خاص : بقلم – محسن الميرغني :
تُعاني “وزارة الثقافة” المصرية من أزمة كبرى في الوصول بأنشطتها ومشاريعها الفنية والثقافية إلى كافة المواطنين المصريين، في مختلف المحافظات والمدن والقرى، رغم ما تملكه من جهاز بيروقراطي ضخم، يُفترض به أن يعمل على تنفيذ رسالة ورؤية الوزارة، التي تهدف إلى: “تعزيز قيم المواطنة، وتعميق الولاء والانتماء للهوية المصرية، والإرتقاء بشتى المجالات الثقافية والفنية، وتنمية الموهوبين والمبدعين، ودعم الصناعات الثقافية ونشرها دون تمييز”.
لكن هذا العدد الكبير من الموظفين، بالإضافة إلى ترسانة التشريعات والقرارات الوزارية والقوانين التي صُدرت خلال ما يزيد عن 63 سنة، ليست عناصر كافيه لتحقيق أبسط أهدافها وأكثرها إيجازًا وهو: “العدالة الثقافية دون تمييز”، وهو الحق الذي أقرته “الأمم المتحدة” في المادة (27) من “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”؛ الصادر عام 1948، وينص على أنه: “لكل فرد الحق في أن يشترك اشتراكًا حرًا في حياة المجتمع الثقافي وفي الاستمتاع بالفنون والمساهمة في التقدم العلمي والاستفادة من نتائجه”.
فمنذ نشأة الوزارة، وتعقيدات البيروقراطية تُسيطر على كافة القطاعات والهيئات العاملة في مجالات الفنون والثقافة المصرية، وتُمثل حاجزًا كبيرًا أمام أي محاولة لإتمام هذه المهمة المعلنة، أشبه، حسب وصف “أسامة الباز” [1]، بالوحش: “القادر على ابتلاع أي مبادرة أو ابتكار وتحويله إلى لا شيء”.
وبداية من ستينيات القرن الماضي وحتى السنوات الثلاثة الماضية، عملت الدولة ممثلة في وزارة ثقافتها على إخضاع جميع الكيانات العاملة بمجالات الثقافة والفنون لرقابتها، بحكم أنها الجهة التي تمنح حق ومشروعية التواجد في المجال العام لفئات مختلفة من النخب الثقافية، تُدين بالولاء للمؤسسة وما تُقدمه لهم من مميزات وخطط وسياسات، وتلفظ خارجها كل من يختار فكرًا أو رأيًا مخالفًا لرأي النظام السياسي، من خلال تفعيل قدرتها البيروقراطية الاستباقية على المنع والمصادرة، وإلزام المبدعين في مختلف مجالات الإبداع الثقافية والفنية والأدبية بضرورة الحصول على موافقات وتصاريح وتراخيص قبل الشروع في نشر وتوزيع أعمالهم وتقديمها نشرًا وعرضًا لجمهور المواطنين.
كيف تشكلت “وزارة الثقافة” ؟
قبل تموز/يوليو 1952، لم تعرف “مصر” وجود وزارة متخصصة للثقافة، بل مجموعة من المؤسسات المصرية العاملة بالمجالات الثقافية مثل: “مصلحة الآثار المصرية” التي أنشئت في 1825، و”دار الأوبرا الخديوية” التي أنشئت في 1869، و”دار الكتب والوثائق” التي تأسست في عام 1870، بالإضافة لـ”مسرح الأزبكية”، الذي أعيد إنشاؤه مرة أخرى، في 1920؛ ويُعرف حاليًا بـ”المسرح القومي”.
وكانت حركة الثقافة والفنون في “مصر”، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بدأت في النمو والإزدهار، في شكل إسهامات متفرقة لأفراد يعملون في الصحافة أو التعليم، ويأملون في خلق تيار عام من الاستنارة والتحديث لأفكار وقيم المجتمع المصري، ومن ثم تضافرت تلك الجهود مع وجود المؤسسات الثقافية التي تأسست في خلق مساحة من التقدم للأمام في التاريخ، تُظللها رغبة قوية في التحرر من الاستعمار البريطاني، آنذاك، وهو ما تمثل في ظهور حركة صحافة مصرية ناشطة وجادة، وكذلك ظهور تجارب البدايات الأولى في المسرح المصري الحديث (تأليفًا وتمثيلًا وإخراجًا)، وكذلك التجارب السينمائية الأولى التي واكبت ظهور السينما في الغرب الأوروبي وأميركا طوال العشرينيات والثلاثينيات، مع إتمام إنشاء “الجامعة المصرية الحديثة” خلال سنوات الربع الأول من القرن العشرين.
