مع كتابات.. محمد طاهر النور: الواقعية السحرية والطبيعة والأصالة، ليست في أمريكا الجنوبية اليوم، وإنما في أدغال إفريقيا غير المطروقة أبدا

مع كتابات.. محمد طاهر النور: الواقعية السحرية والطبيعة والأصالة، ليست في أمريكا الجنوبية اليوم، وإنما في أدغال إفريقيا غير المطروقة أبدا

 

خاص: حاورته- سماح عادل

“محمد طاهر النور” كاتب تشادي، عمل سكرتيرا لتحرير جريدة «أنجمينا الجديدة» ومحررا في صحيفة «أيام» ونال جائزة قاص جامعة الملك فيصل في تشاد2015، عن قصة «أرض التبر» وله مخطوطة قصصية بعنوان «عزف بلا معنى» ورواية «سيمفونية الجنوب» .

كان لنا معه هذا الحوار الشيق:

**    متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟

–  لعل مفردة “شغف” في سؤالك تعبّر بدقة متناهية، عن ما يعتمل داخل الذات المبدعة، لا سيما تلك التي تكون في طور التكوين والنمو والمخاض. لأنّ الإبداع يتطلّب نحتاً مستمراً حتى تصقل الموهبة، وتتجذر في نفس الموهوب، وتتكثّف فيه حدّ الحضور. لقد بدأ معي هذا الشغف منذ السنة الجامعية الثانية. كنتُ أتردّد على الصحف المحلية، وأغازل صفحاتها، فربما، وجدتُ نفسي بين طيّاتها ذات يوم. بالرغم من أنني أكتب كثيرا وبشكل يومي تقريباً. ربما كتبتُ مقالة أو قصة في كراريس الدراسة ثم نسيت أمرها، لأني لم أجد الصحيفة التي تليق بي- كما كنتُ أزعم- وربما لأني لم أعد في حاجة إلى النشر، فقد شعرتُ بالخفّة وبالطيران بمجرد أن قيّأْتُ ما بداخلي على الورق.

فثمة صراع يدور في الذاكرة، وربما في المخ لا أعلم، يكبح أي نيّة للراحة والطمأنينة، وبالتالي يتحتم عليّ أن أكتب كثيرا، دون التفكير في جدوى هذه الكتابة، وما أرنو إليه من ورائها.

إنني لن أجانب الصواب إذا قلتُ أنّ هذا الشغف، دفعني إلى الكتابة ونشر ثلاثة أو أربعة مقالة في الأسبوع. وهذه الكتابة الكثيرة، أسهمت إلى حد كبير في تطوير أسلوبي، وصقل موهبتي. ومع الزمن انتقلتُ من المقالة إلى القصة القصيرة، ومن ثم قادتني القصة القصيرة إلى الرواية. الأمر يشبه كثيراً تشييد بناية. هناك أمور لابد مراعاتها في عملية الكتابة التي لن تتأتّى ما لم ينقاد إليها المبدع، ويخضع لمتطلباتها، لأنّ الموهبة مثل الأمل، وحده لا يكفي، وإنما يحتاج إلى الاستمرار أيضا في القراءة والكتابة، جنبا إلى جنب، مع التجربة واكتشاف أفق الحياة الواسع.

** لماذا دائما ما يثار سؤال الهوية عند الحديث عن الكتاب من إفريقيا، هل تشعر أنه سؤال يحمل بعض السخافة. وكأن البعض يصر على إدراج الكتاب من إفريقيا عنوة تحت إطار الهوية العربية في مقابل الهوية الفرنسية التي تحاول أن تتسيّد في بلدك تشاد، لكن أليس من الأجدى الحديث عن هوية إفريقية خالصة بعيدا عن تأثيرات الاستعمارين العربي والفرنسي؟

– لا أعلم لماذا يُرمى سؤال الهوية دائما في وجه الكتاب الأفارقة، ولكن يمكنني القول أنّ الناس تحب التصنيف. لا يكفي أبدا أن أكون كاتباً إفريقيا، فحتى لو قلتُ لهم ذلك، سوف يطرحون المزيد من أسئلة الهوية: هل تكتب بالفرنسية أم العربية، أم الانجليزية أم تكتب بأي لغة؟ وبعد ذلك تنسال الأسئلة تباعا، مثل: هل تهمّك قضايا الزنوجة، والأفريقانية، وما بعد الكونيالية، أم تحمل هموم الشرق وصراعاته وتطلعاته؟ أعتقد أن الأمر له علاقة بولع المغلوب بثقافة الغالب، كما  يقول “ابن خلدون” في مقدمته. فالسؤال لا يزال هو هو.

