قبل الإشارة إلى نشأة هذه المدرسة ومن هم فلاسفتها، لابد من القول أن الفلسفة الغربية المعاصرة ولاسيما الفلسفة الأوربية منها بالتحديد، قد أسهمت بنصيب وافر في ظهور مدارس وحلقات فلسفية كبرى لعبت دورها الكبير في الفكر الفلسفي العالمي، من خلال ما زودت به هذا الفكر من مناهج ورؤى وتصورت وأحكام على مستوى المعرفة والميتافيزيقا والأخلاق والمنطق والمنهج والسياسة. وأذكر منها على سبيل المثال المدرسة الوضعية المنطقية (حلقة فينا) والمدرسة الوجودية والمدرسة البراغماتية والظواهرية (الفينومينولوجية) والبنيوية والتفكيكية. وما مدرسة فرانكفورت إلا واحدة من تلكم المدارس الفلسفية الكبرى التي ظهرت في القرن العشرين وما زالت قائمة إلى يومنا هذا.
أُطلق تسمية مدرسة فرانكفورت Frankfurt School، تحديداً عام 1950، وهو ما يؤكده معظم الباحثين من غربيين وعرب ممن اهتموا بالبحث في نشأة هذه المدرسة وفلاسفتها بقولهم أن نشأتها وقيامها إنما أرتبط بهذه المدينة التي تقع في ألمانيا، وأن مؤسسيها هم أعضاء معهد الأبحاث الاجتماعية الذي تأسس في جامعة فرانكفورت عام 1923، في أعقاب تأسيس كارل جرونبرج لهذا المعهد التابع لتلك الجامعة. وعندما افتتح فليكس ويل وهو أستاذ في الاقتصاد السياسي معهد البحوث الاجتماعية، أكد ويل في خطاب الافتتاح انتماؤه إلى النظرية الماركسية، داعياً إلى ضرورة تجديدها، وقد مثلت بحسب مؤرخي الفكر الفلسفي الغربي المعاصر هذه البداية للمعهد وللمدرسة على السواء، واتسمت مرحلتها الأولى بعلاقتها المتميزة بالماركسية، وبمعهد ماركس وإنجلز بموسكو، وذلك طوال فترة العشرينيات من القرن العشرين. وبهذا يكون هذا المعهد ومن خلال مدرسة فرانكفورت الفلسفية أول مركز أبحاث ماركسي يقام في فرانكفورت.
ولكن، لم تستمر مدرسة فرانكفورت الفلسفية على توجهها هذا الذي قامت من أجله، إذ حدث ومع بداية 1931 م، أن تولى إدارة المعهد/ المدرسة الفيلسوف هوركهايمر (1895-1973)، الذي ركز على علم الاجتماع والفلسفة بدلاً من التاريخ والاقتصاد السياسي. إذ اهتمت مدرسة فرانكفورت في تلك المدة بعلم النفس وعلم النفس الاجتماعي من أجل فهم الوعي الطبقي.
وقد حدث شيء لم يكن بالحسبان ، إذ أن ظهور أدولف هتلر على سدة الحكم في ألمانيا في حقبة الثلاثينيات من القرن المنصرم، أدى إلى رحيل معظم أعضاء هذا المعهد إلى سويسرا ومنها إلى الولايات المتحدة، ليؤسسوا هناك معهد في جامعة كولومبيا في نيويورك، وهناك من يعتقد جازماً أن سبب رحيل أو هروب معظم فلاسفتها من ألمانيا أبان الحقبة الهتلرية هو بسبب انتماء بعضهم إلى الطائفة اليهودية. ولكن هذا المعهد الذي أسس في جامعة كولومبيا تم حله وتصفيته عام 1969.
عرفت مدرسة فرانكفورت في المرحلة التأسيسية توجهاً جديداً تحت مسمى النظرية النقدية، تلك النظرية التي موضوعها المركزي نقد المجتمع الحديث وتوجهاته البربرية الوحشية، فضلاً عن نقد النظرية الماركسية باعتبارها نظرية غير مطابقة وغير كافية للعمليات الاجتماعية القائمة.
ولقد استمرت مدرسة فرانكفورت بطرح آرائها الفلسفية والاجتماعية بعد الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا، إذ طرحت موضوع العقل وعودته إلى الأسطورة. وغيره من الموضوعات الفلسفية المهمة، ومنها موضوع الحداثة ونقدها، وموضوع التشيء، والفضاء العمومي والديمقراطية والمواطنة، وغيرها من الموضوعات الحيوية في الفكر الفلسفي الغربي الراهن.