تواصلت الجهود الفردية التطوعية لأفراد مستنيرين مع المحاولات المؤسسية المقيدة بوجود سلطة للاحتلال الأجنبي، حتى وقت قيام ثورة يوليو، لكن بعد قيامها، بات من الضروري على السلطة الثورية الجديدة أن تقوم بدور واضح في توجيه وإرشاد الجماهير العريضة نحو أهدافها، فأنشأت “وزارة للإرشاد القومي”؛ (الإعلام)، في 1952، تولاها “فتحي رضوان”؛ وظل بها حتى عام 1958، وكان من بين مهامها إدارة الشؤون الثقافية، وأنشئت في سبيل تلك الغاية “مصلحة الفنون”؛ في عام 1956، و”إدارة للثقافة والنشر”، و”مركزًا للفنون الشعبية”، وكذلك برنامجًا ثقافيًا بـ”الإذاعة المصرية”.
كانت حكومة الثورة، قبل إنشاء “مصلحة الفنون”، أصدرت في كانون ثان/يناير 1956، قرارًا بإنشاء “المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية”، كهيئة مستقلة ملحقة بمجلس الوزراء، وتولى أمانته “يوسف السباعي”؛ أحد ضباط ثورة يوليو، وكانت مهمته الأساسية؛ كما يقول “ثروت عكاشة”؛ في مذكراته: “تنسيق جهود الهيئات الحكومية وغير الحكومية العاملة في ميادين الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية وربط هذه الجهود ببعضها البعض”، بالإضافة إلى: “ابتكار وسائل لتشجيع العاملين في هذه الميادين والبحث عن وسائل تؤدي لتنشئة أجيال من أهل الآداب والفنون يستشعرون الطابع القومي في الإنتاج الفكري والمصري بشتى ألوانه ويعملون على التقارب في الثقافة والذوق الفني بين المواطنين”، وعهد القانون برئاسة المجلس لوزير التربية والتعليم، ثم بعد ذلك تطورت تبعيته بمرور الأيام وأصبح جزءًا أساسيًا من “وزارة الثقافة”؛ التي صُدر قرار إنشاءها، في 22 شباط/فبراير 1958، بهدف تنظيم العلاقة بين الدولة وجهود المثقفين واستثمارها في إثراء المنجزات المادية والسياسية والاجتماعية بمنجزات ثقافية وفنية، على حد تعبير “ثروت عكاشة”؛ الذي تولى الوزارة باعتباره أيضًا أحد ضباط يوليو، في 08 تشرين أول/أكتوبر 1958، ونجح بما حمله من هموم ثقافية وفنية، وعمل مستمر طوال مدة توليه للوزارة، في تحقيق كيان مؤسسي فاعل ومؤثر في المجتمع المصري طوال سنوات إدارته، التي امتدت لمدتين منفصلتين؛ بدأت أولاهما في: 1958 وانتهت في 1962، وبدأت الثانية في: 1966 وانتهت في 1970.
لكن الوزير المثقف خلال فترة ولايته الأولى للوزارة؛ اكتشف أنها لا تضم جهازًا ثقافيا قائمًا، له تقاليد عريقة في الإدارة، إلا في مجالين إثنين فقط هما النشر والآثار، وما عدا ذلك، بحسب مذكراته، فلم يكن سوى نواتين أو كيانين صغيرين أحدهما يهتم بالأدب أنشأته “وزارة التربية والتعليم”، “المعارف” سابقًا، في صورة “الإدارة العامة للثقافة”؛ التي أفرزت بعد ذلك بقيادة، “أحمد أمين”؛ ما بات يُعرف: بـ”الجامعة الشعبية”، وكان هدفها بالأساس تعليم الكبار، والنواة الفنية الثانية كانت “مصلحة الفنون”؛ التي أنشئت في عام 1955، لرعاية فنون المسرح والسينما والفنون التشكيلية؛ وكان يتولى رئاستها، آنذاك؛ الأديب “يحيى حقي”.
