18 نوفمبر، 2024 8:53 م
Search
Close this search box.

الضيف !

خاص : بقلم – عمر طاهر :

(01)

في إسكتش لـ”ثلاثي أضواء المسرح”، يقف “الضيف أحمد” بين: “جورج” و”سمير” قائلًا: “سيداتي آنساتي”، فيقاطعه زميلاه قائلين: “سادتي”، فينظر إليهما طالبًا منهما التخلي عن شغل العيال ومنحه الفرصة ليقول الجملة كاملة. يبدأ من جديد: “سيداتي آنساتي”، فيقاطعانه من جديد: “سادتي”، فيعاتبهما مرة ثم يعنفهما مرة؛ وهما لا يتوقفان عن مقاطعته عند هذه النقطة، حتى انفجر فيهما “الضيف” قائلًا لهما الجملة التي تلخص مسيرته مع فرقة “ثلاثي أضواء المسرح”.

(02)

على باب “مسرح جامعة القاهرة”؛ حاول صديق، “فؤاد المهندس”؛ أن يُثنيه عن الدخول، قائلًا له: “أنت تفتش عن وجه جديد لمسرحيتك الكوميدية، من الصعب أن تعثر عليه في عرض جاد (الأخوة كارامازوف)”، فقال المهندس: “لن نخسر شيئًا”، وخرج من العرض وفي يده “الضيف أحمد”؛ ودفع به إلى عرضه الجديد: (أنا وهو وهي).

بعدها بسنوات كانت المذيعة، “سلوى حجازي”؛ تقدم برنامجًا قائمًا على المناقرة بين الضيوف، وكان من المفترض أن يُجالس الكاتب الكبير، “ثروت أباظة”، “فرقة ثلاثي أضواء المسرح”، وغابوا جميعًا إلا “الضيف”، وفي منتصف البرنامج سأله، “أباظة”؛ إن كانت الكوميديا ستستمر على النحو الذي يقدمه “الضيف”، (كوميديا الموقف)، أم أنها ستعود يومًا للكوميديا الإنسانية التي كان يقدمها “الريحاني” ؟.. قال “الضيف”: “كلا النوعان سهل، من الممكن لأي عمل أن يقدمه، لكن طموحي أن يكون المستقبل للكوميديا الفكرية”، ثم أكمل قائلًا: “الجمهور عندنا بيضحك لأنه شغل مخه، وعثر فيما تقوله على فكرة، عندما دارت في مخه.. ضحك”.

قال الكاتب الكبير، “مصطفى أمين”: “كان، الضيف، يزورني في مكتبي ونتحدث عن تجربة، شارلي شابلن، وكان الضيف يُحاول أن يضع يده على مفاتيح نجاحها ليكررها وكان صادقًا في ذلك”.

قال الكاتب الكبير، “صلاح حافظ”: “هناك ممثل يُشبه عازف الكمان الموهوب، عازف كمان لا يجد نوع الفن الذي يقدمه رواجًا كبيرًا، فقرر حتى يصل إلى جمهور أكبر أن يكون لاعب أكروبات في السيرك، ينتظر اللحظة التي سيكون سابحًا فيها في الهواء والأنظار كلها معلقة به، فيخرج من سترته الكمان ليقدم اللحن الذي يحبه”.

أتأمل ما قاله الكبار عن “الضيف أحمد”؛ فأكتشف أننا لم نعرفه جيدًا. رحيله في الثانية والثلاثين كان في منتصف الطريق تمامًا ما بين الأرض ولحظة إخراج الكمان المخبأ في سترته.

(03)

عاد “الثلاثي” من “الأردن” بعد أن شاركوا في حفل زفاف شقيقة الملك “حسين”.

عاد كل فرد إلى منزله فيما عدا، “الضيف”؛ الذي توجه إلى “مسرح الهوسابير”، وهناك اتصل ببقية أعضاء الفرقة صائحًا: “بروفة”. كان هو مخرج العرض الجديد: (الراجل اللي أتجوز مراته). “الضيف” عمومًا كان مخرجًا ومؤلفًا وملحنًا لإسكتشات “الثلاثي”، ومديرًا للفريق ومسرحه، وكاتبًا لسيناريو أفلامه وأفلام غيره: (“ربع دستة أشرار” لفؤاد المهندس مثلًا). كان “الضيف” صنايعي تجربة كوميدية استقرت في منطقة دافئة في وجدان “مصر”.

صاح “الضيف”: “بروفة”، فقالوا له إن الصباح رباح ولنعاود العمل غدًا، لكن “الضيف” كانت لديه فكرة بخصوص مشهد النهاية لا يمكن تأجيلها. كان مشهد النهاية يقوم على فكرة أن يرقد “الضيف أحمد” داخل تابوت.

قبل أن ترقد الشخصية التي يلعبها “الضيف” في تابوت؛ كانت آخر جملة لها: “أنا لما أموت الناس هتبتدي تتكلم عني.. أنا نكرة دلوقتِ.. لكن بكرة تعرفوا لما أموت الناس هتقول إيه”.

