إن الأخوةَ في الإسلام.. ليست نزوةً عارضةً، ولا تهويمةً مجنحةً في الخيال، ولا رغبةً مزاجيةً طارئةً..
وليست كصحبة الأطفال، الذين يتصاحبون لسويعات، أو أياماً قليلة.. ثم يتنازعون على لعبةٍ أو دميةٍ، ثم يختصمون ويفترقون..
إنَّ الأخوةَ عهدٌ وميثاقٌ مع الله، ورباط ٌمتينٌ مقدس، أنشأه الله بين المؤمنين (إنما المؤمنونَ أخوةٌ) الحجرات 10. تربط بينهم المحبة في الله، والمودة في الصحبة..
إنها العروةُ الوثقى، والحبلُ المتينُ بين الأخوة المؤمنين، لا ينقطع، ولا يتمزق لدى، أي خلاف في الهوى، والمزاج.
ومن يقطعه لخلاف شخصي، ولهوى نفسي، ولنزوة عارضة.. فإنما يقطع حبل الله، ويستخف به، ويستهين بميثاق الله.. وهو من الخاسرين.
إن هذا الحبل، يجب أن يبقى أبد الدهر بين الأخوة الذين تجمع بينهم عقيدة واحدة، وفكرة واحدة، وطريق واحد، وهدف واحد، ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن ينقطع، إلا إذا انحرف أحدهما عقدياً، وخرج من دين الله..
فإذا حصل هذا التمزق من قبل أحد الأطراف.. فهذا دليل وبرهان أكيد، على عدم صدقية ذلك الطرف، وعدم جديته في الأخوة، وعدم إدراكه لقيمة الأخوة، وعدم فهمه لمعنى المحبة في الله، وعدم تقديره لمكانتها العظيمة عند الله، وعدم حرصه في الحصول على تلك المنزلة الرفيعة، التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن معاذ بن جبل (قال اللهُ تعالى : المتحابُّونَ في جلالِي لهمْ مَنابِرُ من نورٍ، يَغبطُهمُ النَّبيُّونَ والشهداءُ).
قصة عجيبة وغريبة
إن هدفنا من ذكر هذه القصة العجيبة الواقعية الحقيقية، ليس هو التسلية واللهو، ولا التشهير بأحد، لأنه غير مذكور اسم شخوصها..
وإنما هدفنا: العبرة والعظة، والعمل الجاد على ترسيخ مفهوم الأخوة الحقيقي في قلوب أبناء أمتنا، لأنه يومياً تحدث آلاف القصص المشابهة لها، وبعضها قد ينتهي بمأساة وكارثة.
يقول أحدهم في قصته العجيبة، والطريفة، والغريبة:
إنه تعرف على أحد الإعلاميين، من شباب الجيل الشارد الضائع، التائه، الذي وُلد في عهد حافظ اللعين، ونشأ وترعرع وتربى على أفكار شبيبة الثورة، والبعث النتنة..
غير أنه كان يتميز عن أقرانه، بتسربله بقشرة رقيقة هزيلة من التدين التقليدي، التي ما إن تنبعج أو تنثقب، حتى تسقط تلك القشرة، وتظهر ما تحتها من قيم الجاهلية الحديثة، بكل صورها القميئة، العفنة.
فعرض عليه نشر المقالات التي يكتبها.. فوافق، ورحب أشد الترحيب، وبقي ينشر دون أي اعتراض، ولا خلاف لسنين مديدة..
وكان كلما عبر عن شكره، وامتنانه لهذا الإعلامي الشاب الطيب، الوسيم، المتقد حيوية ونشاطاً، رد عليه: (الموقعُ موقعُك، ولا يَهمك، وتحت أمرك)..
كانت تلك كلماتٌ جميلةٌ، وعذبةٌ، وحلوةٌ، ومجاملةٌ لطيفةٌ، ودودةٌ.. تتردد بينهما طوال تلك السنين العديدة.
إلى أن حدث – ما لم يكن في الحسبان وبقدر الله، وكأنه يريد أن يكشف النفوس غير الصادقة، وغير المخلصة في أخوتها – فظهر في الأجواء حدث تافه، وسخيف، وهزيل!!! وتراكض القطيع الهائم كالفراش المبثوث لتأييده، واتخذ كل منهما موقفاً مغايراً للآخر..