هذه الأجهزة كانت تحمل في جذورها مشاكل ورثتها عن المراحل السابقة، بحسب ما يذكره، “أنور عبدالملك” [2]، عن مؤسسات الحكم ما بعد 1952، قائلًا: “كان الجهاز الحكومي للدولة قد ورث عن النظام القديم مجموعة من العوامل مثل: العائلية، المحسوبية، الطغيان الهرمي، البيروقراطية المتخلفة”.
بالإضافة إلى مجموعة أخرى من المشاكل الطارئة التي أضيفت للوزارة الجديدة، وكان من أبرزها غياب الخبرة والوعي لدى موظفي الوزارة، كما يقول “ثروت عكاشة” نفسه في مذكراته: “وزراة الثقافة قامت على أكتاف رجال نقلوا إليها من وزارة التعليم، ولم يكن أغلبهم على قدر كافٍ من الوعي بالعمل الثقافي”.
وفي محاولة منه للتغلب على هذه المشكلة، التي يبدو أنها لم تكن مجرد عقبة بسيطة، أنشأ “ثروت عكاشة”؛ إدارة لتدريب قيادات الوزارة وموظفيها على العمل الثقافي، لكن هذه الإدارة كانت في ظل إدارة يوليو ذات أهداف تعبوية في الأساس، ومن ثم كانت الوظيفة الإعلامية والإيديولوجية في تلك المرحلة هي الغالبة على أنشطة الوزارة؛ وحتى عام 1970، عام رحيل “جمال عبدالناصر”، إذ كانت غاية الوزارة طوال تلك الفترة وهدفها الرئيس هو العمل بالقوانين واللوائح الحكومية الجديدة، لتنفيذها وتحديد التفسيرات والشروح اللازمة لمجموعة الموظفين الحكوميين القائمين على إدارة هذا الكيان الحكومي الناشيء المختص بإدارة الفن والثقافة. وهو ما حاول “ثروت عكاشة” تجاوزه، آنذاك، عبر استخدام وتوظيف مثقفين وفنانين كبار، كان لهم دور كبير في المجتمع الثقافي المصري، طوال سنوات الخمسينيات والستينيات، بل وقام في كثير من الأحيان بحمايتهم من بطش الآلة البيروقراطية للجهاز الحكومي، من خلال مساندتهم والوقوف بجانبهم لإنفاذ رؤاهم وطموحاتهم قدر الإمكان.
لكن هذه الحالة انتهت بمجرد خروج الوزير المستنير من الوزارة؛ وبحلول فترة السبعينيات وتغير النهج السياسي للدولة، والتحول من المباديء الاشتراكية إلى الانفتاح الاقتصادي؛ في أعقاب حرب (تشرين أول) أكتوبر 1973، حدث تحلل للبنية الثقافية والفنية للكوادر المؤثرة، إما بهجر العمل الثقافي الحكومي والمؤسسي تمامًا، أو بهجرة لخارج البلاد، هروبًا من حالة التراجع الناتجة عن التغيرات العديدة ظهرت في المجتمع، وانعكست بدورها على كافة الأحوال الثقافية والفنية.
هيكل “ثقافي” بيروقراطي
تتشكل “وزارة الثقافة”، بإيجاز؛ من هيكل إداري ضخم، تم تطويره عبر سنوات وجودها، وباستعراضنا له سنجد أن مكتب وزير الثقافة، في قمة هرمه الوظيفي ويتبعه مجموعة من القطاعات والهيئات والمجالس، تبلغ قرابة: 13 كيان إداري مؤسسي، بحسب المعلن على موقع “وزارة الثقافة” الرسمي، يوضحهم الشكل التالي :

ومن خلال هذا العرض الموجز للهيكل الإداري الضخم، يمكننا تصور قدر الصعوبات والمشاكل التي تواجهها مختلف هذه الكيانات الإدارية المتعددة، واحتياجها لأعداد كبيرة جدًا من الموظفين، خلال تعاملها مع المواطنين، وخلال تنفيذها لمهماتها وخططها، وتقديم خدماتها التي عادة ما تخضع، وقبل أي شيء آخر، لرؤية القيادة السياسية بحسب ما تُعلنه الوزارة على موقعها الرسمي.
