كثيرة هي الأفكار المبدعة والتصورات النبوئية التي قمعت نزعتها العقلانية وسفّهت نظرتها الواقعية وشوّهت دلالاتها الأخلاقية وطمست قيمتها الإنسانية وحجبت حكمتها التاريخية ، وحيل بينها وبين معطيات الواقع العربي وتداعيات التجربة القومية . ليس لأنها تبثّ الفساد في العلاقات وتفتّ العضد في الارادات وتثير الريبة في الذهنيات – كما أشيع عنها وحولها في الغالب – وإنما للحدّ من قدرتها على إيقاظ النائمين والمنومين ، وسلطانها على تحفيز العاجزين والخاملين ، وتأثيرها على عزيمة الخائفين والمترددين . وهكذا فقد خضعت الحكمة الميكافللية ، شانها في ذلك شأن العديد من الأفكار المتمردة على اليقينيات التقليدية والقناعات المنمطة ، إلى سلسلة من حملات التشهير المغرض والتحريف المتعمد ، وحملها على قول ما لم تقله وسوقها لتبني ما لم تتبناه واستدراجها للانخراط في مناقبيات لم تكن تقصدها . بحيث إن شعوب العالم المنتهك في حقوقه والمطعون في شرعيته ، لم تعرف – والأحرى لم يكن يراد لها أن تعرف – سوى ذلك المبدأ المشهور (الغاية تبرر الوسيلة) الذي ليس هناك مبدأ يضارعه في سوء السمعة وقلة التوقير ، بعد أن أخضعه الخطاب الغربي لعمليات التلاعب في مضامينه والعبث في مقاصده ، للحدّ الذي أسقطت عنه ضروراته السياسية وانتزعت منه دلالاته الواقعية وجرّد بالتالي من حمولاته التاريخية . دون أن يشفع بتبريرات منطقية أو مسوغات أخلاقية توضح ؛ انه تحت أية ظروف سياسية وضمن أية شروط اجتماعية استوحى (ميكافللي) ذلك المبدأ المعياري ليجعله مهماز لتفكيره وقاعدة لسلوكه ؟! . فهل أعطيت شعوبنا العربية الفرصة ، سواء بإيعاز من قبل المستعمرين أو بمبادرة من قبل المستتبعين ، لكي تتمرن على قراءة المخفي من النصوص وكشف المستور في الخطابات وفضح المسكوت عنه في الإيديولوجيات ؟؟ . فإذا كان السلوك السياسي الغربي له ما يبرره حيال هذا التعتيم والتضليل الذي أشاعه بخصوص ذلك المبدأ ، فما هو عذر النخب العربية بكل أطيافها وألوانها إزاء مجاراتها لهذا الضرب من التعمية الفكرية والتجهيل السياسي ؟؟ . ألا كان الأجدر بها أن تقرن موقفها بنوع من التساؤل حول ماهية الدوافع والبواعث التي حدت بالسياسي الفلورنسي لصياغة وإعلان مثل هذا النمط من المبادئ ؟! ألا يكون من حق الشعوب العربية على نخبها – دع عنك ساستها الذين يطيب لهم بقاء العامة تجتر خرافاتها وتزدري تخلفها – معرفة الوجه الآخر للمسألة ، لاسيما وانه يكاد أن يكون معبرا”عن حالتها ومشابها”لموقفها وقريبا”لمأساتها ؟! . باعتبار إن صاحب المبدأ كان يتوخى لبلده استتباب مظاهر الأمن السياسي والاستقرار الاجتماعي ، بعد أن كان بمثابة بؤر للصراعات ومنابع الفوضى . وكان يروم له الوحدة الجغرافية والمركزية السيادية ، بعدما كان مثالا”للتشتت المناطقي والتمزق الإقليمي بين القادة والأمراء ورجال الدين . وكان يريد له القوة العسكرية والكرامة الوطنية ، بعدما كان موزع الولاءات ومقسم الانتماءات يحكمه الغزاة وتذود عنه المرتزقة . وكان يسعى لتطهير مؤسساته وتقويم سلطاته وعقلنة خياراته ، بعدما كانت تفسده الدسائس وتنخره المؤامرات . والواقع إننا لا نعتزم هنا تقديم مسرد تاريخي نستعرض من خلاله مناقب هذا الداهية السياسي أو مثالبه ، بحيث نستهجن كل ما أشيع عنه ونسب إليه من أوزار وآثام كأن يقال إن (( موسوليني اعتبر مذهب ميكافللي بصدد الحكم الاستبدادي (حيا”اليوم بعد أربعة قرون ) ، وبلغ تمجيد النازيين والفاشيين