نفس السؤال الذي طُرح في ندوة خاصة بروايتي”سيمفونية الجنوب”، هل العربية لغتك الأم، أم لك لغة أخرى؟ كان سؤالا جارحا بالنسبة لي، ولكل الذين يتكلمون العربية كلغة أم. مع أنه سؤالا مشروعا، باعتبار وحدوية الهم الإنساني النبيل، ولكن يشعر المرء وهو يتلقى مثل هذه الأسئلة، كم كان ضعيفا، وكم كان يحمل هُويّة هشّة. مع أنه يعلم أنّ هشاشة الهُويّة ناتجة عن ضعفٍ لا عن قوّة.

الإنسان العربي ضعيف، في السياسة والثقافة والاقتصاد، مقارنة بالإنسان الغربي، ولهذا يشعر بعدم الثقة، ويود لو يصبح نسخة أصلية من الإنسان الغربي، ويحاول تقليده في كل شيء. وإن كان في الحقيقة لديه من المقوّمات، ما يؤهله لأن تكون له ذاته الخاصة. هذا الكلام ينسحب علينا أيضا، فالكاتب الفرانكفوني يشعر بالقوّة، لأنه في بلدٍ تسيطر عليه الفرنسية في السياسة والإدارة، وليس مثلي أنا “العربفوني” الذي يتكئ فقط على الشارع، وعلى التاريخ والجذور.

برأيي أنّ الهُويّة ليست منحة وإنما شعورا. يمكنني أنْ أكتب بالفرنسية دون أن يطرح سؤال الهُويّة الذي يؤرّقني. ويمكنني أنْ أكتب بالعربية طالما أنّ نفسي تشرّبتْ بهذه اللغة، وتاقت إلى الكتابة بها. مشكلتي ليست في اللغة، ولكن في التبعية. لا أود أنْ أكتب يوماً باللغة الفرنسية، لأنّ شعور التبعية والخنوع والخضوع، يرافقني طوال حياتي ما دمتُ أكتب بلغة القوم الذين أسالوا دم قومي، وحاولوا عبر السنين تغيير معتقدي، وطمس هويتي الأصلية، وتمزيق الأرض والإنسان.

وبالرغم من كل ذلك، وحتى تكون آرائنا أكثر تجريداً وإنصافاً، ينبغي أن لا نخلط بين الاستعمار واللغة. نحن نُدين الاستعمار، لكن لا يجب أنْ نُدين اللغة. الاستعمار فعل شرير، أما اللغة فوسيلة تواصل يملكها الجميع، ولا تفيد فيها الأصالة أو عدمها. فنحن نعبر بها عن هويتنا الإفريقية الخالصة، بعيداً عن أيّ شوائب استعمارية.

** لماذا كتبتَ باللغة العربية، هل كنتَ تبحث عن اعتراف وتواجد على الساحة الثقافية التي يطلق عليها “عربية” أم أنكَ تكن حبا لهذه اللغة التي برعْتَ فيها؟

– الكتابة بأي لغة ليس قرارا وإنما اختيارا. أكتب بالعربية لأنها لغتي، ولغة أمي، مثل أي عربي في مصر أو العراق أو الإمارات. أكنُّ لها الحب، وأتعامل معها كما لو أنها مقطوعة موسيقية مبجّلة، أو اعتقاد عظيم. أو كأغنية تمر على الشوارع فتلوّنها. فالعربية بالنسبة لي ليست لغة عبور، أتخلى عنها في أول سانحة. كيف يمكنني نفيها وقد عمّرتْ بداخلي، حتى أصبتُ بلوثتها. فهي بوصلة وأيقونة وأشياء عدّة. لا أبحثُ عبرها عن اعتراف من الآخرين، طالما اعترافي بها نابع من أعماق قلبي، متأصّل، وشديد الغور.

يكفي أنني أحكي وأقزّم غربتي بها. هذا هو الشعور الذي يراودني، وهو نفسه الشعور الذي زايلني عند ما اكتشفتُ بأنني حكاّء. أما ما يستتبع ذلك من اعتراف أو إشادة، أو احتواء، فهو مكمّل للعملية الإبداعية، التي تحتاج إلى التضافر، تعويضاً عن الإخفاقات الذاتية والخيبات الصغيرة والكبيرة، حتى لو من قوم يتكلمون رطانات أخرى، نظراً لعالمية الآداب الإنسانية.