ورغم ذلك فإننا نجد صعوبة كبيرة في الحصول على البيانات الحقيقية الحديثة الشاملة والدقيقة الخاصة بمساهمات تلك المؤسسات والهيئات الحكومية العاملة في هذه المجالات والأنشطة، بحيث يُصبح من العسير على أي باحث الوصول لنتائج “بيومترية” حقيقية وصادقة، عما يتم الحديث عنه في الخطاب الرسمي الحكومي من إنجازات وتطوير لرؤى أو سياسات ثقافية، أو ما يتمثل في صورة تنفيذ لمشاريع ثقافية وفنية كبرى.
على سبيل المثال، حتى وقت كتابة هذه السطور، لا يوجد تقدير واضح معلن بالأرقام لعدد العاملين بالوزارة من الموظفين، لا على الصفحة الرسمية للوزارة، ولا على صفحات الأجهزة الحكومية الأخرى المعنية بالإحصاء في “مصر”؛ مثل: “الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء”. وكل ما سيجده الباحث عن هذه الأرقام، مجموعة إحصاءات متناثرة بين طيات النشرة السنوية للإحصاءات الثقافية، التي يُصدرها الجهاز، التي تشمل إحصاءات حتى عام 2019، رغم صدور العدد في آذار/مارس 2021؛ بحسب التاريخ المعلن على الموقع.
ومن ثم لا توجد لدينا أعداد حقيقية من واقع اليوم في عام 2021، وإنما هي مجرد أعداد تقريبية للعاملين بقطاعات وهيئات الوزارة حتى عام 2019، الذي يتجاوز ربما ما يزيد عن: 50 ألف موظف حكومي (بأقل تقدير ممكن).
كما أن غالبية الموظفين الإداريين العاملين في وزارة ومؤسسات الثقافة والفنون الحكومية منذ نشأتها، لم يكونوا ممن يهتمون بالشأن الثقافي أو الفني، أي ليسوا مثقفين أو فنانين بالضرورة، بل إن تعداد الموظفين من ذوي المؤهلات المتوسطة والفنيين في كثير من تلك المؤسسات يتجاوز عدد الحاصلين على المؤهلات العليا بكثير، مثلًا: الموظفين العاملين بدور المسارح الحكومية العامة يبلغ إجمالي عددهم؛ بحسب إحصاء 2019: (1905) موظفين، بينما يبلغ عدد المديرين: (86) مديرًا، والأخصائيين والفنيين: (831)، والإداريين والكتبة: (609)، والمخصصين لبيع التذاكر: (48) موظفًا، والمرشدون: (59)، ويوجد: (202) مشتغلٍ آخرين؛ و(63) عاملًا وموظفًا مؤقتًا. وهي أعداد لا علاقة لها بعدد العاملين بالفرق المسرحية الحكومية من الفنانين وغير الفنانين؛ الذين يبلغ تعدادهم بذات الإحصاء: (3934)؛ من بينهم: (2831) فنانًا موزعين على: 71 فرقة مسرحية، يُضاف إليهم: (722) من الإداريين والكتبة، و(381) موظفًا في وظائف أخرى.
