قراءة في ضوء اتجاهات المحكمة الاتحادية العليا
المبدأ الوارد في قرار المحكمة الاتحادية العليا (اعتبار القاضي منفذ عدل عند نظره في طلب حبس المدين، وليس بصفته قاضياً، وان قراره إجراء تنفيذي وليس قرار قضائي).
ان المادة (32/ثالثاً) من قانون التنفيذ رقم 45 لسنة 1980 المعدل منحت قاضي البداءة صلاحية حبس المدين الذي يرفض تقديم كفيل ضامن لتسديد الدين وعلى وفق النص الاتي (ثالثا ـ اذا رفض المدين تقديم كفيل ضامن لتسديد الدين يفاتح قاضي البداءة لحبس المدين لحين تقديم كفيل ضامن) وهذا النص جاء بموجب قانون التعديل رقم 13 لسنة 2019 وأثار جدلاً واسعاً لدى المختصين لأنه يبقي المدين في الحبس إلى اجلٍ غير مسمى طالما لم يقدم كفيل ضامن للدين، ويرى بعض الناشطين في مجال حقوق الإنسان ان هذا التعديل يتعارض مع مبادئ أقرها الدستور النافذ وكان القاضي نائب المدعي العام أمام محكمة بداءة الهاشمية قد طعن في دستورية هذا التعديل لأسباب عدة منها مخالفة المواد (2/ج) و (37/ أولاً/ أ) و (46) من الدستور فضلاً عن تقاطعه مع المواثيق الدولية منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وسجل هذا الطعن بالعدد 41/اتحادية/2021 وصدر قرار برد الطلب لان المحكمة الاتحادية العليا ترى بان التعديل المطعون فيه لا يتقاطع مع الدستور للأسباب التي أوردتها في قرارها الصادر بتاريخ 15/6/2021 ، ثم بعد ذلك وبتاريخ 11/7/2021 قام السيد قاضي محكمة بداءة عفك بالطعن بعدم دستورية ذات المادة المشار اليها في الطعن السابق، وأصدرت المحكمة الاتحادية العليا قرارها العدد 96/اتحادية/2021 في 16/11/2021 الذي قضت فيه برد الطعن لسببين الأول لسبق الفصل فيه لأنها أصدرت قرارها العدد 41/اتحادية/2021 في 15/6/2021 والسبب الثاني اعتبرت ان قاضي البداءة ليس له الحق في طلب النظر في دستورية القوانين لأنه ليس بقاضٍ عند النظر في إضبارة التنفيذ وإنما يمارس وظيفة منفذ عدل، وساقف عند هذا السبب حصراً لان فيه إنكار للصفة القضائية لعمل قاضي البداءة عند النظر في طلب حبس المدين، وهذا امر جديد على الاجتهاد القضائي وسيكون العرض على وفق الاتي :
ان المحكمة الاتحادية العليا الموقرة كانت قد قبلت الطعن المقدم من القاضي نائب المدعي العام أمام محكمة البداءة، وكان المنفذ العدل طلب من السيد قاضي البداءة حبس المدين على وفق أحكام المادة (32/ثالثا) من قانون التنفيذ، إلا ان نائب المدعي العام طلب النظر بعدم دستورية ذلك النص، وان ذلك الطلب جاء بمناسبة النظر من قاضي البداءة لإعطاء القرار تجاه طلب المنفذ العدل، وقاضي التنفيذ يمارس مهام المنفذ العدل وعلى وفق ما ورد في قرار المحكمة الاتحادية أعلاه (أن قاضي محكمة بداءة الهاشمية وبصفته منفذ عدل اصدر في الإضبارة التنفيذية المرقمة (2/خ/2020) قراره المؤرخ في 1/3/2021 المتضمن حبس المدين مالك عطية خضير والذي تجاوز عمر السادسة والستين سنة حبساً تنفيذياً لحين تقديم كفيل ضامن له استناداً لأحكام الفقرة (ثالثاً) من المادة (32) من قانون التنفيذ رقم (40) لسنة 1980 المعدل بالقانون رقم (13) لسنة 2019.)، مع ان القاضي اذا قرر الحبس فيكون استناداً لصلاحيته القضائية وليس لأنه منفذ عدل، بينما في القرار أعلاه قبلت الطلب على الرغم من إنها اعتبرت القاضي منفذ عدل عند نظره في طلب حبس المدين.
