(بيع الأبناء انموذجاً)
نشر موقع مجلس القضاء الأعلى خبراً مفاده الاتي (أصدرت محكمة جنايات الرصافة، حكماً بالسجن لمدة عشر سنوات بحق احد المجرمين عن جريمة بيع (ابنه) الذي يبلغ من العمر (ثلاث سنوات) مقابل مبلغ مالي قدره ثلاثون الف دولار أمريكي في بغداد، وأوضح مراسل المركز الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى أن “المجرم اتصل به احد (أصدقائه) وطلب منه شراء طفل بمبلغ ثلاثين الف دولار أمريكي لغرض التبني، مبينا أن المجرم أبلغه انه على استعداد لبيع (ابنه) البالغ من العمر ثلاث سنوات”) وفي نهاية الخبر وردت العبارة الآتية (وبمتابعة من قبل قاضي محكمة تحقيق الرصافة شكل فريقا للعمل في مديرية المكافحة المختصة، وتم على اثرها القبض عليه بالجرم المشهود”) وهذا الخبر لم يعلن عن إدانة شخص فحسب، بل انه إدانة للمجتمع وللحكومة وكل مفاصل الدولة بما فيها الجهات غير الحكومية، لان هذه الجريمة ليس لها دافع سوى الحصول على الأموال من جراء ضنك العيش والعوز الاقتصادي، لان عاطفة الأبوة تجاه الأبناء عاطفة فطرية وغريزية لا يمكن إزالتها أو منعها، ويعرفها أهل الاختصاص بانها حالة ذهنية كثيفة تظهر بشكل آلي في الجهاز العصبي وليس من خلال بذل جهد مُدرَك، وحتى لو قسى الآباء على أبنائهم فان المختصون في علم النفس التربوي يرون بان ذلك لا يعدم عاطفة الأبوة عندهم وإنما يكون هؤلاء من ذوي الأسلوب السلطوي ولديهم توقعات عالية جدا من أطفالهم، ومع ذلك لا يُقدّمون لهم سوى القليل جدا من الاستجابة لاحتياجاتهم ورغباتهم، إذا أخطأ الأبناء فإنهم يُعاقَبون بقسوة، حيث يُعد العقاب سمة أساسية لهذا النوع من الأبوة، بدلا من تقديم الفهم والاستيعاب، ويعد هذا النوع من الآباء غير قادرين على شرح الأسباب الكامنة وراء قواعدهم. ومع ذلك يبقى الأب ذو عاطفة غريزية وفطرية تجاه أبنائه، ومن سمات هذه العاطفة ان يقدم الأب لأبنائه كل ما يتمناه من خير وتفوق وحياة حرة كريمة، لكن قد تحول ظروف اقتصادية أو اجتماعية دون ذلك، وتوصله إلى حد العجز عن توفيرها فيركن الى اليأس وتظهر نتيجة ذلك حالات انفعالية تودي إلى انتحار الآباء أحياناً، وفي قول الأمام علي (ع) مصداق لذلك عندما يقول (لو كان الفقر رجلاً لقتلته) ويرى احد الكتاب ان هذه المقولة الفائقة الدلالة والقوة والمضمون لم يقلها إنسانا عاديا او انفعاليا، بل هو (قرآن يتكلم) انه سيد البلاغة والحكمة الإمام علي (ع)، ، بمعنى ان الإنسان قد يرتكب معصية من اجل ان يسد رمق أبنائه وقد يجوز له ان يقتل من تسبب بالفقر، لذلك فان الجريمة التي ادين بها هذا الأب وهي كما وصفها القانون بانها (إتجار بالبشر) وعلى وفق ما ورد في قانــون مكافحـة الإتجـار بالبشــر رقـم (28) لسنــة 2012، لكن هل هذا الحكم بالإدانة وبهذا القدر من العقوبة التي كانت السجن لمدة عشر سنوات تكفي لمعالجة الخلل الذي تعرضت له اسرة هذا الشخص المدان (المجرم) وهل تكفي لا صلاح الخلل المجتمعي والحكومي تجاه الحال، حيث نسمع بين الحين والآخر قصص مماثلة لتلك التي وقع فيها هذا الأب سيء الحظ بينما غيره لم تطله يد القانون، وللوقوف على ذلك اعرض الاتي :
ان البعد الاجتماعي لمعالجة مثل هذه الأفعال لا يقف عند فرض العقوبة وإنما يجب ان يقترن بمعالجة حقيقية لأسباب وقوع مثل هذه الجرائم التي لها صفة خاصة لا يمكن استبعادها أصلاً من صلب الموضوع وهي وجود العاطفة الفطرية والغريزية للأبوة تجاه الأبناء، والشريعة الإسلامية قد منعت قتل الأب الذي يقتل ابنه وعلى وفق الحديث النبوي الشريف ( لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِالْوَلَد) ، مراعاة لهذه العاطفة الغريزية.