وفي أغلب الأحوال يكون الموظفون بالمؤسسات الثقافية الحكومية، من غير المهمومين بالشأن الثقافي العام، مجرد موظفين يتعاملون مع عملهم الحكومي باعتباره وظيفة روتينية، فما عليهم إلا أن ينفذوا القرارات واللوائح والقوانين الإدارية الصادرة من المسؤولين الذين يرأسونهم في المواقع القيادية بالمؤسسات الثقافية، دون أي اعتبارات أخرى، ولعل ذلك يُفسر لنا واحدًا من أسباب حالة التراجع المستمر في مستوى وقيمة ما يُقدم للمواطنين من خدمات وإبداعات ثقافية وفنية، بالإضافة لحالة من تفشي نُسق الاستبعاد الثقافي لقطاع كبير من فئات المجتمع المختلفة، وعدم وجود عدالة في توزيع الحقوق الثقافية على المواطنين في مختلف أنحاء البلاد، نتيجة تركز الأنشطة والاحتفاليات والفعاليات في المدن الكبرى دون غيرها من محافظات وأقاليم المناطق النائية والبعيدة عن التمركزات الحضرية الكبرى، وهو أمر ما يزال قائمًا رغم كل التغيرات السياسية والديموغرافية التي شهدتها “مصر”؛ منذ 1952.
على سبيل المثال تتركز كافة المهرجانات القومية السنوية في محافظة “القاهرة” الكبرى؛ مثل: “مهرجان القاهرة السينمائي الدولي”، و”مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي”، و”المهرجان القومي للمسرح المصري” و”مهرجان الموسيقى العربية” و”معرض الكتاب الدولي”؛ هذا بالإضافة إلى تركز كافة المقار الإدارية لأغلب المؤسسات الثقافية والفنية بـ”القاهرة” الكبرى.
وهنا يظهر سؤال: ما الذي تسبب في خلق الفجوة بين المؤسسات الثقافية الحكومية وبين الناس، إذا كانت الوزارة تمتلك هذه الماكينة الضخمة من الكيانات ؟.. ولماذا تعجز الوزارة عن أداء دورها المنشود في تحقيق أهداف الوزارة ورؤيتها ورسالتها المعلنة رغم وجود هذا العدد الضخم من الموظفين الحكوميين بها ؟
رغم كل عمليات التطوير التي قامت وتقوم بها الحكومات المتعاقبة في إستراتيجياتها وخططها التنموية، لكن من الواضح أنها لا تفي بالغرض، ولا توفر الحقوق الثقافية لعامة الناس، تلك الفجوة الواسعة الذي تزداد اتساعًا في كل لحظة، بسبب بُعد المسافة بين ما يُقدم فعليًا على الأرض، وما يعيشه المواطن المصري يوميًا من تغيرات سريعة ولحظية في الشارع والمدرسة والبيت، وهي ما أشار لها النائب “نور أبوستيت”؛ من نواب محافظة “سوهاج”، في رده وتعليقه على وزيرة الثقافة المصرية، “إيناس عبدالدايم”؛ بعد إلقائها بيان الوزارة في “مجلس النواب” المصري، في 28 كانون ثان/يناير الماضي. حيث قال بنص كلامه في “مجلس النواب”: “بالنسبة لنا في الصعيد، إحنا بالنسبة لوزارة الثقافة، لو سألت خمسة مليون مواطن سوهاجي، مش هتلاقي حد فيهم يقولك إنه يعرف إنه ليها فرع في سوهاج حتى”.
وما أشار له النائب يُجسد بالكلام تلك الفجوة التي يمكن تقديرها “بيومتريًا” من خلال ضرب مثال بسيط في قطاع النشر الحكومي ومؤسساته مثل: “هيئة الكتاب” و”الهيئة العامة لقصور الثقافة” وغيرها من الجهات التي تعمل على نشر الكتب وطباعتها، فبحسب المعلومات الواردة بالنشرة السنوية للإحصاءات الثقافية، لعام 2019، فإن عدد الكتب والكتيبات المؤلفة والمترجمة المنشورة خلال عام 2019؛ بلغ: 2357 كتاب في حوالي: 36 مليون نسخه. وهو رقم هزيل جدًا إذا وضعنًا أمامه أعداد العاملين في قطاع النشر الحكومي التي بلغت من واقع النشرة ذاتها قرابة: 6703 شخص موزعون في مناصب مختلفة: بـ 47 مطبعة.