أما فلاسفة مدرسة فرانكفورت، والذين أسسوا معهد العلوم الاجتماعية في هذه المدينة ، فهم: تيودور أدورنو (1903-1969م)، وماكس هوركهايمر (1895-1973)، وهربرت ماركوزة ( 1898-1979م)، وأرنست بلوخ (1885-1977م)، ووالتر بنيامين (1892-1940م)، وأريك فروم (1900-1980م)، وفرديريك بولوك (ت1970م)، أما آخر هؤلاء الفلاسفة وأكثرهم شهرة فهو يورغن هابرماس (1929-؟)، وان كان لايعد هابرماس من جيل المؤسسين لهذه المدرسة، بل من الجيل الثاني، ولكن يعد أبرز فلاسفتها اليوم على الساحة الثقافية والفلسفية الغربية والعالمية، في كتبه ومؤلفاته العديدة، فضلاً عن تلميذه أكسل هونث، الذي يلعب دوراً فاعلاً في الفكر الفلسفي الغربي الحديث في الموضوعات الفلسفية والسياسية والاجتماعية الراهنة في ذلك الفكر.
ويمكن القول: أن الفيلسوف هوركهايمر قد حدد المهام الفلسفية والمنهجية لهذه المدرسة من خلال خطاب ألقاه في محاضرته الافتتاحية بجامعة فرانكفورت عام 1931، بعنوان: حاضر الفلسفة الاجتماعية ومهام معهد البحث الاجتماعي. فضلاً عن مقاله الموسوم عن النظرية التقليدية والنظرية النقدية، إذ يميز بينهما بقوله: النظرية بالمعنى التقليدي كما ابتكرها الفيلسوف ديكارت (ت1650م)، وكما زال معمول بها في جميع ميادين العلم المتخصص، تنظم التجربة انطلاقاً من إشكالية تابعة لها، هي إشكالية إعادة إنتاج الحياة داخل المجتمع في حالته الراهنة،…، في حين النظرية النقدية للمجتمع تأخذ الناس موضوعاً بصفتهم منتجين لكلية الأشكال التي تكتسبها حياتهم في التاريخ.
ولهذا نجد هوركهايمر يحدد مهام مدرسة فرانكفورت بثلاث مهمات، هي:
1. ضرورة بلورة وعي متكامل بكل نظرية لها توجه اجتماعي، والنظر في محدداتها وما يتمحور حولها.
2. تتمثل النظرية النقدية في التحرر والانعتاق عن طريق عقلنة الواقع، أو على الأقل البحث عن العناصر العقلية في هذا الواقع ومحاولة توظيفها واستنفاذ حيويتها.
3. تتمثل النظرية النقدية في النظر إلى العقل نظرة تفكيكية حتى تتمكن من تمثل أوجهه المختلفة، وفهم الأسباب العميقة التي أدت بالعقل المعاصر إلى السقوط في براثن اللاعقل. وقد عالج هوركهايمر هذا الموضوع في كتابه أُفول العقل (كُسُوف العقل بترجمة أخرى)، مميزاً فيه بين نوعين من العقل هو العقل الأداتي البراغماتي والذي يتلخص همه الوحيد في إنتاج النجاح، وعقل موضوعي وهو عقل أصيل فعال، وأن أي نكران للعقل الأصيل يؤدي الى تراجع الأنوار وتدميرها.
والآن نشير باختصار إلى فلاسفة مدرسة فرانكفورت العقلانية النقدية، مع ذكر لبعض مؤلفاتهم ونتاجاتهم. وهم:
أولاً- تيودور أدورنو (1903-1969) – فيلسوف ألماني وأحد أبرز مؤسسي مدرسة فرانكفورت الفلسفية في عشرينيات القرن المنصرم، ولد في فرانكفورت، وهاجر الى الولايات المتحدة الأمريكية أيام النازية، ثم عاد الى فرانكفورت بعد سقوطها، من أهم أعماله ديالكتيك العقل أو جدل التنوير عام 1947م، بالاشتراك مع هوركهايمر، وقد صدرت له ترجمة عربية بقلم د. جورج كتوره، وكتابه الشخصية المستبدة 1950، وفلسفة الموسيقى الجديدة، والديالكتيك السلبي 1966،، والنظرية الجمالية 1970. ويشترك أدورنو مع هوركهايمر في أنهم يمثلون المنهج النقدي الجدلي الذي يهدف إلى توحيد النظرية بالممارسة العملية وتقديم نظرية نقدية للمجتمع تستطيع الوقوف أمام فكرة التسلط، العنف.