طبيعية البشر الاختلاف في الرأي
وهذا أمر طبيعي بين جميع البشر.. فالله تعالى! لم يخلق الخلق كنسخ متماثلة، ومتطابقة، والخلاف في الرأي! لا يستدعي أي خصام، ولا فساد للود، ولا افتراق – كما يحصل مع الأطفال – ولا عداوة بين الأخوة الصادقين، المخلصين..
وقد حصلت هذه الخلافات حتى في جيل الصحابة الفريد، وفي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.. ورُفعت السيوف على بعضهم، ولكن بمجرد تذكيرهم بحقوق الأخوة، وتقوى الله.. كان ينطفئ غضبهم، وتلين عريكتهم، ويخضعون، ويستسلمون لأمر الله ورسوله.. ويحافظون على المحبة والمودة والصفاء..
غير أن هذا الشاب الإعلامي الطيب، كان أسير الهوى، والمزاج، ومتحسساً بشكل مفرط لبعض الكلمات التي وردت في المقال.. فصورها له الشيطانُ الخبيثُ، على أن فيها سباً وشتماً للناس، وفيها إهانة شخصية له.
وهذه قاعدة عامة:
إن أي شخص يتحسس من الكلام العام، ويحسب كل صيحة عليه، وتأخذه الحمية الجاهلية، فيردح ويستنكر ويحتج، وكأنه قد لسعه عقرب، فهذا دليل قاطع: على أنه امرؤ مرجوجٌ مهزوزٌ، قد أصابه الكلام في مقتل، وأن الصفات الواردة فيه، تنطبق عليه.
وقد نفى الكاتب ذلك الاتهام الباطل نفياً قاطعاً، وطلب منه إبراز البينة، والدليل على إهانته الشخصية، حسبما هو متعارف عليه في قانون السماء والأرض (البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر) وحلف له بالله، أنه لا توجد في المقال أية إهانة شخصية له البتة.
ولكنه عبس وبسر، وأدبر واستكبر، وأصر على أن الكاتبَ كاذبٌ، بالرغم من حلف اليمين. وقال له بكل عنجهية: (أتتذاكى علينا؟ الدليل واضح! وما عليك إلا أن تكون شجاعاً، فتعترف بالخطأ وتعتذر).
يا للهول! لم يكتف هذا الشاب بالتطاول، والتنمر على من هو أكبر منه، بل أصرَّ على الصاق التهمة به بنفس الأسلوب المخابراتي المتبع في أقبية سجون الأسد.
فرد عليه بأدبٍ جمٍ (من فضلك ايت بالبينة المادية على ادعائك).
فكانت ثالثة الأثافي، أن يقول له: (من كل عقلك تطلب الدليل؟!).
يا للهول! وكأن من يطلب الدليل، يكون مختل العقل، ومجنوناً، ومرتكباً جريمةً نكراء؟!
وعليه! فإن الله جل شأنه، مختل العقل – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – حينما قال: (هَاتوا بُرْهانكُم إنْ كُنتُم صَادقين) البقرة 111. وكذلك قضاة الأرض، مختلو العقل، حينما يطلبون البينة على المُدَّعي؟!
ولكن الإعلاميَ المهتاجَ، الثائرَ، والمكتنزَ بفورة الشباب الحماسية.. كان واقعاً تحت تأثير حبائل الشيطان، الذي زين له حب الخصام، وأغرى بينه وبين أخيه – الذي يكبره ربع قرن من السنوات – العداوة والبغضاء، وعدم المبالاة بقدسية رباط الأخوة، والاستهانة بقطعه وتمزيقه، والتضحية بكل الحسنات التي كسبها خلال سنوات طويلة، من نشره لمقالات الكاتب، وإحباطها والتفريط بها، في نزوة غضب عابرة، ولأجل أمر تافه وسخيف، لا يليق بأولي الحجا أن يفعلوه..