رفض “جورج سيدهم” الكلام الذي أضيف للشخصية؛ واعترض على “الضيف” قائلًا: “لا يا ضيف، الكلام تقيل قوي”.

قال “الضيف”: “ليه بتخافوا من الموت ؟ ده الموت علينا حق !”. قال “جورج”: “آه، علينا حق، بس مش بنقدمه للناس.. إحنا عايزين الناس تضحك”. قال “الضيف”: “أنا هاخلي الناس تشوف الضحك اللي في الموت”. وأصر “الضيف” على وجهة نظره، وانتهت البروفة وصافح زملاءه وانصرف. عندما وصل إلى منزله اتجه إلى الفراش متعبًا، وبعد قليل بدأ يشكو من ضيق في التنفس، وإزداد الألم فطلب من زوجته أن تتصل بالطبيب، وفات وقت طويل دون أن يصل، وكان الألم يزيد، فطلب “الضيف” من زوجته أن تنقله في سيارة إسعاف إلى أقرب مستشفى، وفي الطريق إلى “مستشفى العجوزة” كان قد فارق الحياة.

(04)

قال “فؤاد المهندس”: “سأكمل إخراج المسرحية بشرط أن تظهر للناس وعليها اسم المخرج الأصلي: (الضيف أحمد)”.

عند مشهد النهاية الذي كان يفترض أن يؤديه “الضيف” تذكروا كلماته الأخيرة، فأنهمرت دموع كل الموجودين، فقرروا إلغاء المشهد وتعديل النهاية. وفي ليلة العرض الأولى لم يحضر سوى 03 متفرجين. تكرر الأمر حتى أصبحت الخسارة فادحة فأغلقت المسرحية.

(05)

رسب “سمير غانم”؛ كطالب في “كلية الشرطة”، لمدة عامين متتاليين، فتم فصله. التحق بعدها بـ”كلية الزراعة”، والتقى هناك بطالبين محبين للفن، فقرر أن يكوِّن فريقًا يقدم بعض الإسكتشات الكوميدية، كان زميلاه هما: “وحيد سيف” و”عادل نصيف”، أما الأول فقد اعتذر عن عدم الاستمرار لظروف خاصة، وجاءت للثاني فرصة السفر إلى خارج “مصر” لاستكمال دراسته العليا.

اختار “جورج سيدهم” أن يترك مدينته في أقصى الصعيد؛ ليدرس الزراعة في “القاهرة”، ولمع اسمه كمحب للفن، والتقى مع “سمير غانم”، وبحثا عن “الضيف أحمد”، طالب الفلسفة؛ الذي لمع اسمه كنجم لمسرح الجامعة ممثلًا ومخرجًا.

أكتمل الفريق، وكانت البداية السهلة هي الإسكتشات، لكن “الضيف” قرر تطوير التجربة وسحبها إلى أرض المسرح. خاف صديقاه. يقول “سمير غانم” إنه كان يرى الفريق قائمًا على “الضيف” و”جورج”، لكنه لم يكن يرى نفسه مصدرًا للضحك، طلب منه “الضيف” أن يترك له نفسه قائلًا: “إنت هتبقى حاجة كبيرة”.

من عرض لآخر كان النجاح يكبر. وعندما رحل “الضيف” كان الوضع صعبًا، لا أحد يسد مكان “الضيف”، وإن كان ثمة شخص يصلح بحكم الموهبة؛ فإن سقوطه سيكون محتمًا حال وضعه في مقارنة مع “الضيف”، والوقت يمر، والخسارات تتوالى، ولا يُكمل أي عرض المدة المقررة له. فلنجرب أن يأخذ مكان “الضيف” ممثلة، فكانت، “صفاء أبوالسعود”، وبدأ النجاح يعود تدريجيًّا.

(06)

في إحدى حفلات أضواء المدينة، يقف “الضيف” بين: “جورج” و”سمير”؛ قائلًا: “سيداتي آنساتي”، فيقاطعانه قائلين: “سادتي”، فينظر إليهما ثم يبدأ من جديد: “سيداتي آنساتي”، فيقاطعانه: “سادتي”. تكرر الأمر حتى انفجر فيهما “الضيف” قائلًا لهما الجملة التي تلخص مسيرته مع “فرقة ثلاثي أضواء المسرح”: “سيبوني أقول الجملة كلها لوحدي لو سمحتوا.. أنا جاي أقول الجملة دي بس.. أنا جاي أقدمكم وماشي وانتوا اللي هتشتغلوا، أنا ما عنديش وقت”.

***

هامش :

(إلى توأم الروح وزميل العمر الفنان الضيف أحمد، لا نملك تجاه مشيئة الله سوى أن نقول: اللهم إنك أعطيت وأخذت، ومنحت وسلبت، وحكمت وقضيت، فأفرغ علينا صبرًا نستعين به على ما قدرت).

سمير غانم – جورج سيدهم

نص النعي الذي نُشر في الأهرام (نيسان) إبريل 1970.

***

من كتاب (صنايعية مصر)

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة