عندما بويع عثمان رضي الله عنه بالخلافة قام في الناس خطيباً، فأعلن عن منهجه السياسي مبيناً أنه سيتقيد بالكتاب والسنة وسيرة الشيخين، كما أشار في خطبته إلى أنه سيسوس الناس بالحلم والحكمة إلا فيما استوجبوه من الحدود، ثم حذرهم من الركون إلى الدنيا والافتتان بحطامها خوفاً من التنافس، والتباغض، والتحاسد بينهم، مما يفضي بالأمة إلى الفرقة والخلاف، وكأن عثمان رضي الله عنه ينظر وراء الحجب ببصيرته النفاذة إلى ما سيحدث في هذه الأمة من الفتن بسبب الأهواء وتهالك الناس بعدما بويع (عثمان بن عفان، الصلابي ص 70)، فقال: أما بعد، فإني كُلفت وقد قبلت، ألا وإني متبع ولست بمبتدع، ألا وإن لكم علي بعد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: اتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم، وسـن أهـل الخيـر فيما تسـنوا عن مـلاء، والكف عنـكم إلا فيمـا استوجبتم العقوبـة، وإن الدنيا خضـرة وقد شـهيت إلى النـاس، ومـال إليها كثير منهم، فلا تركنـوا إلى الدنيـا، ولا تثقوا بها فإنها ليست بثقة، واعلموا أنها غير تاركة إلا من تركها.(تاريخ الطبري، 5 / 443)
أ ـ أول كتاب كتبه عثمان إلى جميع ولاته:
أما بعد، فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة ولم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتهم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء، ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين فيما عليهم فتعطوهم مالهم، وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة، فتعطوهم الذي لهم، وتأخذوهم بالذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون، فاستفتحوا عليهم بالوفاء.
والملاحظ أن عثمان رضي الله عنه أكد في هذا الكتاب الموجه إلى ولاته في الأمصار واجبهم نحو الرعية، وعرّفهم: أن مهمتهم ليست هي جمع المال، وإنما تتمثل في رعاية مصالح الناس، ولأجل ذلك بيّن السياسة التي يسوسون بها الأمة، وهي أخذ الناس بما عليهم من الواجبات، وإعطاؤهم حقوقهم، فإذا كانوا كذلك صلحت الأمة، وإذا انقلبوا جباة ليس همهم إلا جمع المال انقطع الحياء، وفقدت الأمانة والوفاء. (عثمان بن عفان، للصلابي ص 84)
لقد كان في كتاب عثمان للولاة التركيز على قيم العدل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بإعطاء ذوي الحقوق حقوقهم، وأخذ ما عليهم، وإعلاء شأن مبدأ الرعاية السياسية لا الجباية وتكثير الأموال.
ونبه على ما سيكون عند تغيير الولاة من رعاة إلى جباة، بأن ذلك سبب في تقلص مكارم الأخلاق التي مثل لها بالحياء والأمانة والوفاء، وذلك أن بين الراعي والرعية خيطاً سامياً من العلاقات المتينة، ويؤكده ويثبته اتفاق الجميع على هدف واحد، وهو ابتغاء وجه الله تعالى، فالوالي يسعى لهذا الهدف بما يقدمه لإمامه من طاعة وولاء وأمانة ووفاء، ويبقى خُلقُ الحياء الذي أشار إليه عثمان يُظل الجميع، فيمنعهم من ارتكاب ما يستقبح، أو التعرض لجرح المشاعر، والإيقاع في الحرج، ثم يوصي عثمان ولاته بالعدل في الرعية، وذلك بأخذ ما عليهم من الحقوق وبذل ما لهم من ذلك، ويشير إلى نقطة مهمة وهي أن الوفاء بالعهود من أهم أسباب الفتح والنصر على الأعداء، وقد بيّن التاريخ أثر هذا الخُلق الرفيع في تفوق المسلمين الإداري والحربي. (التاريخ الإسلامي، مواقف وعبر، د. عبد العزيز الحميدي، 12 / 369).
ب ـ كتابه إلى قادة الجنود:
وكان أول كتاب كتبه إلى قادة الأجناد في الأقاليم: أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل كان على ملأ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغيّر الله بكم، ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون، فإني أنظر فيما ألزمني الله النظر فيه، والقيام عليه.
وفي هذا الكتاب لفت النظر إلى أن الأمور لن تتغير بتغير الخليفة؛ لأن الخلفاء ومن دونهم من الولاة يسيرون على خط واحد، وهو القيام بمهمة تطبيق الإسلام في واقع الحياة، وقوله: «وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل كان على ملأ منا» إشارة إلى أن حكم أولئك الخلفاء يقوم على الشورى، وذلك يترتب عليه أن
جميع القضايا المهمة تكون معلومة بتفاصيلها عند أهل الحل والعقد، فإذا ذهب الحاكم وخلفه حاكم اخر سار على المنهج نفسه لوضوح الهدف لدى الجميع، وقوله: «ولا تغيّروا فيغيّر الله بكم» وعيٌ لسنن الله تعالى في هذا الكون، فمعية الله جل وعلا لأوليائه بالتوفيق والحماية والنصر مشروطة بلزومهم شريعته، واستسلامهم لأمره، فإذا تغيّروا في ذلك غيّر الله ما بهم، واستبدل بهم غيرهم في الهيمنة والتمكين. (عثمان بن عفان، للصلابي ص 85)
ج ـ كتابه إلى عمّال الخراج:
وكان أول كتاب كتبه إلى عمال الخراج: أما بعد، فإن الله خلق الخلق بالحق فلا يقبل إلا الحق، خذوا الحق وأعطوا الحق به، والأمانة الأمانة قوموا عليها، ولا تكونوا أول من يُسلبها، فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاء الوفاء لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد، فإن الله خصم لمن ظلمهم. (تاريخ الطبري، 5 / 244).
خصّ في هذا الكتاب وزراء المال الذين يجبونه من أفراد الأمة لينفق في مصالحها العامة، فبيّن لهم أن الله لا يقبل إلا الحق، والحق قائم على الأمانة والوفاء، ثم ميّز صنفين من الرعية هما: اليتيم والمعاهد، فحضّ على التجافي عن ظلمها؛ لأن الله هو المتولي حمايتها، (عثمان بن عفان، للصلابي ص 86) ويذكرهم بأنهم إذا ظلموهم فإنهم معرضون لنقمة الله تعالى؛ لأنه خصم لمن ظلم هؤلاء المستضعفين، وفي هذا لفتة إلى جانب من جوانب عظمة الإسلام، حيث يدعو إلى
نصرة المظلومين وإن كانوا من الكفار المعاهدين. (عثمان بن عفان، للصلابي ص 86)
د ـ كتابه إلى العامة:
أما بعد، فإنكم إنما بلغتم بالاقتداء والاتباع، فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم، فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القران، فإن رسول الله (ص) قال: «الكفر في العجمة، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا».
وفي هذا الخطاب نلاحظ أن عثمان رضي الله عنه رغب عامة الأمة في الاتباع وترك التكلف والابتداع، وأنه حذرهم تغير الحال إذا اجتمعت لهم ثلاث خلال: تكامل النعم الذي يبطر النفوس، ويدفعها إلى الترف، ويصدها عن الاجتهاد والعمل، ويصرفها إلى الفراغ والكسل، حتى تفتر حيويتها، وتخور عزائمها، وبلوغ أولادها من السبايا، وقد لمست الأمة في تاريخها أثر هؤلاء في المجتمع الإسلامي من الوجهة السياسية والاجتماعية والدينية، وقراءة الأعراب والأعاجم القران، وإنما يريد عثمان بذلك ما في طبائع الأعراب من جفاء الأكباد وغلظها، فلا تبلغ هداية القرآن مكان الخير في أفئدتهم، وكذلك يريد ما في الأعاجم من أخلاق موروثة، وعقائد متأصلة، وعادات قديمة تباعد بينهم وبين سنن القرآن في الهداية، وقد ظهر أثر الأعراب في فرقة الخوارج الذين كانت كثرتهم من أولئك الجفاة، فهم كانوا أقرأ الناس للقران، وأبعدهم عن هدايته، ثم ظهر فيمن عداهم أثر الأعاجم فيما ابتدعوه من مذاهب، وتكلفوه من اراء كانت شراً على المسلمين في عقائدهم، ومنهم أكثر الفرق الضالة التي لعبت في تاريخ الإسلام أخطر دور. (عثمان بن عفان، للصلابي ص 87)
المصدر:
علي محمد الصلابي، التداول على السلطة التنفيذية، ص 158- 161.