19 ديسمبر، 2024 1:01 ص

رواد الدبلجة العربية.. حالة وجدانية لا تتكرر

رواد الدبلجة العربية.. حالة وجدانية لا تتكرر

برغم أن واقعنا ليس مثالياً إلا أن لدينا الكثير من التراث والمواهب والروافد التي كانت السبب في الغنى الثقافي الذي شهدته مجتمعاتنا، وكانت سبباً لنشر اسمها على مستوى إقليمي ودولي من البوابة الثقافية، والكثير منا قد يحب دون أن يفهم هذه التفاصيل التي قد تبدو صغيرة، لكنها كانت بالغة الأهمية وحفرت مكاناً متميزاً سيتم توثيقه وتوريثه للأجيال المقبلة..

الكارتون والأطفال والدبلجة وعالمٌ فسيح مترامي الأطراف وشريطٌ طويل من الذكريات، يخرج من العلية التي تتخذ من وجداننا مركزاً دائماً لها ولا ندري سر تعلقنا بها وحنيننا إليها، مع أننا نتوهم للوهلة الأولى أنها مجرد ذكرياتٍ متعلقة بالطفولة، لكن الموضوع أكثر جمالاً وعمقاً وصدقاً كونه متصلاً بالروح والقلب الذي كانت بهجته الوحيدة لأغلب الصغار في البلاد العربية هو هذه الرسوم المتحركة، والتي كانت تمثل البسمة والمتعة في ظل الظروف المعيشية البسيطة قبل أي تطور حتى على مستوى الإعلام المحلي في كل البلاد، فلم تكن مجرد أدوارٍ ولم تكن نصوصاً مترجمة تنتظر من يرددها باللغة العربية خلف الميكروفونات، بل كانت في الكثير من الأحيان أعمالاً ملحمية متكاملة، وقد يستغرب البعض إطلاق هذا الوصف على أعمال الرسوم المتحركة، ولكن من يعود إلى ما قبل خمسة وعشرين إلى أربعين عاماً إلى الوراء ليفتح قلبه قبل أذنيه سيفهم ما أقوله، وكانت هذه التجربة الجديدة عربياً تحظى بالإهتمام لأسبابٍ مختلفة، فهناك بلدان عربية قدمت تجارباً جميلة ومميزة على أكثر من صعيد لكنها لم تقم بإنتاج الكثير من الأعمال مثل تجربة الدبلجة المشتركة بين العراق والكويت، فكان للغة العربية رونقٌ خاص ونغمٌ متفرد سمعناه في أصوات الممثلين عبر أعمال مثل (عدنان ولينا، حكايات عالمية، ميمي الصغيرة، مغامرات سنان)، والتي حظيت بشعبيةٍ كبيرة على مستوى العالم العربي وتمنينا الإستزادة منها، وأما التجارب الأكثر بروزاً وتأثيراً فكانت في الأردن ولبنان وسوريا..

وسأبدأ بالأردن ولبنان حيث كان للدوبلاج في كلا البلدين سحرٌ ومذاق من نوع خاص جداً جداً، فالبلدان اللذان كانا يشهدان حالة من التوهج الفني والثقافي في فترات الستينات والسبعينات والثمانينات ويشهدان نهضةً إعلامية واسعة وحقيقية مقارنة بذلك التوقيت، كان للدوبلاج بالنسبة إليهما بعدٌ آخر، فكان جيل الرواد في البلدين يوليان اللغة العربية أهميةً كبيرة ويخضعون لمعايير صارمة قبل الظهور على الشاشة، وكانوا يقدمون أداءاً تمثيلياً استثنائياً بأصواتهم، مع تمكنٍ في العمل وقواعد اللغة ومخارج الحروف والنطق السليم والتنوع في الحالات وكأنها شخصيات بشرية من لحمٍ ودم، فكان كل فنان يعطي الشخصية حقها ويعيشها بكل أبعادها مما جعل هذه الأعمال تعيش معنا إلى اليوم، بل وتغلبت في الكثير من الأحيان على الأداء الصوتي في النسخة الأصلية للعمل، وكان الكثير منهم يمتلك ثقافةً فطرية ساعدت معظم من استمر من الرعيل الأول الذي بدأ المسيرة الفنية على الإنتقال إلى مرحلة الدوبلاج بسلاسة، سواءاً كان بسبب ظروف الحرب الأهلية اللبنانية في لبنان أو المتغيرات الإقليمية التي أثرت على الأردن، حيث كان هو مصدر العيش الوحيد بعد تضررٍ وتوقفٍ شبه تام للأعمال الفنية المتلفزة بعد أن كانا مقصداً من مختلف الدول العربية، مما شكل نقطة تحول في كلا البلدين نحو الدبلجة سواءاً كانت لمسلسلات الرسوم المتحركة أو حتى الأعمال الدرامية القادمة من المكسيك ودول أمريكا اللاتينية، مع التحفظ على مضمونها ولكن الحديث هنا من باب التوثيق لتلك المرحلة، وكانت الأعمال المختارة أعمالاً ناجحة بكل المقاييس، خصوصاً أن الدبلجة كانت باللغة العربية الفصحى وليست باللهجات العامية كما هو الحال في الوقت الحالي، مما جعل هذه الأعمال تصل إلى أغلب الدول الناطقة بلغة الضاد، رغم التنافس المحموم بين البلدين والذي أثرى المكتبة العربية ككل وتحول أغلبها إلى كلاسيكياتٍ لن تتكرر، جمعت الأداء والتثقيف والطرافة والتشويق والقيم الإنسانية بأسلوب ٍ مميز وراقي، وقد طبعت الكلاسيكية بمعناها الحقيقي الذي ينضوي على الأصالة والرصانة والرقي والجدية والحرفية في العمل التجربة الأردنية في الدوبلاج بشكلٍ خاص، وفي سائر الفنون بشكلٍ عام، وكان أغلب الأعمال المدبلجة مستوحىً من الأدب العالمي ويميل إلى الدراما والشحنات الوجدانية والإنسانية، ومنها (سالي، أليس في بلاد العجائب، صاحب الظل الطويل، الفتى النبيل) كما حملت تنوعاً كبيراً وقدمت برامج تعليمية وتثقيفية مدبلجة بالتعاون مع كبرى المحطات الأوروبية في خطوة لم تتكرر لاحقاً بنفس النتيجة والإتقان والمضمون على المستوى العربي، وكانت أيضاً تقدم الكثير من الأعمال الكوميدية المنوعة، إضافةً إلى تميز الشارات الغنائية لهذه الأعمال والمنجزة بحرفيةٍ عالية وبخطٍ وهويةٍ موسيقية خاصة بها بصوت الفنانة عايدة الأميركاني، ومن بعض أهم أسماء الفنانين (قمر الصفدي، ايمان هايل، رفعت النجار، داوود جلاجل،سهير فهد،هشام حمادة) وتطول القائمة مع هذه الأسماء الكبيرة، دون أن ننسى التجربة الهامة للفنانة اللبنانية مادلين طبر في الدوبلاج الأردني والتي حققت نجاحا ً باهراً، أما التجربة اللبنانية والتي حملت شخصيةً مختلفة في هذا المجال تحمل معها التجدد والشغف والطاقة وحب الحياة الذي لم تهزمه الحرب الأهلية، والتي ازدهرت بتعدد الاستوديوهات الخاصة بالدبلجة مع أصوات الكبار والعظماء حتى وإن كان من خلال دور الراوي البالغ الأهمية في الدبلجة كجزءٍ كبير من نجاح العمل ورسوخه في ذهن الطفل وبشكلٍ خاص مع صوت الفنان القدير عبدالمجيد مجذوب، فقدمت أعمالاً خالدة من حيث القصة والمضمون والأداء المفعم بالشغف، والذي انعكس في تنوع الأعمال والأنماط والشارات الغنائية لكن بنكهة لا تشبه أي بلدٍ آخر وبخبرات كبار الموسيقيين اللبنانيين، وتقاطع الكثير منها مع ظروف لبنان والمنطقة مما خلق ميلاً عاطفياً تجاهها عدا عن جودتها فعلياً كمنتجٍ فني بمواصفاتٍ عالية، ومن بعض أهم الأصوات اللبنانية (وحيد جلال، وفاء طربية،ليلى كرم،ميشال تابت،جناح فاخوري والفنان الفلسطيني محمود سعيد)، ومن بعض أهم الأعمال في لبنان (غرندايزر، مغامرات سندباد، السنافر، وادي الأمان)، مما جعل لبنان ركناً أساسياً من أركان الدبلجة في العالم العربي، ومدرسة ً مستقلة تبث الحياة والفرح ما استطاعت إليهم سبيلا..