ان فلسفة قانون العقوبات تم بنائها أصلاً على ان يكون الهدف من فرض العقوبة هو إصلاح الجاني وردع الآخرين، وعند النظر في فرض العقوبة على من باع ولده أو كما يسميه الخبر الصادر (الإتجار بالبشر) هل سيحقق إصلاح ذلك الأب ام س يكون الحكم سبباً لحصول جرائم ومآسٍ أخرى، لان الأب عندما سعى لبيع ابنه فلذة كبده وفتنته في الدنيا، كان بدافع العوز وبدافع توفير المكان الأفضل لتربية هذا الابن وانتشاله من واقع الفقر المدقع، فهل إيداعه في السجن سيوفر موردا ماليا لباقي الأسرة، وهل سيحفظ لهذا الابن المباع حياة كريمة ومعاشية ميسرة، في ضوء الواقع الراهن الجواب سيكون بالنفي، بل قد يكون سبباً لتسرب بقية الأبناء إلى الشوارع وجنوحهم نحو عالم الجريمة والمخدرات والتسول وغيرها من الجرائم الأخرى، وهل وفرت الدولة سبيل العيش الرغيد لهذا الأب قبل ان تحاسبه على ما قام به، وهل ستكون الدولة حاضن لهذا الطفل وبقية أفراد الأسرة وتمنعهم من الوقوع في مهاوى التشرد والجريمة؟، بلا ادنى شك الجواب سيكون بالنفي.
ومن خلال الخبر أعلاه وان لم اطلع على قرار الحكم التفصيلي لكن وجدت فيه الغاية من بيع الأب لابنه هو (التبني) أي ان يرعاه شخص أخر غيره وهو من أصدقائه، وقبل الخوض في التحليل القانوني اجد ان هذا متعارف عليه اجتماعياً وتوجد عشرات بل مئات وآلاف الحالات المشابهة في منح احد الأشخاص لأقاربه او أصدقائه احد أبنائه عندما لا يكون ذلك الشخص ينجب أطفالا، لكن ما ورد في الخبر ان غاية معاملة البيع والشراء هو التبني وعند العودة إلى نص المادة (1) من قانون مكافحة الإتجار بالبشر رقم 28 لسنة 2021 قد ورد تعريف لجريمة الإتجار بالبشر التي ادين بها ذلك الأب المفجوع وعلى وفق الاتي (يقصد بالإتجار بالبشر لأغراض هذا القانون تجنيد أشخاص أو نقلهم أو إيوائهم أو استقبالهم , بوساطة التهديد بالقوة أو استعمالها أو غير ذلك من أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال السلطة أو بإعطاء أو تلقي مبالغ مالية أو مزايا لنيل موافقة شخص له سلطة أو ولاية على شخص آخر بهدف بيعهم أو استغلالهم في أعمال الدعارة أو الاستغــلال الجنســـي أو السخرة أو العمل القسري أو الاسترقاق أو التسول أو المتاجرة بأعضائهم البشرية أو لأغراض التجارب الطبية) وفي هذا النص يشترط لتحقق الجريمة ان يكون البيع لأغراض متعددة وصفها باستثناء البيع لغرض التبني فلم يرد فيه نص يعد التصرف من قبيل ذلك الجرم الموصوف، وحيث ان قصد البيع هو القصد الجرمي الذي يمثل الركن المعنوي للجريمة فانه اصبح غير متوفر في عنصر التجريم، لان البيع لم يكن للقصد الوارد في المادة (1) من القانون أعلاه واذا انتفى ركن من أركان الجريمة تسقط الجريمة والتصرف لا يعاقب عليه القانون على وفق مبدأ المشروعية وهو الركن الثالث من اركان الجريمة والوارد في المادة (19/ثانياً) من الدستور التي جاء فيها الاتي (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، ولا عقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون وقت اقترافه جريمة، ولا يجوز تطبيق عقوبة أشد من العقوبة النافذة وقت ارتكاب الجريمة)، وإنما يصبح فعل مباح، قد يشكل إثما يكون سبباً لسلب ولاية الأب على وفق ما ورد في قانون رعاية الأحداث او قانون رعاية القاصرين، ولكنه لا يشكل جريمة عقوبتها قاسية على وفق ما جرى.
لذلك فان هذا الحكم الصادر عن القضاء العراقي هو إدانة للمجتمع والحكومة وكل مفاصل الدولة قبل ان يكون إدانة لاب قاده العوز إلى بيع فلذة كبده، بينما المسؤول الأول عن توفير حياة كريمة للاب وللابن هي الدولة وعلى وفق ما ورد في المادة (30/أولاً) من الدستور التي جاء فيها الاتي (تكفل الدولة للفرد وللأسرة ـ وبخاصة الطفل والمرأة ـ الضمان الاجتماعي والصحي، والمقومات الأساسية للعيش في حياةٍ حرةٍ كريمة، تؤمن لهم الدخل المناسب، والسكن الملائم) وهذا واجب الدولة في معالجة هذه اللازمات الاجتماعية التي تفاقمت في السنين المنصرمة وانها وان كانت نتيجة تراكمات الأنظمة السابقة لكن هذا لا يعفي من يتصدى للحكم حاليا ومستقبلاً ان يلتفت إلى إيجاد المعالجة الجذرية لأسباب هذه الفعل وغيره.