أدت المصاعب الاقتصادية التي عانت منها اليونان تحت حكم الباسوكذ المعزولة واقعياً إلى جانب الضغوط الأوروبية، لتآكل الآمال المعقودة على الخيار الدولي
زالحياديس ذي الميل «العالم ثالثى». وهكذا تطورت اليونان بالتدريج في اتجاه الاندماج في أوروبا الجديدة، وهو اندماج قوى بدوره البرجوازية ذات الطبيعة الكومبرادورية «الكوزموبوليتية» (بالمعنى السلبي للكلمة) في هذا البلد. ونموذج هذه البرجوازية هم أصحاب أساطيل السفن (وبعضهم لهم تعاملات مريبة)، وصار الباسوك في مواجهتها، حزباً اشتراكياً عاجزاً كبقية الأحزاب الاشتراكية في أوروبا.
ومع ذلك، تبقى غصة في حلق الشعب اليوناني، تتمثل في الوضع المسيطر لتركيا في النظام الإقليمي لحلف الأطلنطي (الذي غفر لها ببساطة عدوانها على قبرص)، وكذلك عدوان حلف الأطلنطي ضد يوغسلافيا. وتصف وسائل الإعلام المسيطرة، احتجاجات الشعب اليوناني هذه على أنها نتيجة «للتضامن بين الأرثوذكس» وهذا يوفر عليها الحاجة لتحليل الواقع، أي ما يشعر به الشعب اليوناني من تناقض بين الخطاب الديمقراطي الأوروبي وسيرها على درب الولايات المتحدة المتناهي في رجعيته.
وقد حدث انقلاب مماثل في جزيرة مالطة الصغيرة، وهي بلد غريب ، لغته عربية، وديانته كاثوليكية، بعد أن استعادها النورمانديون من العرب ثم سيطر عليها فرسان مالطا (أصلاً فرسان رودس). ومازالت ذكرى الماضي قوية، حيث يسمي المالطيون الصيام الذي يسبق عيد القيامة «رمضان». وبل إن الكلمات القليلة التي اقتبسها المالطيون من اللغة الإنجليزية يقومون بتعريبها بالكامل. وكان حزب العمل (لابور بارتي) وهو حزب يساري شعبي، أكثر راديكالية من الأحزاب الاشتراكية، وله ميول شيوعية، حاصلاً على الأغلبية، ولديه بعض الأمل في تقارب حقيقي مع العالم العربي، ولعل الاحتقار الذي كان البريطانيون يعبرون عنه نحو هذا الشعب نصف العربي، وراء هذا الاتجاه. ولكن الدول العربية» بقدر كامل من التجاهل» لم تستجب لتوقعات المالطيين، الذين لم يكونوا يتذكرونهم إلا كقوم من الدرجة الثانية، يأتون في ذيل الجيوش البريطانية، الأمر الذي شجع على تغير اتجاه الريح. فهل كان من الممكن لمالطا أن تقاوم الإغراء الأوروبي؟ ففي عام 1991اختارت الأغلبية الكاثوليكية الجديدة، الانضمام لأوروبا. وفي الأغلب، سيكون مصير قبرص مشابهاً، فمرحلة الأسقف مكاريوس، صديق الاتحاد السوفييتي، وعبد الناصر، قد ولت.
حضور أوروبا فى المجال السياسي العالمي
في لحظة ما من عقدي السبعينيات والثمانينيات، كنت أعتقد أنه من الممكن قيام محور أوروبي شمالي جنوبي «حيادى» يضم السويد، وفنلندا، والنمسا، ويوغسلافيا، واليونان، وأن هذا المحور سيكون له آثار إيجابية، سواء على النواة الأوروبية الغربية، أو على بلدان الشرق. وكان هذا المحور سيدفع الأوَّل لإعادة التفكير في انتمائهم الأطلنطي، وربما سيكون له صدى إيجابي في فرنسا. ولكن مع الأسف، كان دي جول قد اختفى من المسرح، ونسي الديجوليون ببساطة تحفظات الجنرال على حلف الأطلنطي. ولعل مثل هذا المحور كان سيسهم في زيادة فرص تحول بلدان شرق أوروبا في اتجاه يسار الوسط، بدلاً من سقوطهم فيما بعد في اتجاه اليمين. ولكن هذه الصفحة قد طويت اليوم، على أي حال.
هل من الممكن اليوم توقع التشكيك في المشروع الأوروبي- الأطلنطي بحالته الراهنة، وبلورة بناء لأوروبا اجتماعية، وغير إمبريالية بالنسبة لبقية العالم؟ أعتقد ذلك، بل أعتقد أن بداية ذلك من أحد الأقطاب الأوروبية سيجد بسرعة صدى في الكثير من المجتمعات الأوروبية.
تضرب الأزمة الهيكلية لرأسمالية الاحتكارات الشيخوخة فى العالم بأسره. ولكن الدول الضعيفة (ومنها فى أوروبا: اليونان وإسبانيا والبرتغال، الى جانب دول شرق أوروبا التى لن أتناول مناقشتها فى هذا المقال)، تعانى قساوة ضرباتها اكثر من غيرها. من هنا كان صعود الحركات الشعبية الواسعة (مثل سيريزافى اليونان وبوديموس فى إسبانيا) التى ترفض وصفة التقشف الأقصي المفروض عليها من قبل سلطة الأوليجاركيات المطلقة.
بيد أن هذه الحركات ستظل عاجزة عن إنجاز التحوّل المطلوب مادام بقى الرأي العام فى البلدين المذكورين أسير أوهام المشروع الأوروبي. فيلبث التوجه فى سبيل التقدم مسدودا طالما لا يتخذ اليسار فى فرنسا وألمانيا مبادرات موازية. وفى غياب ذلك سيظل مشروع سيادة الولايات المتحدة يفعل فعله في أوروبا من خلال مساندته ألمانيا بصفتها الحليف المفضل. علما بأن البريكسيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) لا يمثل تهديدا لمشروع واشنطن، وكذلك فإن اندماج أوروبا الشرقية فى فلك برلين يمنح لألمانيا هامشا يتيح لها التواصل فى سياستها المدمّرة.
وفى هذه الظروف أرى ان الخروج من المأزق مشروط بحدوث مبادرة جسورة من قبل فرنسا. والمحتمل أنها سوف تَخلق جوا مناسبا لانقلاب الرأي فى ألمانيا. وتقع مسئولية تدشين التوجه فى تحوّل الأوضاع على فرنسا وروسيا والصين بصفة خاصة. ولذا أطرح ـ دون استبعاد جوانب الحدس فى هذا التحليل ـ أن التلاقى بين مبادرات الدول الثلاث المذكورة هو الوحيد القادر على إخراج أوروبا من تبعيتها للولايات المتحدة الأمريكية. كأن أوروبا صارت عاجزة عن استغلال قواها الاقتصادية البارزة لتكريس حضورها فى المجال السياسي العالمي والتأثير فى هيكلة مستقبل النظام العالمي. وفى غياب مبادرة فرنسية- تجر بدورها ألمانيا- فإن المعارك الحاسمة الراهنة والقادمة سوف تنحصر فى المواجهة بين واشنطن من جانب ودوّل الجنوب من الجانب الآخر.
نقلا عن الأهرام