وتأتي التجربة السورية مغايرةً تماماً لإعتباراتٍ عدة..منها أنها جاءت بعد سنواتٍ من التجارب العربية الأخرى، وكانت الحالة الفنية في سوريا وقتها في مرحلة صعودٍ تدريجي أسس لوجودها كلاعبٍ أساسي لا غنى عنه في العالم العربي على صعيد الأعمال الدرامية والمسلسلات يرفع معه المنافسة الفنية إلى مستوىً غير مسبوق، إضافةً إلى أن السواد الأعظم من الممثلين السوريين الذين قاموا بالدبلجة كانت جهودهم منصبةً عليها فقط، حيث لم نجد الفنانين السوريين الذين اعتادوا العمل في الأعمال الفنية المعتادة يخوضون غمار هذه التجربة أسوةً بما حدث في لبنان والأردن، ولم نرى أيضاً الممثلين الذين قاموا بالدبلجة في أعمال ٍ معروفة للمشاهد العادي الذي يعرف أصواتهم وأسمائهم دون معرفة ملامحهم بإستثناءاتٍ قليلة جداً، لكنها أيضاً صنعت بصمةً بعيدة عن البصمات العربية الأخرى من حيث انتقاء الأعمال أو الأداء وصولاً إلى شارات البداية والنهاية مع صوت المطربة رشا رزق، ومن بين أهم الأسماء السورية (أمل حويجة، آمنة عمر، وضاح حلوم، مجد ظاظا) من خلال أعمال مثل (الكابتن ماجد، ماوكلي فتى الأدغال، أنا وأخي، النمر المقنع) فكان لسوريا طريقها الخاص أيضاً في عالم الدوبلاج، مع الإشارة إلى بعض الاستثناءات من مصر والتي استطاعت أن تحقق نجاحاً في هذا المجال، وهما صوتا الفنانين الكبيرين عبدالرحمن أبو زهرة وأمينة رزق اللذين أديا أدوارهما بكل اقتدار، لكن من ما أخذ على هذه التجارب وجعل انتشارها محدوداً هو تأدية هذه الأعمال والتي كانت بمعظمها لصالح شركة (والت ديزني) باللهجة المصرية العامية، مما جعل الكثيرين في العالم العربي يعزفون عن متابعتها ومتابعة أطفالهم لها كونهم شعروا بأن الأعمال والدبلجة والمصطلحات غير موجهة لهم أو لثقافتهم، عكس اللغة العربية الفصحى التي كانت تجمع الجميع على امتداد العالم العربي، مما دعى الشركة بعد سنوات إلى تغيير سياستها واعتماد اللغة العربية الفصحى وتنقيح المفردات لجذب مزيدٍ من الجمهور وتلافياً لأخطاءٍ كانت في أعمالها السابقة، وفهماً منها أن ما ينطبق على أعمال البالغين لا ينطبق بالضرورة على أعمال الأطفال، خصوصاً بعد استهلاك كل شيء وجعل التميز أمراً صعباً في ظل وجود وتنوع البدائل وكلٌ حسب توجهاته وثقافته وتفكيره..

ويبقى الحكم للمشاهد الذي كبر مع هذه الأصوات وبنى ذكرياته معها عن التجارب والأعمال الأقرب إلى قلبه على تنوعها الهائل وارثها الضخم، فتميز كلٌ منها بأسلوبه الذي صنع مكانته لدى الجمهور مما أعطاها استمراريةً في ذاكرة الجيل الحالي، حين كانت اللغة العربية سيدة الحضور قبل ظهور الدبلجة باللهجات المحلية، والتي نكن لها الإحترام لكنها مؤشرٌ أيضاً على تراجع الثقافة والفكر والهوية لصالح انتاجات هشة المضمون والأداء، برغم تباين الآراء حولها حتى من صناع الأعمال الكلاسيكية والتي كانت بالفصحى، مما يجعلنا ننظر إلى هذه التجارب نظرةً مختلفة لندرك أبعادها ثقافياً واجتماعياً، ونعرف كم تغيرت الأوضاع والحياة والمواقف، وكم كانت هذه التفاصيل التي لم نلقي لها بالاً وعاملها الكثيرون بإستخفاف بالغة الأهمية، ودليل عافيةٍ في ذلك الزمن الذي نتمنى لو يعود..