ونحن حتى الآن، ما نزال نعيش في زاوية معتمة عن الأضواء العربية، ولا نرجو جزاء. علينا أن نواصل توغّلنا في التيه الشهيّ الذي اخترناه. علينا أن نمضي في هدوء وحكمة. ولا بأس أن نلهث ونلعق أحذية الخراب، وضنك الحياة دون شكوى. أما في الواقع – فيا للأسف- فإنّ الكتابة بلغة أخرى غير العربية، ستكون لها مكاسب، لن تتاح لمن يكتب بالعربية.

**    في رواية “سيمفونية الجنوب” حدثنا عن تلك الثنائية بين الشمال والجنوب، والتمييز بينهما والاختلاف الشديد؟

–  تقول الرواية، أنّ هناك دائما جنوب وشمال وراءهما قصة، وهذا صحيح إلى حد ما. لكنني في هذا النص، حاولتُ أن “اختلق” قصة واحدة، تربط الشمال والجنوب معاً. بمعنى إيجاد سبل غير تقليدية لتوافق العالمين المتنافرين، وربما المتناحرين، إن صح التعبير، أيّ العثور على أوجه التشابه، أكثر من رؤية المتضادات التي من الممكن أن تكون السبب في هذه العلاقة المضطربة، وغير الوديّة.

اشتغلت الرواية على هذه الثنائية، لتكون مكمّلة لثنائية العداء المستفحل بين العالمين. والمستفحل أيضا بين رجل شمالي، وآخر جنوبي، بين شمال صحراوي قاحل وقاس، وجنوب أكثر جمالا روعة واخضرارا. بين شمال يشهد ثورات وحروب ونزاعات وموت ودم وعطش، وجنوب مسالم آمِن. بين شمال مسلم، وجنوب مسيحي…إلخ، وغير ذلك من الثنائيات والمفارقات. ولكن كيف يمكن ضم كل هذه المثالب والميزات وغربلتها من أجل إيجاد شيء مشترك، ومن أجل بناء دولة متكاملة الأركان، أكثر استقرارا، وأكثر تعايشا؟ هذا هو السؤال الذي اشتغلت عليه فكرة الرواية.

**    في رواية “سيمفونية الجنوب” هل عايشت الجنوب بجماله وسحر طبيعته، وهل تلك التفاصيل التي تشبه الحياة البدائية للإنسان موجودة بالفعل في جنوب تشاد؟

–  الرواية ليست خيالا وليست واقعاً أيضا. إنها الخيال والواقع معا. من قرأ الرواية ولم ير الجنوب، لربما ظنّ أنّ العمل كله قائم على فكرة البدائية، وأنّ من كتبه حاول استدعاء التواريخ القديمة لحياة الناس وكيف كانت ومن ثم تقمّصها في العمل. ولكن الحقيقة هي أن هذا السحر والطبيعة الخلاّبة موجودة بالفعل. وهذا ينطبق أيضا على الإنسان وبدائيته وسلوكه وبراءته، ونمط حياته الطافحة بالموسيقى الصاخبة.

قلتُ مرة في حوار، أنني كتبتُ هذا النص لأجل التعافي الخاص بي، وأنني قد عشتُ ورأيتُ كم كان هذا مفيدا لنفسي ولروحي، وتجربتي الكتابية. وهذا صحيح تماما. فما عشته عن الجنوب داخل أجزاء الرواية الخمسة لم أعشه في أي بقعة من العالم.

** في رواية “سيمفونية الجنوب” هل رصدتَ التمييز العنصري والديني والعرقي لكي تكتب عن السلام والتعايش الإنساني وإمكانية التصالح بغض النظر عن محاولات السلطة في التفريق بين الشعوب؟

–   من الواضح أنّ الشعوب كلما تجاوزت مسألة التمييز العنصري، كلما أصبحت إمكانية العيش ممكنة. نحن نعاني من هذا التمييز على أوسع نطاق. في العمل وفي أثناء التوظيف، وحتى في الزواج والعلاقات الإنسانية سواء بين الرجل والرجل أو المرأة والرجل. الأمر معقد جداً حتى بين الشماليين أنفسهم، رغم الدين واللغة التي تجمعهم، فكيف يكون الأمر مع الجنوبيين، الذين يختلفون عنهم في العقيدة واللغة والملامح؟

أعرف أن الإجابة على هذا السؤال صعبة للغاية، ولكن الأمر يستحق المحاولة. هناك إمكانية لذلك. ثمة الكثير من التقاربات، وثمة العديد من الأشياء الجميلة المشتركة بين سائر الإثنيات. وما دام أن السلطة لا تسعى إلى ردم تلك الهُوّة القائمة بين مئات الإثنيات، فعلينا نحن كمصلحين أو تنويريين، أو على الأقل كمواطنين، نعي جيداً أبعاد المسألة، أن نعمل من أجل العثور على يجمعنا، وإدراك ما يفرّقنا، وأين يكمن السلام الكبير المنشود الذي نبحث عنه.