وقال يمُنُّ عليه (نشرنا لك كل ما كتبت! فهل مدحت أو شكرت؟) ثم توقف عن النشر، بذريعة أنه يريد أن يمنع شراً، أراد الكاتب أن ينفثه بين الناس!!!
هكذا! زينَّ له الشيطانُ الخبيثُ.. أن ما كتبه الكاتب في انتقاده للحدث الطارئ المهين، ما هو إلا شرٌ مستطيرٌ، ووباء خبيث، يريد الإعلامي الشهم، الغيور أن يمنعه، ويحمي الناس من وباله، ومن عقابيله..
يا للغيرة!! ويا للشهامة!! شابٌ في عمر أحداث الأسنان، ولا يزال يحبو في سفح الجبل، ملتصقاً به، ومتهيباً الصعود إلى القمة.. يُنَصِّبُ نفسه وصياً على كاتب في عمر أبيه، ضَرَّسَته الأحداثُ الجسامُ، وأكسبته التجاربُ والسنون الطوال، خبرةً وحنكةً وحكمةً، وشاب في الجهاد والنضال والكفاح، ومقارعة الطغيان والاستبداد، والتصدي للطغاة والجبابرة، الذين لا يتجرأ أحداث الأسنان على مواجهتهم، بل ترتعد فرائصُهم من مجرد ذكرهم، وينهزمون مولين الأدبار، لا يلوون على شيء، وخاصة الذين تربوا في جحور ومستنقعات الأسد، وغَرَفوا من قاذوراته، وتشربوا موبقاته، وتشبعوا أوساخه..
والعجيب! والمضحك والمبكي! أنه قبل أيام قليلة.. كان يمدحه ويُثني عليه، ويقولُ له: إن له تأثيراً مفيداً، وكبيراً على الناس، بأفكاره النيرة، المتميزة، والفريدة في طريقة عرضها، وطرحها.. وأن كثيراً من القراء كانوا يتصلون به.. ويمدحون الكاتب، ويثنون عليه الخير..
هكذا! – والله – قال له: فكيف يتحول هذا الكاتب بين عشية وضحاها، وينقلب على عقبيه، ويصبح شريراً فاسداً؟!..
والإعلاميُ الهُمامُ، الشهمُ، والغيورُ على مصلحة الناس، يتخذ موقف الحماية من شره، وفساده، وكأنه يتقمص شخصية فرعون، الذي أراد أن يقتل موسى بذريعة (إني أخافُ أن يُبَدِّلَ دينَكُم، أو أنْ يُظهرَ في الأرضِ الفسادَ). غافر26.
يا للهول!! ويا للحسرة!! ويا للعجب!! كيف تتبدل الموازين، والمعايير، والمقاييس بين لحظة وأخرى، بفعل، وتأثير الشيطان الرجيم؟!..
وكيف يطيب لإنسان يؤمن بالله واليوم الآخر.. أن يعمل لأجل المدح، والثناء الدنيوي، الرخيص الهزيل، وليس لأجل الله، ولأجل الآخرة؟!..
علماً بأن ذلك الكاتب الملتزم بالإسلام، والمتحلي بأخلاقه الرفيعة الشمَّاء.. ما كان يقصر في شكره وإبداء الامتنان له، طوال تلك السنوات، وكان الإعلامي يرد عليه دائماً (ولا يهمك! الموقع موقعك) وإذا بهذا الكلام الجميل المنمق، تذروه رياحُ الغضب، وتعصف به رعودُ الهوى، وتمحوه بروقُ المزاج.
وهكذا كان كيد الشيطانَ اللعين، قوياً ومؤثراً على الإعلامي، فأنساه ذكر ربه، وأنساه تحذيره من المَنِّ والأذى (يا أيُّها الذين آمَنوا لا تُبطِلوا صَدَقاتكُم بالمنِّ والأذَى). البقرة 264.
وختم على قلبه، وأغراه بالعداوة والخصام.. وخسر بهذا المًنِّ الرخيص، ملء الأرض ذهباً، من حسنات نشر المقالات.
وهكذا! فإن الذي لا يبني أخوته، ومحبته على تقوى الله، وعلى صدق وإخلاص، وعلى إيثار الآخرة على الدنيا الدنية.. فإنه يكون من الخاسرين..