24 يناير، 2025 10:59 م

هلوسات الوسواس القهري في “رجال وكلاب” للروائي مصطفى لغتيري

هلوسات الوسواس القهري في “رجال وكلاب” للروائي مصطفى لغتيري

 

كتب: الدكتور الهادي الهروي

جاء في رواية  “رجال وكلاب” للروائي مصطفى لغتيري دعوة السارد البطل “علال”  القراء مشاركته في حل مشاكله النفسية والاجتماعية وتتبع اعترافاته ودعوتهم للقيام بنفس المصارحة عن أمراضهم المختبئة في بؤرة لا شعورهم، ومحاولة التحرر من مكبوتات لا وعيهم. يقول السارد: “…أيها القارئ المفترض، لِمَ لا تقم بنفس المهمة؟ اعرف جيدا أن لا أحد بمنأى عن الأمراض النفسية، تأمل نفسك جيدا لترسم أمام عينيك أكثر من علامات استفهام،  إذن بادرْ إلى الوقوف أمام نفسك وخذْ قلما وورقا وابدأ في سرد تفاصيل حياتك. أنصحك بأن تتخلى عن سلبياتك…واجهْ نفسك…فكم من اللعنات تطاردنا، فلم لا نطاردها.” فلعلنا كُلنا حاملين للشر(Nous Sommes tous porteurs du mal).

كانت البداية بهلوسة  انتابت علال، السارد الرئيسي، شَرَدَتْ به بعيدا عن الواقع حيث توهم رجلان يقتادان  صاحب  محل اعتاد التبضع منه إلى مكان مجهول دون معرفة هوية الرجلين.. ثم ظهور الرجل صاحب الحل سائقا لسيارة الأجرة التي استأجرها علال لنقله  إلى مركز الشرطة للتبليغ عن اختفاء الرجل، إلا أنه وُوجِهَ باستهزاء من طرف الشرطي، مما جعله يحس بالضآلة  والنكوص والحقارة. وعند عودته من مركز الشرطة عاد إلى المحل فوجد صاحبه يقعد مكانه المعتاد. هنا يصرح علال بأن حالته هاته  ليست الوحيدة بل تتكرر بين الفينة والأخرى.

بناء  على ذلك، يبدو لي أن الكاتب يطرح إشكالية: “ما سبب الارتجاف الفكري والخبال الذي يعاني منه الكثير من الناس ممثلين في علال والسبيل إلى تشخيص الهلوسة التي تجعلهم يحسون بنوع من الحيرة والضيق؟ وما مبرر أزماتهم النفسية التي تتبدى أعراضها عبر علال  في مسار السرد الروائي “رجال وكلاب “.

تجليات  الهلوسة في النص الروائي..

دافع نفسي عنيف انبنت عليه الرواية برمتها، فالأحداث والأزمات تتناسل وتتدحرج ككرة الثلج  من مرض الجد وتقمصه للكلب أو تبنيه  للنزعة الكلبية أو التصاق النزعة الكلبية به (ليس بالمعنى الفلسفي) حيث ألصق به لقب ” بن الكلب” فصارت عائلته “بني كلبون”. كان هذا اللقب السيئ الذي اشتهر به الأب  وتم التشهير به  سببا في هجرته “للدوار”(القرية)  نحو هامش مدينة الدار  البيضاء، حيث تنتشر معامل أثرياء الفاسيين وغيرهم، أولئك الذين استفادوا من ملكيات المعمرين واستحوذوا على ما خلفوه من ثروات إبان  فترة المغربة. من حسن حظ والد علال أن وجد عملا في معمل الفاسي فتحسنت حاله وتغير نمط عيشه فزوجه الفاسي بإحدى عاملاته  وانجبا ابنتهما الأولى وتلاها علال الذي حمل اسم جده من أمه.       مرضت عمته بالخبل والصرع والزهايمر وتكفلت بها أمه حيث طافت بها، من دون جدوى، أضرحة الأولياء وبيوت الرقاة والمشعوذين.

