلك فقد استحال ليبراليّ الأمس إلى دكتاتور متوحش ، يمجد التعصب القومي ويقدس التطرف الديني في الوقت الحاضر ، عسى أن يتبرأ من (أخطائه) الماضية ويستحق التوبة . وانقلب ماركسيّ الأمس إلى داعية ديني مسعور ، يبرر الأساطير الطائفية ويسوغ الخرافات القبلية في الوقت الحاضر ، عسى أن يكفّر عن (إلحاده) السابق وينال الغفران ، حتى إن البعض منهم – إثباتا”لحسن نيته المعلنة وصدق ولائه الجديد –  لم يتردد بتضمين خطاباته (العصماء) وتطعيم تصريحاته (القيمة) ، ببعض النصوص والأحاديث الدينية ذات الطابع المؤمثل في السيكولوجيا الاجتماعية . ولأن سياسات غسل الدماغ السابقة وإجراءات إقصاء العقل اللاحقة ، تركت ذهنية النخبة العراقية أرض رخوة وجرداء ؛ رخوة لأنها لم تعد تبدي أي نوع من أنواع الممانعة حيال طفيليات الحمية الجاهلية (تعصب اقوامي ، وتطرف طوائفي ، واستقطاب قبائلي ، وتفاضل مناطقي) ، وجراثيم النزعة الأنانية (الاثرة الذاتية ، والمغالبة الشخصية) . وجرداء لكونها أضحت لا تصلح لإنبات قيم المواطنة ، ولا تساعد في نمو الشعور بالمسؤولية الجماعية ، ولا تشجع على ديمومة الانتماء الوطني . وهكذا ، وبدلا”من أن تكون ظاهرة نكوص الوعي في الوسط الأكاديمي مدعاة للإحراج ، وهو ما يستلزم الشروع بممارسة نقد الأوهام السوسيولوجية وتحطيم الأصنام الإيديولوجية ، باعتبارها العوامل المفضية إلى حصول ذلك النكوص والانكفاء ، والإسراع من ثم في تصحيح المسار وتقويم الرؤية . أصبحت بالنسبة لها باعثا” للزهو ودافعا”للمفاخرة ، ليس فقط على مستوى  طقوسها البدائية ، أو شعائرها العصبوية ، وإنما على صعيد ولائها الديني / الطائفي ، وانتمائها السياسي / القومي ، وخطابها الفكري / الإيديولوجي ، ومخيالها الثقافي / الرمزي ، وجهازها المفاهيمي / اللغوي .  

أحدث المقالات

أحدث المقالات