ان المحكمة الاتحادية العليا قد أتت بحكم مغاير لما قررته في قرارها السابق عندما أنكرت على قاضي البداءة ان يقدم طلب النظر بعدم دستورية المادة (32/ثالثاً) من قانون التنفيذ لأنه لا يمارس وظيفته القضائية وإنما هو منفذ عدل وعلى وفق ما ورد في قرارها العدد 96/اتحادية/2021 في 16/11/2021 حيث جاء فيه (ان نص المادتين (2و3) من النظام الداخلي لمحكمة الاتحادية العليا أجازتا الطعن بعدم الدستورية أمام هذه المحكمة بناء على طلب احدى المحاكم كم تلقاء نفسها او بناء على دفع من احد الخصوم بمناسبة دعوى أقيمت أمامها ولذا فليس للقاضي بصفة منفذ عدل عند نظره اضبارة تنفيذية الطعن بدستورية القانون لعدم وجود سند قانوني يخوله ذلك استناداً إلى أحكام الدستور وقانون المحكمة الاتحادية العليا)
ان الدستور قد منع أي جهة غير القضاء بتقييد حرية المواطن وعلى وفق ما ورد في المادة (12) من الدستور التي حظرت الحجز وفي المادة (15) من الدستور التي جاء فيها الاتي (لكل فردٍ الحق في الحياة والأمن والحرية، ولا يجوز الحرمان من هذه الحقوق أو تقييدها إلا وفقاً للقانون، وبناءً على قرارٍ صادرٍ من جهةٍ قضائيةٍ مختصة) وكذلك ما ورد في المادة (37/اولا/ب) من الدستور التي جاء فيها الاتي (لا يجوز توقيف أحد أو التحقيق معه إلا بموجب قرارٍ قضائي)، وحبس المدين فيه تقييد لحرية أنسان لذلك لا يجوز ان يصدر أي قرار بحبسه إلا من قبل قاضٍ وخص قانون التنفيذ قاضي البداءة بهذه الصلاحية على وفق ما جاء في نص المادة (32/ثالثا) من قانون التنفيذ ، كما ان قرار القاضي أعلاه قابل للطعن فيه امام محكمة الاستئناف بصفتها التمييز باعتباره قرار قضائي يخضع لتدقيق هيئة قضائية اعلى ، وبذلك فان قاضي البداءة ينظر في طلب الحبس بصفته القضائية وليس بصفته منفذ عدل وعلى خلاف ما سارت عليه المحكمة الاتحادية العليا في قرارها أعلاه.
ان المحكمة الاتحادية العليا الموقر كانت قد اعتبرت قاضي البداءة يعمل ويقرر حبس المدين بصفته القضائية ولم ترد الطلب المقدم من القاضي نائب المدعي العام، وإنما قبلته شكلاً واعتبرته مقدم بشكل يتفق وأحكام النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية وعلى وفق ما ورد في قرارها العدد 41/اتحادية/2021 في 15/6/2021، وبعد ثلاثة اشهر خالفت هذا الاتجاه عندما أنكرت صفته القضائية دون ان تبين أسباب هذا الاختلاف.
قد يقول البعض بان قبولها الأول للطلب لأنه لم يقدم من قاضي البداءة وإنما القاضي نائب المدعي العام وبذلك الحال اختلف، وهذا القول مردود على قائله للأسباب الآتية :
ان نائب المدعي العام ليس صلاحية منصوص عليها في قانون التنفيذ للطعن بقرارات المنفذ العدل وإنما فقط للخصوم واطراف العلاقة وعلى وفق ما ورد في المواد (118 و 119) من قانون التنفيذ، بينما نجد ان المشرع منح نائب المدعي صلاحية الطعن بقرار مدير رعاية القاصرين بشكل صريح وعلى وفق المادة (58) من قانون رعاية القاصرين رقم 78 لسنة 1980 المعدل التي جاء فيها الاتي (اولاً – للادعاء العام او الولي او الوصي او القيم او من يتولى شؤون القاصر الطعن بما يصدره مدراء رعاية القاصرين من موافقات او رفض لها وفق المواد (43 و54 و55 و56) من هذا القانون لدى محكمة الاستئناف المختصة وذلك خلال مدة سبعة ايام من تاريخ التبلغ بها، ويكون قرار محكمة الاستئناف بهذا الشأن باتاً(.
ان قانون الادعاء العام رقم 49 لسنة 2017 لم يمنح نائب الادعاء العام اي صلاحية للحضور أمام المنفذ العدل او الطعن بقرار المنفذ العدل لان المادة (6) من قانون الادعاء العام حددت الجهات التي يجوز للادعاء العام الطعن فيها وهي على وفق النص الاتي (على الادعاء العام الحضور إمام محاكم الأحوال الشخصية وغيرها من المحاكم المدنية في الدعاوى المتعلقة بالقاصرين والمحجور عليهم والغائبين والمفقودين ودعاوى الطلاق والتفريق وهجر الأسرة وتشريد الأطفال وأي دعاوى يرى الادعاء العام ضرورة تدخله فيها لحماية الأسرة والطفولة وله الحق في الطعن بما يصدر عن الجهات المذكورة من أحكام وقرارات.) وهذه ليس من بينها المنفذ العدل، فضلاً عن نص المادة (5/سادسا) من قانون الادعاء العام التي جاء فيها الاتي (سادسا: الحضور في الدعاوى المدنية التي تكون الدولة طرفا فيها او متعلقة بالحقوق المدنية الناشئة للدولة عن الدعاوى الجزائية وبيان أقواله ومطالعاته ومراجعة طرق الطعن في القرارات والأحكام الصادرة في تلك الدعاوى ومتابعتها)
ان القاضي نائب المدعي العام عندما طعن في قرار قاضي محكمة البداءة كان طعنا بقرار قضائي وليس إجراء تنفيذي ومارس حقه بالطعن بما يملك من صلاحية مراقبة الأحكام والقرارات القضائية، وهذا ما جعل المحكمة الاتحادية العليا تنظر في الطلب وتعتبره مقبول شكلاً.
ومن خلال ما تقدم فان لقاضي محكمة البداءة الصفة القضائية عند إصداره قراراً بحبس المدين وليس لأنه منفذ عدل، والمنفذ العدل ليس له حق حبس المدين إطلاقاً وإنما القانون منحه حق طلب ذلك من قاضي البداءة على وفق أحكام المادتين (32/ثالثاً و (40) من قانون التنفيذ، كما ان المنفذ العدل موظف تنفيذي وليس بقاضٍ والمحكمة الاتحادية العليا سبق لها وان أصدرت عدة أحكام قضت فيها بعدم دستورية النصوص القانونية التي كانت تمنح الموظفين صلاحية حبس أو حجز المواطن، لأنه اختصاص حصري للقضاء.