وهنا يمكننا التطرق لموضوع تراجع معدلات الإنفاق الحكومي على ميزانية الثقافة، وكيفية توزيع تلك الميزانية، التي تلتهم أجور العاملين بالوزارة معظمها، وهو ما يؤدي إلي تراجع معدل الإنفاق على الثقافة والفنون في “مصر” بشكل مؤثر في المسألة الثقافية برمتها، رغم الدعم شبه الكامل الذي تقدمه “وزارة الثقافة” لكافة الأنشطة الثقافية والفنية، ومن ثم يحتاج الأمر لإعادة توجيه ذلك الدعم، إذ أن القيمة المرجوة منه لا تصل لمستحقيها من جمهور المواطنين ولا تحقق الأهداف المرجوة من الرؤية والرسالة التي تعلنها الوزارة.
ما الحل ؟
في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من كانون ثان/يناير 2011، طرح كثير من المثقفين تصورات مختلفة لحلول تنوعت ما بين التحديث وإعادة الهيكلة الإدارية، بإتباع خطط مستوردة، وصولًا إلى الإلغاء التام لدور الوزارة، حيث أطلق التشكيلي، “عادل السيوي”؛ مبادرة لإلغاء “وزارة الثقافة”، وكان يرى ضرورة وجود كيان مستقل عن الوزارة لتشكيل وعي المثقفين والفنانين بعيدًا عن الخضوع لسلطة النظام السياسي، وقدم المبادرة (في اللقاء الذي أقيم بأتيليه القاهرة، في تشرين أول/أكتوبر 2011، واجتمع فيه مجموعة من الفنانين التشكيليين المثقفين بوزير الثقافة، آنذاك، عماد أبوغازي)؛ لكن في كل مرة لم تكن مبادرات من هذا النوع، تجد الفرصة للتنفيذ والتحقق، وبحسب تصريحه في حوار أجرته معه (أخبار الأدب) عن المبادرة، يقول: “يبدو أن ديانة الدولة هي الإبقاء على الوضع القائم، مثلاً مبادرة استقلال المجلس طرحتها في عهد فاروق حسني؛ ولم تكن الشروط مهيأة لتناولها جديًا، وأعدت المحاولة مع د.عماد أبوغازي؛ وتحدث عنها د. شاكر عبدالحميد؛ وهما شخصان داعمان للتغيير… ولكن هناك جهازًا كبيرًا يُقاوم أي تغييرات كبرى”.
وكانت سبقت هذه المحاولة محاولات أخرى كثيرة لدمج الوزارة، منها مثلًا، عندما صدر قرار جمهوري رقم 2420 بضم “وزارة الثقافة” و”الإعلام” في وزارة واحدة، ثم في تشرين أول/أكتوبر 1987، تم ضمها لوزارات “التربية” و”التعليم العالي والبحث العلمي”، وقد قوبل هذا الضم بهجوم حاد من المثقفين؛ آنذاك، ثم بعد عام واحد عادت مرة أخرى لتنضم إلى “وزارة الإعلام”، وأصبحت الوزارتان تحت إشراف وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية، حتى أيلول/سبتمبر 1991، عندما أعيد للوزارة استقلالها مرة أخرى، من الواضح إذاً أنه من الصعب على دولة بحجم “مصر” التخلي عن مؤسساتها الثقافية الحكومية، ذات الإرث البيروقراطي الطويل والمتجذر، التي تضمن للقائمين على السلطة السياسية إمكانية خلق تيار فكري، يؤيد توجهاتها السياسية بين الناس، ويُعزز من سيطرتها على التوجهات الأخرى المختلفة للإعلام والتعليم كوسائل لمخاطبة الجماهير.
فالمؤسسات الحكومية الثقافية في “مصر” تُمثل، في رأي كثيرين؛ أدوات سيطرة وإخضاع ودمج وتدجين، أو “حظيرة للمثقفين”، حسب وصف وزير الثقافة الأسبق، “فاروق حسني”؛ نفسه لوزارته، فخلال ثلاثين عامًا هي فترة حكم الرئيس المعزول، “حسني مبارك”، تمت إعادة تسييس الثقافة باعتبارها مجالًا للاحتواء والتفريغ لكافة أشكال الاحتجاج على توجهات السلطة السياسية، وتم نبذ كافة المثقفين المستقلين خارج حدود الرضا أو القبول بوجودهم في المشهد الثقافي والأمثلة كثيرة على محاولات الشد والجذب بين مؤسسات الدولة الثقافية والكتاب والمبدعين المستقلين عنها، والخارجين عن سيطرتها على مقدرات وجودهم في المجال العام.