**    ما تقييمك لحال الثقافة في دولة تشاد؟

–  حال الثقافة في بلدي كحالها في سائر البلدان المتخلّفة. وإن كان الجانب الفرانكفوني حاله أفضل من حالنا في الجانب “العربفوني”، حيث لديهم دور نشر ومكتبات جيدة، ودعم من فرنسا والمنظمات الفرانكفونية، فضلا عن الاهتمام الذي توليه الدولة لهذا الجانب. بينما نفتقد نحن إلى كل هذه المؤسسات. كما أن الأدب، وأعني بالأدب هنا السرد العربي، حديث الولادة نسبيا.

**    حدثنا عن روايتك الأولى؟

–  تحمل روايتي الأولى عنوان “رماد الجذور”. وهي نص طويل، بدأ في الريف وانتهى في المدينة. يتحدث عن ثورات وحروب ثورية، حدثت خلال ثلاثة عقود أو أكثر. ما عانيته أثناء وبعد كتابتها، مهّد إلى ولادة سردية “سيمفونية الجنوب”، بشكل لا يمكن أن يكون على هذا النحو، لو لم يكن النص الأول بهذا الحجم، وبهذه المعاناة. فإصدار باكورة الأعمال عند الناشر العربي ليس بالأمر الهيّن، ويتطلب دفع فاتورة كبيرة من الخزينة المالية للكاتب. هذا إذا كانت هناك خزينة أصلا. الأمر يثير السخرية أليس كذلك؟

** هل تحلم بأن تعرف في دول الغرب وتترجم أعمالك على غرار بعض الكتاب الأفارقة؟

–   حلم كل كاتب أن تترجم أعماله، وأن تكون متاحة في لغات عالمية غير لغته الأصلية. حتى وإن لم يصرّح، أو ادعى غير ذلك. فما بالك إذا كان هذا الكاتب إفريقيا؟ وإذا كان هذا الكاتب يكتب بالعربية على وجه الخصوص؟

**    هل تتابع حركة الثقافة في البلدان التي تسمى “عربية”؟

–  بالتأكيد، أتابع الحركة الثقافية مثل أيّ كاتب عربي. فنحن نذهب حيث هوانا العربي كالعادة. الفرانكفوني عندنا يفكر ويحلم بالغرب، أما نحن فنفكر ونحمل بالشرق العربي. أليست هذه مفارقة مضحكة؟ مفارقة تجعلنا نطرح دوما سؤال “من نحن”؟

** لماذا في رأيك هناك ندرة في تواجد الأدب الإفريقي وقراءته على مستوى الساحة “العربية”؟

–  هذا يرجع إلى قلة الترجمة العربية بالمجمل. سنوياً تصدر مئات وآلاف الكتب في إفريقيا، فكيف يواكب العرب هذا الإنتاج، إذا لم تكن هناك مشاريع ترجمة تسابق هذا التدفّق؟ هناك القليل من الترجمات عن كتّاب من نيجيريا وجنوب إفريقيا والسنغال والصومال والكونغو، وهي وجوه أدبية عددها أقل من أصابع اليد العشرة، فكيف يمكنهم معرفة الآداب الغزيرة، لكل بلدان وسط وغرب وشرق إفريقيا، إذا كانت الترجمة شيء ثانوي في المشروع السردي العربي؟

إذا أردنا الواقعية السحرية والطبيعة والأصالة، فلن نجدها في أمريكا الجنوبية اليوم، وإنما في أدغال إفريقيا غير المطروقة أبدا.

**    هل كتبتَ الشعر وكيف تم استقرارك على الكتابة في مجال السرد الروائي؟

–  بدايتي كانت شعرية بامتياز. بدأته منذ الصف الأول الثانوي وأنهيته مع المرحلة الجامعية، حيث بدأ النثر يحتل الصدارة ويعزز تفوّقه على الموهبة الشعرية التي أصبحتْ أقل وميضاً وقتئذٍ. لكنه أفادني في الكتابة النثرية أولا ومن ثم السردية تاليا. وبعد سنوات قليلة من طرقي لباب السرد، كنتُ قد ودّعتُ الشعر نهائيا، اللهم إلا من أجل السماع والاستمتاع. وما يزال بعض الأساتذة والمعارف القدامى ينعتونني بالشاعر إذا ما التقينا في بعض المناسبات، وكنتُ أضحك وأقول في سري، الآن لم أعد شاعرا، وإنما أصبحتُ من أهل الشعير. فالإنسان لا يكون إلا شاعراُ أو شويعر، أو من أصحاب الشعير.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة