قبيل أيام قليلة من الانتخابات الأمريكية في نوفمبر من العام 2016 نشرت الصحفية الأمريكية المرموقة آمي غودمان خبر تبرع العاهل المغربي للمؤسسة التي تملكها عائلة المرشحة هيلاري كلينتون بما يعادل 12 مليون دولار، في وقت سابق قبل ترشحها رسمياً لمنصب الرئاسة في الولايات المتحدة، لكي تتعطف بإلقاء كلمة في مدينة مراكش، والتي بدت لها بأنها بعيدة وغير ذي قيمة فآلت أن تأخذ الملايين كلها، وترسل بدلاً عنها ابنتها تشيلسي لتتحدث بالنيابة عنها، وتتمتع بالسياحة في المغرب المكلوم آنذاك بتراجيديا «شهيد الحكرة» الذي لا ندري كم كانت تلك الملايين، وغيرها الذي لم ولن نعرف عنها، كافية لإنقاذه من أنياب الفقر ومخالب الهرس الاجتماعي والاقتصادي الذي جعل الحلم المثالي للمواطن المغربي هو الهجرة غير الشرعية للقعود لاجئاً في أوربا يجاهد للبقاء على قيد الحياة في مواجهة آلة التهشيم العنصرية التي بدأت بإظهار وجهها القبيح مؤخراً في أوربا.
يشرح المفكر الاقتصادي يانس فاريوفاكيس في كتابه المهم «الغول الكوني» التحول في آلية صناعة الثروة وتخزينها واستثمارها في العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويلخصه بتوقف الولايات المتحدة في سبعينيات القرن الماضي، عن كونها المنتج الاقتصادي للثروة في العالم، وصاحبة الميزان التجاري الأكثر ربحية في العالم، وانتقال ذلك السبق إلى مراكز أخرى في العالم أولها أوربا واليابان، متبوعة بالصين، ثم الدول المنتجة للثروات الطبيعية، وعلى رأس تلك الأخيرة الدول العربية المنتجة للنفط. ولكي تتفاعل الولايات المتحدة مع تلك الأزمة كانت لابد من اصطناع نظام اقتصادي كوني قائم على مبدأ العولمة تنتقل فيه الثروة المتراكمة خارج الولايات المتحدة إليها سواء عنوة بقوة السلاح والترهيب كما في حالة اليابان وكوريا الجنوبية، وإن بدا للناظر غير ذلك، أو باصطناع حكومات شكلية في دول قمعية حكّامها لا يزيدون من الناحية الوظيفية عن مستوى المفوض السامي لمستعمريها المضمرين ظاهرياً، واجبهم الأول والأسمى تهريب الثروات الوطنية إلى أحشاء الآلة الرأسمالية الأمريكية سواء في بنوكها، أو سندات خزينتها شبه المفلسة منذ عقود، والمعتاشة على سياسات التيسير الكمي التي هي بحسب توصيف العالم جوزيف ستيغليتس الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد «ليست سوى علاج بالكورتيزون لإخفاء المرض الحقيقي»، مشخصة بطبع كميات هائلة من الدولارات بقدر ما تطلبه الكرة الأرضية جمعاء كونه عملة التبادل العالمي، دون أن يكون لذلك سند حقيقي من الناحية العلمية في الناتج الاقتصادي الأمريكي الفعلي.