فالثقافة والفنون في الوقت الراهن تخضع تمامًا لإدارة الدولة وبيروقراطيتها بشكل شبه مطلق، عبر مجموعة القوانين والقرارات الفوقية والتمركزات البيروقراطية الراسخة، التي لا تنظر للثقافة باعتبارها أداة تنمية بل مجرد تابع لتوجهات السلطة السياسية، لا يحق لأي شخص من العاملين فيها، التمتع بأي استقلال خارج حدود الخطة السياسية المرسومة سلفًا من جهاز الحكم.
رغم إعلان الوزارة تبنيها لرؤية التنمية المستدامة 2030، التي تهدف إلى تطوير المؤسسات الثقافية، وتعزيز القيم الإيجابية في المجتمع، وتحقيق العدالة الثقافية، وتنمية الموهوبين والنابغين والمبدعين، وتحقيق الريادة الثقافية، ودعم الصناعات الثقافية، وحماية وتعزيز التراث الثقافي، فإن ما يحدث على أرض الواقع من تراجع لقيمة الثقافة والفن الجاد بمختلف أشكاله وأنواعه، وتراجع لدور الفنون وأثر الآداب في ترقية الذوق العام للناس، لا يمكن أبدًا إنكاره والأدلة كثيرة؛ ومنها على سبيل المثال: تراجع مستوى القراءة في المجتمع إلى: 40 دقيقة يوميًا، وهو رقم هزيل جدًا بالنسبة لبلد في حجم “مصر”، كما أن مسألة الاهتمام بالثقافة الرسمية والحكومية بين الأجيال الجديدة من الشباب والمراهقين تبدو في حالة سُبات عميق، مقارنة بما تُحققه الوسائط التكنولوجية الحديثة والسوشيال ميديا من قدرة على التفاعل مع الجمهور العريض من المواطنين.
تبدو المسألة في كثير من الأحيان صعبة، وربما يراها البعض مستحيلة، لكن فتح ملفات الفساد في السنوات الماضية بمؤسسات الثقافة الحكومية، وإتاحة المعلومات الخاصة بها للناس، والتحقيق من قبل جهات محايدة رسمية وغير رسمية في تلك الوقائع، بهدف إعادة تصحيح الأخطاء، والعمل لإعادة هيكلة الكيانات الإدارية المترهلة بين مؤسسات الوزارة، التي تُمثل عبئًا حقيقيًا على ميزانية “وزارة الثقافة” الضئيلة أصلًا، ثم محاولة إعادة رسم السياسة الثقافية العامة وفق مشاركة شعبية من الناس، عبر إتاحة الفرص بشكل متكافيء وبمعايير موضوعية لكل المصريين. بما يرد للمواطن الحق في الممارسة والاستفادة من الثقافة والفنون التي تُتيحها له مؤسسات الثقافة الحكومية والرسمية.
مع ضرورة إعادة النظر في مسألة الحريات وأهمية فتح المجال العام للنقاشات الحرة بين الناس، المبنية على البيانات والمعلومات الحكومية المتاحة بشفافية، وكذلك فتح المؤسسات الثقافية الحكومية للناس، كل الناس، لكي يتم من خلالها التعويض عن كل ما يفتقدونه في عالم مليء بالتغيرات الحادة والسريعة التكنولوجية وغير التكنولوجية، ربما يُمثل ذلك حلولًا مقترحه لتجاوز ما تُعانيه المؤسسات الثقافية الحكومية من تكلس وجمود إداري يُعطل من تقدمها وتطورها في الزمن.
……………………………………………………………….
[1] (أخبار الأدب) العدد رقم 1061 تشرين ثان/نوفمبر 2013، حوار مع “عادل السيوي”.
[2] “أنور عبدالملك”، (المجتمع المصري والجيش)، صـ 171.