يُمثّل ميزان القوى، الداخليّة والخارجيّة، الحدّ الفاصل ما بين الدولة المؤثّرة والدولة الهامشيّة.
ويعتمد حجم تأثير أيّ دولة على موقعها الجغرافيّ والاقتصاد وتحالفاتها السياسيّة والعسكريّة وغيرها من القدرات، وجميع هذه العوامل الجوهريّة متوفّرة بوضوح في العراق اليوم.
ومع ذلك فحديثنا ليس عن ثقل العراق في توازن القوى الإقليميّ، أو الدوليّ وإنّما سنركّز على ميزان القوى الداخليّ!
المشهد العراقيّ السياسيّ والأمنيّ شائك لدرجة الغموض، وذلك بسبب الخلافات حول ميزان القوى، فضلا عن التصارع بشأن نتائج الانتخابات البرلمانيّة والضغوطات الكبيرة على المحكمة الاتّحاديّة، والتهديدات المستمرّة بضرورة انسحاب القوّات الأمريكيّة بعد نهاية العام الحاليّ!
حالة التشابك وضعت الجميع أمام جملة تساؤلات ربّما من أهمّها:
مَنْ الذي يتحكّم بالملفّات الأمنيّة ويحكم العراق؟
وفقا للدستور يُعدّ رئيس الوزراء هو القائد العامّ للقوّات المسلّحة، ولا يمكن تنفيذ أيّ مهمّة، أو تحريك لأيّ قطعات عسكريّة إلا بموافقته، وأنهّ، وبموجب القوانين العسكريّة، يفترض طاعة أوامر القيادة العامّة!
وحاليّا هنالك تفاهمات عراقيّة – أمريكيّة لإعادة تموضع قوّات الاحتلال الأمريكيّة تحت عناوين جديدة، ومنها المشورة والتدريب، وهذا (لا يروق) للقوى المالكة للسلاح، والتي هي جزء من منظومة وزارة الدفاع!
الحديث الحكوميّ والأمريكيّ عن الانسحاب العسكريّ، مجرّد دعاية مجّانيّة لجميع الأطراف ذات العلاقة، وستبقى واشنطن المتحكّم الأبرز في عموم الملفّات، والكلام عن انسحابها هو رسائل تمويه للفصائل الولائيّة التي تدّعي مقاومة التواجد العسكريّ الأمريكيّ!
وقد ردّ المتحدّث باسم العمليّات المشتركة تحسين الخفاجي، يوم الثلاثاء الماضي، على التهديدات الموجّهة ضدّ (قوّات التحالف) وتصريحات مسؤول كتائب سيّد الشهداء أبو آلاء الولائي، بقوله إنّ “القوّات العراقيّة ملزمة بحماية قوّات التحالف، وستواجه أيّ تهديد يقوّض أمن تلك القوّات”.
وتسعى القوى غير الرسميّة للتحكّم في ميزان قوى الدولة، وليس فقط تملّصهم من سطوة القوانين العسكريّة والمدنيّة، وقد أصبحت فاعلة وبقوّة لدرجة أنّها صارت تقبل عناصر الحشد الشعبيّ في الكلّيّة العسكريّة بموجب شروطها الخاصّة بها، والتي نشرتها رسميّا قبل أسبوع تقريبا، ثمّ تُرسل أسماء المرشّحين للكلّيّة، ويتمّ قبولهم بلا نقاش أو اعتراض!
فما هو دور وزارة الدفاع ورئاسة الكلّيّة إذا كانت القبولات تتمّ من قوى تريد التحكّم بالبلاد بالترهيب الكمّيّ والنوعيّ؟
فكيف تُبنى الدولة وسط هذه الأدغال المظلمة، والمليئة بالعصابات والقوى المتمرّدة على القانون والنظام؟
ومَنْ يمكنه كبح جماح تلك الفصائل، وهل هي ضمن المنظومة الأمنيّة أم هي تقتات على موازنات العراق وتنفّذ أجندات خارجيّة؟
الأسوأ من ذلك فإنّ قوى الدولة العراقيّة تعاني حاليّا من قصور وعجز وتراخي واضح في فرض إرادة السلطة، وهنا تكمن العقدة الكبرى في مشاكل السياسة والأمن والاقتصاد والاجتماع، وذلك لأنّ الدولة الضعيفة تُستغل من عشرات القوى العبثيّة والتي تسعى لضرب القانون، والفساد في الأرض!
ولا نعلم هل تناحر تلك القوى يهدف لتحقيق معادلة في ميزان القوى بينهم وبين (الدولة)، أم هو تشابك وتنافر للحفاظ على مصالح الغرباء على حساب مصالح الوطن، والسعي للمشاركة في حروب داخليّة وإقليميّة بالوكالة، وبأموال وقوّات محلّيّة؟
إنّ تآكل ميزان القوى داخليّا، وتهشيم دور السلطات التنفيذيّة والقضائيّة سينعكس على ميزان القوى خارجيّا، وهذا ضرب لمفهوم الدولة، والعجيب أنّ نفس المحطّمين للدولة يتحدّثون عن احترام القانون وصيانة الدستور!
والحقيقة لا يمكن التنسيق بين تصرفات وتصريحات قوى اللادولة المتناقضة، ويفترض بمَنْ يتكلّم عن قوّة الدولة أن يحترم القوّة القانونيّة المنضبطة، وإلا فهذه قوى سرطانيّة يجب استئصالها من جسد الدولة الصحيحة!
لقد أثبتت مجريات الأحداث أنّ التناحر العراقيّ القائم ليس خلافا وطنيّا أو عقائديّا، بل هو خلاف ضبابيّ حزبيّ وشخصيّ غير سليم وقد مُزِج عُنوة بالخطابات الدينيّة والوطنيّة!
سياسة توازن القوى أو توازن التهديدات بحاجة إلى قوّة عادلة، وقدرة على الضرب في الوقت المناسب لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، وترميم الخراب، وضبط معادلة موازين القوى لبناء الدولة ونهضتها من بين الركام، ومَنْ يدّعي ترتيب معادلة القوى بغير هاتين القوتين فجهوده مبعثرة ولا يمكنه بسط الأمن وبناء الدولة!
تناحر القوى العراقيّة في الميدان الداخليّ سيبقي واشنطن من الفواعل الأقوياء داخل العراق، بعيدا عن فرضيّات الانسحاب الكامل، والتي هي مجرّد حقن تخديريّة منتهية الصلاحيّة، لا أكثر ولا أقلّ!
dr_jasemj67@