لميكافللي حدّ إن هتلر كان يضع كتابه (الأمير) إلى جانبه في مكتبه ، وحسب ما يقال فانه كان يعيد قراءة قسم منه قبل النوم في كل ليلة . أما موسوليني فقد كتب رسالة عن (الأمير) نال بها درجة الدكتوراه ، وهو كان يعتبر (الأمير) ملازم رجل الحكم))(1) . في حين ارتأى (فولتير) انه من الواجب مواجهة ((سموم ميكافللي المنتشرة اليوم بين الناس كثيرا”بحيث من واجبنا نحن أن نقي الناس منها))(2) من جهة . أو أن نمتدح أعماله ونغدق عليها تعابير التقريظ والتبجيل ، مثلما اعتبرها صاحب العقد الاجتماعي (روسو) حين وجد إن ميكافللي (( كان يتظاهر بإعطاء الدروس للملوك بينما كان يعطي دروسا”عظيمة للشعوب ))(3) . أو كما وصف (ماركس) برسالته إلى رفيقه (انجلس) كتاب الأمير بأنه (مؤلف رفيع) ، وبأن صاحبه ((واحدا” من الذين بدأوا ينظرون إلى الدولة بعين إنسان ويستخلصون قوانينها من العقل والتجربة ، لا من اللاهوت ))(4) من جهة أخرى . بقدر ما نحاول استخلاصا” للعبرة التاريخية واستجلاءا”للموقف السياسي التي أشتمل عليهما المبدأ الميكافللي ، في ضوء شروط التاريخ وظروف الجغرافيا وأوضاع الاجتماع ، التي حتمت أن يكون بهذا التجرد الأخلاقي وتلك النزعة البرغماتية . بحيث إن طبيعة الحكم / التقييم الذي ينبغي أن نصدره حياله سيكون مرهونا”بدلالة تلك الشروط والظروف والأوضاع ، وليس بناء على تقييمات ذاتية أو تخمينات افتراضية أو مسبقات إيديولوجية ، هذا أولا”. وثانيا”، إجراء مقاربة واقعية تتعلق بإمكانية استلهام الحكام العرب للعبرة التي يشي بها والدرس الذي يحض عليه ، ليس من حيث المبدأ ذاته كموقف أخلاقي يفتقر للأبعاد المناقبية والإنسانية ، التي حظيت بهذا التأكيد المتواصل من لدن جهات المعمورة الأربع ، وإنما للدواعي الوطنية والبواعث القومية التي حملت صاحبه على صياغته بهذا الشكل العاري عن المبادئ والخالي من العواطف والقاسي في العلاقات . فهل هناك من ينكر إن الأوضاع التي يمر بها عالمنا العربي ، تكاد تحمل ذات البصمات التي وصفها ميكافللي وهو يستعرض ظروف بلاده ويستصرخ ضمير سراة قومه ؟ ؛ إن من حيث افتقارها للوحدة السياسية – لسنا طوبائيين لنقول الجغرافية – ، أو من حيث فضاضة الاستباحة لسيادة الأوطان وانتهاك لحقوق الإنسان ، أو من حيث احتلال أقاليمها الجغرافية وارتهان مصائرها التاريخية ونهب ثرواتها الوطنية من قبل الجيوش والشركات الأجنبية ، أو من حيث تبعية بعض حكامها واستتباع بعض زعمائها للقوى الخارجية وانخراطهم في مخططات هذا الجانب أو ذاك ، على حساب مصالح أقطارهم ومستقبل أجيالهم . فلماذا لا تكون غيرة العرب على أوطانهم بقدر غيرة صاحب المبدأ الميكافللي على وطنه ؟! ، ولماذا لا يكون حرص الحكومات العربية على مصالحهم القومية بقدر حرص صائغ البرغماتية الميكافللية على مصالح قومه ؟! بحيث أجاز كل السبل وبرر كل الوسائل ، التي تفضي إلى الوحدة القومية لبلاده ، وتعزز الكرامة الوطنية لحكومته ، وتنمي القوة الإرادية لجيشه . ذلك لأنه أدرك بحسه الوطني وذكائه السياسي إن ضواري العالم الخارجي لن تهاب ايطاليا وهي مجزأة ، ولن ترحم شعبها وهي مبعثرة ، ولن تحترم تاريخها وهي مشتتة ، ولن تترك فرصة دون غزوها واستباحتها وهي تفتقر للسياسة الحازمة والجيش القوي . فهل يا ترى نستوعب درس الحكمة الميكافللية ونستلهم عظتها المجانية ، بعد إن استخف بقدرتنا القاصي والداني ، واشمأز من مواقفنا الصديق والعدو واستطمع بتخاذلنا القوي والضعيف ؟؟!! .