ويقودنا ذلك التوصيف الأخير إلى الحقيقة المرة التي تمثلت في خسارة صناديق الثروة السيادية للدول الخليجية ما يقارب نصف ثروتها السيادية التي كانت حوالي 1.5 تريليون دولار في العام 2007 جراء الأزمة الاقتصادية التي سببتها «اقتصاد البلطجة الأمريكي» بحسب توصيف المفكر نعوم تشومسكي، دون أن يتمكن أي منها من اتباع سياسات التيسير الكمي التي اتبعتها الدول التي يعتبر صندوق النقد الدولي عملاتها أدوات للتبادل العالمي وهي الدولار الأمريكي، واليورو، والين الياباني، والجنيه الإسترليني، فطبعت بموجب ذلك العرف المجحف ما تجاوز 12 تريليون دولار بحسب الباحث الاقتصادي المرموق بول ماسون دون أي مسوغ منطقي لتلك الكميات المهولة مما يدعوه الباحث الأخير «المال الرخيص المسنود بالقوة وليس الإنتاج الاقتصادي الحقيقي». وبحيث لم يكن لتلك الدول الخليجية سوى لعق جروحها، والقبول بحظها العاثر الذي استمر وترسخ إلى درجة أن واحدة من تلك الدول لم تعد تستطيع حتى تنفيذ تهديداتها ببيع استثماراتها في سندات الخزينة الأمريكية، بعد أن استصدر الكونغرس الأمريكي قانوناً مخالفاً للقانون الدولي يحق بموجبه للمواطنين الأمريكيين مقاضاة تلك الدولة العربية بعينها في المحاكم الأمريكية، وإلزامها بدفع تعويضات لهم جرّاء ما يظن من علاقة لها بدعم الإرهاب بحسب التوصيف الأمريكي، وذلك لسبب واقعي محض هو أنّها لا تستطيع تحمل الخسارة الفادحة من الناحية الاقتصادية في بيع تلك الاستثمارات التي قيمتها السوقية الفعلية حالياً، منظوراً إليها وفق معادلة قياس الثروة الحقيقية حسب معدل التضخم التاريخي لعملة الدولار الأمريكي، ففضلت القبول بالأمر الواقع كما هو الحال دائماً.
وتذكرنا قيمة الخسارة الاقتصادية الهائلة في ثروات العرب تلك، بالقيمة المهولة لفاتورة حربي الخليج الأولى و الثانية التي وصلت حسب الباحث البريطاني المرموق مارك كورتيس حوالي 850 مليار دولار، بمعادلة لخصها المفكر فاريوفاكيس المشار إليه آنفاً: «بأنهم يستخرجون الثروات من باطن الأرض –وهو يعني الدول المنتجة للنفط– ونحن في الغرب نبيعهم أسلحة وحروباً مقابل تلك الثروات»، وهو واقع حقيقي مرير في ضوء الإنفاق المهول على ميزانيات التسلح عربياً حتى أصبحت دولة عربية في المستوى الرابع كونياً بمتوسط إنفاق سنوي خلال السنوات الخمسة الأخيرة تجاوز 80 مليار دولار، وقد يتجاوز ذلك بكثير جراء كلفة حرب الفخار الذي يكسّر بعضه بعضاً في اليمن الحزين.
ولا نستطيع أيضاً نسيان مأساوية التدمير الذاتي للثروات العربية المستدامة في أرضها التي زرعها أبناؤها منذ آلاف السنين كما هو الحال في الساحل الشمالي في مصر المكلومة، والتي كانت مورد القمح لأهلها، و للإمبراطورية الرومانية، فأصبحت الآن موطناً لاستثمارات سياحية خلبية، معظم ملاكها هم من طبقة الكومبرادور الرخيص الذي همّه الوحيد تهريب ثروته إلى الموئل السرمدي لثروات العرب في أحشاء الماكينة الرأسمالية الغربية، بالتوازن مع إهمال تاريخي لأي جهود حكومية فعلية للتنمية الزراعية، و الحضرية، ومشاريع الري في الساحل الشمالي الغني بأرضه والفقير فقط بإيلاء الاهتمام الذي يستحقه واقعياً واستراتيجياً.
وفي نفس السياق نتذكر تراجيدياً بيع حقوق الصيد البحري في المياه الإقليمية العربية على شواطئ المحيط الأطلسي لبواخر الصيد البرتغالية، والإسبانية لتصطاد منها أسماكاً تقف قيمتها السوقية آلافاً مؤلفة مما دفعته للحكومات العربية من فتات مالي لقاء احتفاظها بحق الصيد في مياهها الإقليمية، هو ما لم يفلت من مخالبها ولعقود طويلة.
ما هي سيارة القمامة التي هرست جسد، وروح وأحلام الشهيد المغربي المقهور المظلوم الذي عرف باسم «شهيد الحكرة» إلا تَجلٍ لذلك الغول الغرائبي الذي ما زال يلتهم ثروات العرب، ومستقبل أبنائهم منذ استقلالهم الشكلي عن مستعمريهم القدماء الجدد، ولا خيار لهم في الإفلات من شراكه إلا بتغيير ما بأنفسهم، وبأيديهم فقط!