وكالات – كتابات :
يعتقد الجميع بضرورة فرض ضرائب أكثر على الأغنياء. وتوضح هذه السطور السبب في صعوبة تحقيق ذلك، ولماذا يتجاهل الديمقراطيون الأميركيون الطريقة الأكثر وضوحًا لإنجاز ذلك، حسب ما تُقدِّم الأكاديمية، “مونيكا براساد”، أستاذة علم الاجتماع وزميلة هيئة تدريس في معهد أبحاث السياسات بجامعة “نورث وسترن”، لمقالها المنشور في مجلة (بوليتيكو) الأميركية.
تُشير الكاتبة، في مطلع مقالها؛ إلى أن الديمقراطيين في “الولايات المتحدة” تخلوا عن خطة ضريبة الأغنياء لصالح خطة أخرى في الأسابيع القليلة الماضية. وفي البداية، كان هناك اقتراح الرئيس، “جو بايدن”، بزيادة الضرائب على أرباح رأس المال الذي آلَ إلى الورثة، وقد اختفى هذا المقترح خلال فصل الصيف. ووصل مقترح ضريبة دخل المليارديرات للسيناتور الديمقراطي، “رون وايدن”، (عن ولاية أوريغون)، إلى درجة أن يُصبح خطة فعلية، لكن يبدو أنها ماتت في مهدها. أما الإصدار الأخير فهو ضريبة إضافية على أصحاب الملايين، ولكنها يمكن بسهولة أن تواجه مصير أسلافها نفسه بحلول وقت إنجاز الخطة.
لماذا يصعب فرض ضرائب على الأغنياء في أميركا ؟
توضح “براساد” أن الفكرة وراء فرض ضرائب تصاعدية فكرة بسيطة، بل وجميلة، ترتكز على ترك عجلة الرأسمالية تدور ثم حَمْل الرابحين على تعويض الخاسرين. ومن خلال رعاية مَنْ يخسرون في السوق الحرة، يضمن الفائزون أن الخاسرين لن يرغبوا في تدمير النظام. والأكثر من ذلك، أن فرض الضرائب على الأغنياء أمر يتمتع بقبول شعبي، إذ يقول أغلبية الأميركيين لمستطلعي الرأي إنهم يعتقدون أن الأغنياء لا يدفعون نصيبهم العادل من الضرائب. وقد أيَّد خبراء الاقتصاد ذلك، مشيرين إلى أن الأثرياء استفادوا بشكل غير متناسب من النمو الاقتصادي الذي شهدته العقود العديدة الماضية.
ومع ذلك؛ لا يستطيع الديمقراطيون إيجاد طريقة لتنفيذ ذلك. وهم ليسوا وحدهم في هذا الإخفاق، إذ لم تتمكن أي دولة بعد من الحصول على أموال كافية من الضرائب التصاعدية لتمويل نظام شامل من البرامج الاجتماعية. فالدول الأوروبية تُموِّل برامجها الاجتماعية السخية بفرض الضرائب على الجميع، وليس الأغنياء فقط. ونتيجةً لهذا لا تبدو البرامج الاجتماعية في تلك البلدان وكأنها أعمال خيرية أو إعادة توزيع للمال، بل إنها تُشبه التأمين، وهو ما يدفع الجميع ثمنه، والذي يستطيع الجميع الوصول إليه في أوقات الحاجة باعتباره أمرًا مستحقًا.
وتُشير الكاتبة إلى أن “الولايات المتحدة” رفضت هذا النهج الضريبي لمدة طويلة، وأصرت على فرض ضرائب تصاعدية بدلًا من ذلك. وفي مناسبات عديدة، كان اليسار الأميركي، الذي يدعم نظريًّا نظامًا اجتماعيًّا أكثر قوة، هو الذي قوَّض إنشاء القاعدة الضريبية على النمط الأوروبي اللازمة لتمويلها.
ولدى “الولايات المتحدة” عدد قليل من البرامج التي تعمل على مبدأ التأمين، مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية، وليس من قبيل المصادفة أن هذه هي أكثر برامجهم مرونة. لكن الحديث مؤخرًا كان عن إعادة توزيع المال بدلًا من التأمين؛ لأنه من الصعب عدم التفكير في أن الأثرياء، الذين استفادوا استفادة مذهلة خلال العقود العديدة الماضية، لا يجب أن يتحملوا مزيدًا من العبء الضريبي.
تاريخ طويل..
ونوَّهت “براساد” إلى أن النظر في تاريخ فرض الضرائب على الأغنياء؛ يوضح سبب صعوبة ذلك، حتى عندما تكون هناك حجة اقتصادية وأخلاقية مقنعة للقيام بذلك.
وزادت الضرائب على الأثرياء زيادة كبيرة، خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولكن بخلاف الكوارث العالمية التي أدَّت إلى خسائر كبيرة في الأرواح، لا شيء يبدو أنه سيجعل الأميركيين في حاجة مُلِحَّة تؤدي بدورها إلى إجماع واسع من الحزبين على رفع الضرائب على الأغنياء. وفي الواقع، حتى وقوع كارثة عالمية مع عدد كبير من الضحايا لا يمكن أن يُحدِث ذلك دائمًا، كما أظهرت جائحة (كوفيد-19)، لأن أسعار الفائدة المنخفضة جعلت من السهل على الحكومة الاقتراض بدلًا من رفع الضرائب على الأغنياء.
وعلى هذا؛ فقد انخفض معدل ضريبة الدخل الهامشي الأعلى على الأفراد انخفاضًا حادًّا منذ الحرب العالمية الثانية، إذ وصل الديمقراطيون إلى قناعة مفادها أن خفض الضرائب على الأثرياء يُحفز الاقتصاد، (في عهد جون كينيدي)، ثم جاء الجمهوريون إلى موقف مفاده أن العجز ليس مشكلة كبرى، (في عهد جورج دبليو بوش، وبسبب رونالد ريغان). وحتى إذا حسبت كل الثغرات في قانون الضرائب في الخمسينيات، فإن معدل الضريبة الفعلية على أعلى: 1%، أي الضرائب التي يدفعونها بالفعل، أقل كثيرًا الآن مما كانت عليه في منتصف القرن الماضي.
جهود لم تؤتِ ثمارها !
وتطرَّقت الكاتبة إلى نجاح عدد قليل من رؤساء “الولايات المتحدة” في رفع الضرائب على الأغنياء، ولكن تلك الجهود لم تؤتِ ثمارها على الصعيد السياسي. وفي ظل إدارة “بيل كلينتون”؛ ارتفع أعلى معدل ضريبي هامشي ارتفاعًا طفيفًا للغاية، في عام 1993، ولكنه لم يساعد “كلينتون”، في منتصف العام 1994.
وفي ظل حكم “باراك أوباما”، ارتفعت معدلات الضرائب على الأثرياء، في عام 2013، ثم حققت انتخابات التجديد النصفي، لعام 2014، أكبر مكاسب للجمهوريين في “مجلس الشيوخ”، منذ الثمانينيات، وفي “مجلس النواب”، منذ الثلاثينيات. ولم تكن هزائم الانتخابات النصفية ناجمة عن الزيادات الضريبية، بيد أن زيادة الضرائب على الأغنياء لم تساعد “كلينتون” أو “أوباما”. وعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي تُظهر دائمًا أن الأغلبية تؤيد فرض ضرائب على الأغنياء، إلا أنه لا يبدو أن الناس يصوتون بناءً على هذه المسألة.
وترى “براساد”؛ أن الوعي بأن فرض الضرائب على الأغنياء لا يُكسب الأصوات يجب أن يكون جزءًا مما يجعل الديمقراطيين المعتدلين حذرين. ولأن الأغنياء يستطيعون أن يدفعوا لآخرين لكي يعرفوا كيف ينتهكون روح القانون بطريقة قانونية، يتطلب الأمر إنشاء آلية إدارية معقدة للتقدم خطوة عليهم.
وكانت خطة “بايدن” لضريبة الثروة، التي تلقت دعمًا من أكثر من مئة منظمة، لتواجه تساؤلات حول مدى انتهاك الخطة للشرط الدستوري الذي يقضي بأن تكون الضرائب المباشرة متناسبة مع سكان الولاية، وكذلك كانت ستتطلب إجراءات جديدة لتقييم ثروات الناس. ومن الصعب أن نقيم الأصول كما هي، والواقع أن تقييم هذه الأصول في وسط تبادل الخصومة بين الحكومة ودافع الضرائب أمر أصعب.
خيار يُعيقه الديمقراطيون..
وتتساءل الكاتبة: في ظل غياب الحاجة الماسة أو الدعم السياسي القوي، هل هناك أي وسيلة لفرض الضرائب على الأغنياء ؟، مشيرةً إلى أن رفع الضرائب على أرباح رأس المال لا يزال خيارًا جذابًا. والتخلص من خصم الفائدة على الرهن العقاري شيء آخر. وهناك خيار واحد لا يتطلب أي إجراءات إدارية جديدة معقدة، وقد جرت تجربته بالفعل مؤخرًا، وثبت أنه يحقق نتائج طيبة، لكن الديمقراطيين هم الذين يقفون في طريق تنفيذه.
وبخلاف “كلينتون” و”أوباما”، كان الرئيس الآخر الذي نجح في زيادة الضرائب على الأغنياء؛ هو “دونالد ترامب”. وتضمن التخفيض الضريبي، لعام 2017، والذي كان في الغالب هبة للأثرياء، بندًا واحدًا رفع ضرائبهم بدلًا من ذلك، وهو سقف التخفيضات الضريبية الحكومية والمحلية، (أو ما يعرف اختصارًا بـ”SALT”). ويتفق جميع المحللين على أن هذا التخفيض هو من النمط التنازلي الصادم، ذلك أن: 9% فقط من دافعي الضرائب يستفيدون، بينما تذهب معظم الفوائد إلى الأثرياء.
لقد أراد الجمهوريون التخلص من سقف التخفيضات الضريبية الحكومية والمحلية لمدة طويلة، بحسب الكاتبة، لأنه يفيد الأثرياء في الولايات الزرقاء، (الديمقراطية)، أكثر من غيرها. وهذه هي الولايات التي تكون فيها الضرائب الحكومية والمحلية هي الأعلى. إنها مناورة سياسية رائعة، لأنها تجبر الديمقراطيين على اتخاذ قرار بين مبادئهم في فرض الضرائب على الأغنياء ورغباتهم السياسية في حماية ناخبيهم.
وفي تلك المعركة، كانت فرصة المباديء معدومة، حتى أن زعيم الأغلبية في “مجلس الشيوخ”، “تشاك شومر”؛ وتحالف من الديمقراطيين من الولايات الزرقاء طالبوا بإلغاء الحد الأعلى، الذي اقترحه “ترامب”، على الرغم من أن فوائد هذا الإلغاء ستذهب بالكامل تقريبًا إلى الخُمس الأغنى، وعلى الرغم من أن ذلك سيكون بمثابة هبة أكبر للأثرياء من التخفيض الضريبي الكامل الذي سنَّه “ترامب”.
وقالت الكاتبة إن “جو مانشين” و”كريستن سينيما”؛ هما من أثارا حفيظة التقدميين. ولكن “شومر” وحلفاءه كانوا فعالين على نحو مدمر وهاديء إلى الحد الذي لم يكن هناك كثير من الشكوى من أنهم يمارسون الضغوط على ما يرقى إلى أن يكون تخفيضًا ضريبيًّا للديمقراطيين الأثرياء. والواقع أنها كانت فعالة على نحو غير مرئي إلى الحد الذي جعل التخلص التام من الخفض ليس مطروحًا على الطاولة، على الرغم من حقيقة أن الخفض حتى مع وجود السقف يعود بالنفع على الأغنياء أكثر من غيرهم.
وفي نهاية مقالها تجيب “براساد” عن السؤال المطروح: لماذا كان من الصعب للغاية على الديمقراطيين إيجاد طريقة لفرض الضرائب على الأغنياء، قائلة: لأن هؤلاء الأغنياء يعيشون في الولايات الزرقاء.