ثانياً- ماكس هوركهايمر (1895-1973) – فيلسوف ألماني، وزميل أدورنو في معهد البحوث الاجتماعية بمدرسة فرانكفورت الفلسفية، وثاني مدير لهذا المعهد، وهو الضامن الرئيس لهوية الحركة التاريخية والنظرية التي قامت عليها هذه المدرسة، حيث حدد توجهاتها في النظرية النقدية، وهو الاسم الذي صاغه للدلالة على مسعاها النظري.تحصل على الدكتوراه عام 1922، بأطروحته عن الفيلسوف كانت، وعنوانها مساهمة في تناقض ملكة الحكم الغائية، غادر فرانكفورت عام 1933، الى جنيف في سويسرا، كما وحصل على الجنسية الأمريكية، عاد الى ألمانيا عام 1948، وأصبح رئيساً لقسم الفلسفة ورئيساً للجامعة عام 1951-1953، من أبرز أعماله الفلسفية: جدل العقل أو جدل التنوير بالاشتراك مع أدورنو 1947، ، والنظرية التقليدية والنظرية النقدية 1970، وكسوف العقل 1947، ودراسات في الفلسفة الاجتماعية 1972، وبدايات فلسفة التاريخ البرجوازية ترجم الكتاب الى العربية من قبل محمد علي اليوسفي، بيروت 1981.
ثالثا- هربرت ماركوزة (1898-1979م)- فيلسوف ألماني تجنس أمريكيا، مشهور في الأوساط الفلسفية العالمية والعربية بخاصة، بسبب كثرة نتاجاته الفلسفية المنقولة الى العربية مع مطلع ستينيات القرن المنصرم، ويعد ماركوزة من مؤسس مدرسة فرانكفورت مع زملائه الآخرين هوركهايمر وادورنو، بعد هروبه من ألمانيا استقر نهائيا في أمريكا، نال أطروحته للدكتوراه 1932م، بإشراف هيدجر وكانت بعنوان نظرية الوجود عند هيجل أساس للفلسفة التاريخية، أو بعنوان آخر هو: علم الوجود عند هيجل وعلاقته بفلسفته عن التاريخ، وهي مترجمة للعربية، ومن أعماله الأخرى ومعظمها مترجم للعربية، وهي: العقل والثورة- هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية، وفلسفة النفي أو مذاهب رافضة 1968، والحب والحضارة أو ايروس والحضارة عام 1955،، والإنسان ذو البعد الواحد 1964، ونحو التحرر 1969، ونقد التسامح المطلق 1965، والثورة والثورة المضادة أو بعنوان آخر الثورة المضادة والتمرد 1972،، والماركسية السوفياتية 1958، والبعد الجمالي، وخمس محاضرات عن التحليل النفسي والسياسة واليوتوبيا عام 1970، ودراسات في الفلسفة النقدية 1972، عن الماركسية والوجودية وكارل بوبر والحرية والحتمية، وقد سبقت هذا النتاج لماركوزة مجموعة من الدراسات بدأت مع عام 1928، إذ صدرت له دراسة تحليلية لكتاب هيدجر عن الزمان والوجود، وفي عام 1929 صدرت له دراسة عن الفلسفة الواقعية.
رابعاً- أرنست بلوخ (1885-1977م)- فيلسوف ألماني ومن مؤسسي مدرسة فرانكفورت العقلانية النقدية، وله قراءة خاصة للفلسفة الماركسية، مثل زملائه السابقين ترك ألمانيا بعد صعود النازية للحكم، وانتقل الى سويسرا والنمسا وفرنسا وتشيكوسلوفاكيا والولايات المتحدة، من مؤلفاته الرئيسة: فكر اليوتوبيا 1918، ارث هذا الزمن 1935، بحث في سيكولوجيا الجماهير الفاشية على نحو ظاهراتي، مبدأ الأمل 1954، تمايزات في مفهوم التقدم 1957، انطولوجيا الوجود في المستقبل 1961، وحول كارل ماركس 1968، وله مؤلفات أخرى منقولة للعربية وهي فلسفة عصر النهضة، كما وله اهتمام بالفلسفة الإسلامية وقد كتب عن ابن سينا بحثاً بعنوان: ابن سينا والإرث الأرسطي.
خامساً- أريك فروم (1900-1980)- فيلسوف وعالم نفس ألماني، ولد في مدينة فرانكفورت وهاجر إلى الولايات المتحدة في عام 1934، ويمثل فروم الاتجاه النفسي التحليلي في مدرسة فرانكفورت، وهو اتجاه يقوم على مرجعيات ماركسية، ودَرَس في جامعات ألمانيا هايدلبرج وفرانكفورت وميونخ، وقد شارك فروم مدرسة فرانكفورت بدراسة حول السلطة عام 1936، لكنه أنهى علاقته بالمدرسة عام 1939، قبل أن يؤكد استقلاله النظري عنهم في كتابه الخوف من الحرية عام 1941، وقد عرف أريك فروم في العالم العربي بمؤلفاته النفسية والفلسفية منذ سبعينيات القرن المنصرم، ومن مؤلفاته، الخوف من الحرية (1942)، والإنسان من أجل ذاته، أو الإنسان بين الجوهر والمظهر 1947، والتحليل النفسي والدين 1950، واللغة المنسية 1951، والمجتمع السوي 1955. رسالة سيجموند فرويد تحليل لشخصيته وتأثيره 1959، وأزمة التحليل النفسي مجموعة مقالات عن فرويد وماركس وعلم النفس الاجتماعي 1970، وتشريح نزوع الإنسان إلى التدمير 1973. وقد تأثر فروم بكل من الفلاسفة سبينوزا وكيركجارد وماركس وفرويد وغيرهم.
سادساً- فالتر بنيامين (1892-1940م)- احد المؤسسين لمدرسة فرانكفورت الفلسفية، دون أن ينتمي لها تماماً، وقد كرس أطروحته الفلسفية لدراسة مفهوم النقد الفني في الرومانسية الألمانية، بإشراف الفيلسوف ريتشارد هربرتز، وقد اكتشف الماركسية من خلال قراءته لكتاب لوكاش الماركسية والوعي الطبقي، قدم في حياته الفكرية واحدة من أفضل الصيغ في الفكر النقدي للأدب، والتي أسست بعد ذلك الاتجاه التوليدي في أعمال لوسيان جولدمان.
سابعاً- يورغن هابرماس (1929-؟)- فيلسوف وعالم اجتماع ألماني مشهور، وهو آخر فلاسفة مدرسة فرانكفورت ومطورها، وصاحب فلسفة الفعل التواصلي، ومن أبرز المعبرين عن الاتجاه العقلاني النقدي ونقد الطابع التقني والوضعي القمعي للعقل في الممارسات الرأسمالية والاشتراكية، وقد عرف في الفكر العربي انه من ابرز رجالات الجيل الثاني في هذه المدرسة، ولد هابرماس في مدينة دوسلدورف، ودرس في جامعتها وحصل على الدكتوراه عام 1953 عن الصراع المطلق والتاريخ في فكر شلنج، زامل الفيلسوف أدورنو بجامعة فرانكفورت مساعداً من عام 1956-1959، وتقدم للحصول على دكتوراه الدولة 1961م، عن أطروحته الفضاء العمومي، كما ودّرّس في جامعات فرانكفورت وهايدلبرج أيام رئاسة قسم الفلسفة من قبل جورج كادامير 1961-1964، وما قبل هذا التاريخ وبعده ظهر النشاط الفلسفي والفكري الكبير لهذا الفيلسوف، الذي يعد ابرز فلاسفة الحداثة في القرن العشرين وما بعده، وأبرز المدافعين عنها، وقد ترجمت معظم أعماله إلى العربية وقد احتفت به المحافل الفلسفية والعلمية العربية كثيراً، وكتبت عن فلسفته وحللتها سواء أكان ذلك في المجلات العلمية أو بكتب متخصصة. وسوف نفرد لذلك بحثاً خاصاً عنه.
أما أبرز نتاجاته الفلسفية فهي: القول الفلسفي للحداثة، والحداثة وخطابها السياسي، والمعرفة والمصلحة، والعلم والتقنية كأديلوجيا، وبعد ماركس، والفلسفة الألمانية والتصوف اليهودي، ومفهوم الحداثة عند هيجل، والكتب المشار إليها نقلت الى العربية، وهناك كتب أخرى له لم تترجم الى العربية منها الفعل التواصلي 1981، والأخلاق والتواصل 1986، وفي أخلاق المحادثة 1999.
ومن فلاسفة هذه المدرسة الذين ما زالوا يقدموا نتاجهم الفكري والفلسفي إلى يومنا هذا: فرديريك بولك، وأكسل هونث، سيكَفريد كراكاور، اوتو كيرشهايمر، ليو لوفنتال، اوسكار نكت، فرانز نيومان، فرانز أوبنهايمر، الفريد شميت، الفريد زون- رتل، كارل فيتفوكَل، وأندرياس سترنهايم، وفيلكس ويل أوفاي.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن مدرسة فرانكفورت النقدية قد تعرضت الى جملة من الانتقادات على يد مجموعة من المفكرين الغربيين منهم: هنريك كَروسمان وامبريتو إيكو ومايك كَودمان.