ولما وضعت علال خافت  الأم على رضيعها و توجست من ربيبتها أذى بطفلها،  فحثت الزوج على حمل أخته إلى “بويا عمر” حيث ستهمل هناك إلى نهايتها. كَبُرَ الراوي علال، ونمى معه الشعور بالذنب والمسؤولية على وفاة عمته، وتفاقمت أزماته النفسية،  وبدأ يستسلم، على إثر ذلك، لكل ما يرد على ذهنه من أفكار وخواطر وأحلام دون الاهتمام بما تحتوي عليه من دلالات مقلقة أو مخجلة. إنه يعرض ماضيه الذي كون شخصيته الانعزالية المحرومة من امتلاك أي شيء و”اكتفائه بما يمتلكه الناس، بل يعوض ما لا يمتلكه في الحقيقة  بامتلاكه في الأحلام”(ص.58). ومن ضخامة الحرمان، شعوره بعدم جدواه بأنه شخص غير مرغوب فيه.

علال على أريكة فرويد..

يتبين  من خلال التحليل النفسي أن أحلامه ليست سوى إرضاء لرغباته وحاجاته التي لم يستطع إشباعها في عالم الواقع، مما يدفعه إلى البحث عن مكانيزمات تعويضية وآليات تنفيسية لذلك سواء في فترة طفولته أو مراهقته أو شبابه، منها: بكاؤه وصراخه والتصاقه بأمه واجتهاده ومثابرته في المدرسة رغم عنف المعلم، وطلب الحماية إبان وقت غياب أبيه، ثم انكبابه على الرسم، وممارسته العادة السرية في مرحلة مراهقته وتبعاتها، ومشاركته في الليلة الكناوية،  حيث الجذبة واستحضار أسماء الجن والعفاريت و”ميرة” وذبح التيس وتخضيب الوجوه بالدماء، ثم انحيازه إلى جماعة شباب الإخوان المسلمين وتأثره بتعاليمهم والانصراف إلى الصلاة وقراءة القرآن والسيرة النبوية، مما عمق الصراع لديه بين ضميره ونزواته وبين شهواته واحترامه لنفسه. كان الصراع النفسي قويا وجِد مؤثرا  لدرجة دَفَعَهُ إلى الاحباط والانصال عن العالم وأشياءه بما في ذلك كرهه للأنثى والانتكاس إلى عزلة وجودية مؤلمة.

وساوس معولمة..

إن طرد أبيه من العمل بسبب أزمة اقتصادية طارئة وضغوط البنك الدولي ودعوته إلى أجرأة ما سمي “إعادة الهيكلة”، ورجوع الأب إلى باديته، واستحضار صورة جده متقمصا لكلب في مكان مهجور، وشرب أبيه للكيف وضربه لأمه وحرمانه من امتلاكه جروا، ووصم اللقب السيئ، وقلة تلبية الحاجات الضرورية لأمه وإخوته، وكرهه لأشياء العالم بما في ذلك المرأة، زاد من نزيف جراحه النفسية واكتئابه وعزلته وميله إلى التحرر من كل أنواع القيود والالتزامات.

لقد كان من نتيجة هذا الوضع أن أصبح علال شخصية منقبضة منطوية متشائمة وسوداوية،  وهي الصفات التي كشف عنها بجرأة متناهية للقراء، مما جعله قادرا على تكسير العديد من الطابوهات، والبوح بالحقيقة التي  لم يستطع الناس أو الكتاب التصريح بها أو عرضها للعموم. ولعل هذا البوح يبرر أن علال ليس شخصية معتلة أو مريضة نفسيا، بل شخصية سوية  بالمتعة التي جعلتنا أحداثه نتلذذ بها وننتشي بخياله الرفيع الخلاق والمبدع لرواية متماسكة الوحدات ومتسلسلة الوقائع. رواية أجد أن نهايتها هي بدايتها وهي الأفق الذي يسمح للقارئ بكتابة  رواية نفسه.

وتستمر الروايات إلى ما لانهاية له، مادامت الأمراض النفسية والوساوس القهرية قد ذبت في البشرية لدرجة جعلتها مستحدثات الحضارة النيولبيرالية معولمة.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة